من قتل ملك العراق غازي الأول وهل كانت الكويت سبباً لمقتله ؟

    

من قتل ملك العراق غازي الأول وهل كانت الكويت سبباً لمقتله ؟

          

الساعة الحادية عشر والنصف ليلاً من يوم الثلاثاء 4 نيسان 1939 بجنوب العاصمة العراقية بغداد وفي الجهة الغربية لنهر دجلة أي جانب الكرخ، حيث يقع قصري العائلة الهاشمية المالكة، وهي قصري "الزهور" المشيد عام 1934 وقصر الحارثية المشيد عام 1937 والذي أطلق عليه لاحقاً "قصر الرحاب" والقصران هما على جانبي الطريق الذاهب إلى لواء الحلة (بابل حالياً)، وتمتد بين موقعي القصرين مسافة لا تزيد عن 1750 متر. كما يفصل بين القصرين نهر صغير يسمى (نهر الخر) المتفرع من دجلة قرب الكاظمية وعليه جسر صغير ذو مسلك سيارات واحد بعرض 34 متر يسمى (جسر الخر)، شيده العثمانيون عام 1899.

   

في هذا المكان وهذه الساعة أي الحادية عشر ليلاً، كانت سيارة نوع بيوك Roadmaster من شركة جنرال موتور موديل عام 1939 صفراء اللون مصابة بأضرار نتيجة حادث اصطدام، وفي مقعد السائق غازي الأول ملك العراق فاقد الحركة مضرجاً بدمه وفي المقعد الخلفي كان خادم الملك ذو البشرة السمراء القزم عبد الله مصاب بالذهول وكسر في ذراعه.
ولتوضيح ما الذي حدث في هذه الليلة نعود إلى البداية ونسلسل الأحداث وصولاً لتلك اللية المشؤومة. ولكي تتضح الصورة أكثر نبدأ من النصف الأول للقرن العشرين وطابعه الدموي،

   

فما هل ذلك القرن إلا واندلعت الحرب العالمية الأولى التي راح ضحيتها ملايين البشر، وتغيرت على أثرها الخارطة السياسية في مختلف اقطار العالم، وفي مقدمتها الوطن العربي الذي شهدت أراضيه وقائع دموية وأحداث سياسية مفصلية وتغيرت في مضامين الحكم والسلطة.

       

وكان للأسرة الهاشمية بقيادة الشريف حسين بن عون وأبنائه وأحفاده دوراً بارزاَ في قيادة ما عرف بـ (الثورة العربية الكبرى) التي ساعدت صعود الخطاب القومي العربي، وهزيمة الأتراك العثمانيين، والتقارب مع البريطانيين، وقد أرتقى ثلاثة من أبنائه وهم "على وعبد الله وفيصل الأول" سدة الحكم في كل من سوريا والحجاز والعراق والأردن.

    

ومن احفاد الشريف حسين كان الملك غازي الأول بن فيصل الأول الذي تقلد حكم العراق في مرحلة مفصلية وخطيرة من تاريخ العراق والمنطقة العربية، فقد صار ملكاً في ريعان شبابه في الحادية والعشرين من عمره وتوفي شاباً في السابعة والعشرين من عمره، على أن وفاته كانت ولاتزال غامضة زاد في غموضها كثرة الأقاويل والشبهات، وتناولها المؤرخين بالتحليل هي وما ترتب عليها من نتائج.
ولد الملك غازي الأول في مدينة مكة المكرمة في 12 آذار1912 وهو الأبن الرابع للملك فيصل الأول من زوجته حزيمة بنت ناصر،

       

وقد جاء إلى بغداد مع والدته وشقيقاته في 5 تشرين الأول عام 1924، وتلقى ثقافته الأولية في مدارس الحجاز، ثم على يد مجموعة من الأساتذة الإنجليز في بغداد، وسافر إلى بريطانيا للالتحاق بكلية هارو لمدة سنتين عاد بعدها إلى العراق في الأول من أيلول عام 1929 ..

      

والتحق بالكلية العسكرية برقم 250 وتخرج عام 1932 برتبة ملازم ثاني وعين مرافقاً للملك فيصل الأول، وأصبح ولي العهد لوالده الملك فيصل الأول، ثم عمل نائباً للملك على العرش خلال غياب والده الأخير عن العراق في صيف 1933.

                                     

حين ارتقى غازي إلى عرش العراق بعد وفاة والده أبلغ السفير البريطاني آنذاك السير فرنسيس همفريز بأنه سينتهج سياسة والده التي اعتمدت على الصداقة والتعاون الكامل والتحالف مع بريطانيا، بيد أن الواقع كان خلاف ذلك فغازي لم يكن بالملك الذي ارادته بريطانيا، فقد كان شاباً وطنياً متحمساً وقف على مساوئ البريطانيين ووعودهم الكاذبة لجده الشريف حسين وللعرب، فنشأ على كُرههم، وكان يعرقل الحكومات العراقية الموالية لهم ويرفض التعاون المطلق مع شركة النفط البريطانية ( شركة نفط العراق) Iraq Petroleum Company (IPC) ، وعلى الرغم من أن خطواته كانت ضئيلة وضعيفة في وجه الهيمنة البريطانية فإن إعلانه المتكرر عن ضرورة قيام حكومة وطنية تخدم الشعب العراقي أولاً أعطاه شعبية في الشارع العراقي.

      

وكنتيجة لمقته لبريطانيا وسياساتها تقرب غازي من الألمان، الذين أهدوه معدات لإنشاء إذاعة جديدة جعلها في قصر الزهور قام بتنصيبها خبراء ألمان في 15 حزيران 1936، وأطلق عليها أسم "راديو قصر الزهور"، فكانت ثاني محطة إذاعية يُسمع صوتها في الوطن العربي بعد راديو القاهرة، وكان يتولى بنفسه إذاعة الأخبار والتعليقات بالتعاون مع ضباط عراقيين، وهو ما اعتبرته بريطانيا دعاية وطنية وقومية حادة، فازدادت شعبيته في الدول العربية المجاورة لاسيما سوريا والكويت والأردن، إلى الدرجة التي وافق فيها المجلس الكويتي بأغلبية عشرة نواب من أصل أربعة عشر على الوحدة مع العراق تحت حكم الملك غازي، وكان سكان الكويت آنذاك حوالي 100 ألف نسمة وكان الملك غازي يعتقد أن اقتطاعها من العراق سبب حرمانه من شواطئه البحرية على الخليج العربي، إلا من بقعة صغيرة جداً قرب مصب شط العرب، وهكذا أصبح هاجسه في كيف يعيد الكويت إلى العراق في ظل تعارض رغبته تلك مع إرادة البريطانيين المهيمنين على مقدرات العراق. الأمر الذي اعتبرته بريطانيا تهديداً لمصالحها وخططها في الشرق الأوسط. وتطرق توفيق السويدي (سياسي عراقي وأحد رؤساء الوزارات في العهد الملكي (1892 ــ 1968) في مذكراته بعنوان {نصف قرن من تاريخ العراق، والقضية العربية} قائلاً:
"أتذكر بهذا الصدد أنني عندما كنت في لندن، التقيت بالمستر بتلر وكيل وزير خارجية بريطانيا الدائم، وقد أبدى لي شكوى عنيفة من تصرفات الملك غازي فيما يتعلق بالدعاية الموجهة ضد الكويت من إذاعة قصر الزهور، وقال لي بصراحة بأن الملك غازي لا يملك القدرة على تقدير مواقفه، لبساطة تفكيره، واندفاعه وراء توجيهات من أشخاص مدسوسين عليه، وإن الملك بعمله هذا يلعب بالنار، وأخشى أن يحرق أصابعه يوماً ما". (مذكرات توفيق السويدي ـ نصف قرن من تاريخ العراق ـ ص 326).
"لقد حاول الملك غازي إعادة الكويت بالقوة، أثناء غياب رئيس الوزراء ــ نوري السعيد ــ الذي سافر إلى لندن لحضور مؤتمر حول القضية الفلسطينية في 7 شباط 1939، فقد استدعى الملك رئيس أركان الجيش الفريق حسين فوزي عند منتصف الليل، وكلفه باحتلال الكويت فوراً. كما أتصل بمتصرف البصرة داعياً إياه إلى تقديم كل التسهيلات اللازمة للجيش العراقي للعبور إلى الكويت واحتلالها. كما أستدعى الملك صباح اليوم التالي نائب رئيس الوزراء ناجي شوكت بحضور وزير الدفاع ووكيل رئيس أركان الجيش، ورئيس الديوان الملكي، وأبلغهم قراره باحتلال الكويت. لكن ناجي شوكت نصحه بالتريث ولاسيما وأن رئيس الوزراء ما زال في لندن، وأبلغه أن العملية سوف تثير للعراق مشاكل جمة مع بريطانيا والمملكة العربية السعودية وإيران، واستطاع ناجي شوكت أن يؤثر على قرار الملك غازي، وتم إرجاء تنفيذ عملية احتلال الكويت.

    

فلما عاد نوري السعيد إلى بغداد وعلم بالأمر، سارع بالاتصال بالسفير البريطاني وتداول معه عن خطط الملك غازي، وقرر الأثنان التخلص من الملك بأسرع وقت ممكن". (تاريخ الوزارات العراقية ــ الحسني ــ ت ج 5 ص76).
كانت السياسة البريطانية تميل إلى نوري السعيد الذي تقلد رئاسة الوزراء ووزارة الخارجية عدة مرات، وكان رجل الإنجليز في العراق فضلاً عن بعض أفراد الأسرة الهاشمية الذين رأوا في تصرفات غازي تهديداً لوجودهم، ومن هنا أصبح غازي موضع رصد خاص، وجاء على لسان السفير البريطاني في إحدى برقياته: "إن الملك غازي يجب أن يُسيطر عليه أو يخلع".
منذ صيف عام 1936 بعد ثلاث سنوات فقط على حكم الملك غازي كانت الوثائق البريطانية تتناول مسألة البديل الذي يمكن أن يحل محل غازي من الأسرة الهاشمية، مثل الأمير نايف بن عبد الله بن الحسين والأمير عبد الإله بن علي بن الحسين أبناء عم غازي والأمير زيد بن الحسين عم غازي. وتشير الوثائق البريطانية المعلنة حديثاً إلى وجود مراسلات خاصة بين السفير البريطاني في بغداد للفترة :(1937 ـــ 1939) موريس بيترسون والحكومة البريطانية حول ضرورة التخلص من الملك غازي ..

             

وتنصيب الأمير زيد بن الحسين بدلاً عنه بسبب وجوده كحجر عثرة أمام تنفيذ السياسة البريطانية في العراق، والذي ينعكس على الوضع في الشرق الأوسط والوطن العربي لما للملكة العراقية من وزن مؤثر في السياسة العربية والدولية في المنطقة بسبب التكوين الحديث لبعض الدول العربية وبعضها الآخر كان لا يزال يرزح تحت الاحتلال في ظل ظروف الاحتقان الدولي الناجم عن توسع الدكتاتوريات النازية والفاشية واليابانية في العالم عشية الحرب العالمية الثانية. ولم ينكر السير موريس بيترسون ذلك في مذكراته إذ قال: (أن الملك غازي يجب أن يبعد) وكان في طريقه إلى إسبانيا عندما وقع الحادث.
هكذا بدا الموقف عشية مقتل الملك غازي أن ثمة صراعاً بين اتجاهين؛ الأول يقوده الملك غازي ويؤيده عدد كبير من ضباط الجيش ورئيس الديوان الملكي رشيد عالي الكيلاني، وكلهم من الداعين للتخلص من الهيمنة البريطانية، والمطالبين بالوحدة العربية لا سيما مع الكويت وغيرها، وقد أبدى الملك غازي فوق ذلك تقارباً مع الألمان في لحظات محورية كان العداء فيها قوياً بين بريطانيا وألمانيا قبيل الحرب العالمية الثانية (أيلول 1939 ـــ أيار 1945)، وبين فريق آخر على رأسه بريطانيا ورئيس الوزراء نوري السعيد والأمير عبد الإله بن علي ابن عم الملك وأخو عالية زوجة غازي. لذلك بات بقاء الملك غازي على رأس السلطة في العراق يُثير المشكلات وأصبح يهدد مصالحها في العراق والمنطقة، فكان التخلص منه أمراً ضرورياً وحتمياً في نظر بريطانيا.
وبالعودة إلى ليلة الثلاثاء الرابع من نيسان فقد كان الملك غازي يقيم حفلاً في قصر الحارثية (قصر الرحاب) لمدعوين من أصدقائه، وعند الساعة الحادية عشرة غادر الحفلة مستصحباً معه خادمه الخاص وتوجه بسيارته إلى قصر الزهور وعند وصوله إلى القصر لم يدخل من الباب الرئيسية وإنما دخل من المدخل الخدمي للقصر والذي يؤدي إلى مبنى إذاعة قصر الزهور والمرافق الأخرى.
في ذلك الوقت كانت الأميرات يشاهدن فيلماٌ بسينما القصر المجاور للإذاعة فسمعن صوت سيارته، كان الملك قد رجع من قصر الرحاب إلى قصر الزهور بسبب موعد يتعلق بأمور تخص الإذاعة وتغيير أسطوانة كانت تبث موسيقى معينة، وكان في عجلة من أمره للرجوع إلى زواره في قصر الرحاب، وكان الملك قد شرب قليلاً من الويسكي ذو 40% الذي أعتاد على شربه في الفترة الأخيرة

   

لم يكن الملك مدمناً على الخمر ومثل هذه الكمية ليست خطرة ذهنياً ولا جسدياً، فهو طيار يشرب الكحول منذ زمن وكان يشرب كمية مقاربة منها عند وبعد قراءة نشرة الأخبار في إذاعة قصر الزهور عند الساعة 7 و45 دقيقة مساء كل يوم ولاتعيقه عن تركيزه أو قراءة نص النشرة، وبعد مرور عشرون دقيقة أي في الساعة 11.20 تحرك الملك بسيارته مسرعاً عائداً إلى قصر الحارثية (الرحاب) وليس معه سوى خادمه جالساً في المقعد الخلفي.

         

لم يكن الطريق بين القصرين ولا الجسر يسمح بالسرعة أكثر من 40 كم/ ساعة لذلك كان التنقل بينهما يحتاج إلى (4 ـــ 5) دقائق في الأيام العادية، وكان على يمين (جسر الخر) تمتد كابلات الكهرباء التي تغذي قصر الحارثية بالطاقة الكهربائية من قصر الزهور وهذه الكابلات تم مدها عام 1937 بواسطة شركة Manchester Works Electric)) على أعمدة حديدية بارتفاع 5.3 متر لحمل الكابلات بين كل عمودين مسافة 10 متر إلى قصر الحارثية. وكان القمر بدراً كاملاً والسماء ساعتها شبه صافية إلا من غيوم متفرقة غير كثيفة، مما يعني أن الرؤيا كانت جيدة.
وما هي إلا لحظات والكل يسمع صوت اصطدام سيارة الملك الرياضية الحديثة فانطفأت الكهرباء في قصر الرحاب، صوت الاصطدام وانقطاع التيار الكهربائي بالحارثية جعل أفراد الحماية والمدعوين عند الساعة الحادية عشرة والنصف يهرعون نحو السيارة ليروا أن سيارة الملك اصطدمت بعد عبورها جسر الخر الحديدي بعمود الكهرباء الخامس على يمين الطريق، كان الملك بداخلها ورأسه مدمي من الأمام والخلف والعمود فوق رأسه وقد أنثنى بفعل الاصطدام ليدخل الجزء المثني داخل السيارة بقوة ليضرب رأس الملك الخلفي ويكسره من وسطه ثم ليدخل الجزء المكسور من الجمجمة للداخل عاصراً المخ بالكامل، مع كسر الكتف الأيسر لخادمه الجالس بالمقعد الخلفي، ولتتوقف السيارة عن الحركة بعد أن ضغطت بوزنها على العمود الذي تحتها بعد أن كسر الزجاج الأمامي للسيارة. ونجحوا بتعديلها واقتلاع العمود الملتصق بها من مكانه لسحب الملك منها ووضعه على الأرض حتى وصلت سيارات القصر من الزهور بعد 8 دقائق لتنقله لقصر الحارثية. وهو ممد على أرض صالة الاستقبال المظلمة إلا من بعض الشموع بدأ وصول ثلاثة أطباء تدريجياً لقصر الحارثية عند الساعة الثانية عشر؛ الدكتور جلال حمدي والدكتور صبيح الوهبي وكان الدكتور صائب شوكت آخرهم ليتفحصوا الملك وليواجهوا الحقيقة أنها مسألة وقت لا أكثر فقد وجدوا أن عظمة رأس الملك الخلفية قد كسرها العمود الذي هوى عليها ثم دخل العظم المكسور إلى المخ وهرسه هرساً، أكد الأطباء لحظتها أن موت الملك غازي تحصيل حاصل، وفعلاً وافت المنية الملك غازي بعد أربعين دقيقة من منتصف الليل أي في أول ساعة من يوم الأربعاء الخامس من نيسان عام 1939 بقصر الحارثية بعد 77 دقيقة من وقوع الحادث. ثم شكلت لجنة طبية خاصة بوفاة الملك غازي من الأطباء الثلاثة وطبيبين بريطانيين هما الطبيب أبراهام والطبيب سندرسن الذي رأس اللجنة التي أصدرت البيان التالي: [ننعى بمزيد من الأسف وفاة صاحب الجلالة الملك غازي الأول في الساعة الثانية عشرة والدقيقة الأربعين من ليلة 3 / 4 نيسان 1939 متأثراً من كسر شديد للغاية في عظم الجمجمة، وتمزق واسع في المخ وقد حصلت هذه الجروح نتيجة اصطدام سيارة صاحب الجلالة عندما كان يسوقها بنفسه بعمود كهرباء بالقرب من قصر الزهور في الساعة الحادية عشرة والنصف ليلاً وفقد الملك شعوره مباشرة بعد الاصطدام ولم يسترجع وعيه حتى اللحظة الأخيرة].
وفي ذلك الصباح فوجئ الشعب العراقي ببيان رسمي صادر عن الحكومة نقلته إذاعة بغداد جاء فيه:
{بمزيد من الحزن والألم ينعى مجلس الوزراء إلى الأمة العراقية انتقال المغفور له سيد شباب البلاد، جلالة الملك غازي الأول إلى جوار ربه على أثر اصطدام السيارة التي يقودها بنفسه بالعمود الكهربائي الواقع في منحدر قنطرة (نهر الخر) بالقرب من قصر الحارثية في الساعة الحادية عشرة والنصف من ليلة أمس. وفي الوقت الذي يقدم فيه التعازي الخالصة إلى العائلة المالكة على هذه الكارثة العظمى التي حلت بالبلاد، يدعو الله سبحانه وتعالى أن يحفظ للمملكة نجله الأوحد جلالة الملك فيصل الثاني، ويلهم الشعب العراقي الكريم الصبر الجميل، وإننا إلى الله وإننا إليه راجعون}.

    

             جثمان الملك غازي يحمله كبار ضباط الجيش

موت الملك بهذا الشكل فتح الباب أمام التكهنات والشكوك لدى الخاصة والعامة، لاسيما بعد اكتشاف تناقض بين تصريحات الأطباء الذين عاينوا الجثة وبين تقرير اللجنة الطبية الخاص بوفاته، كذلك اختلاف شهادات من عاصروه حول الحادثة وكانت كالآتي:
ــ ناجي شوكت وهو رئيس وزراء سابق: “أن السيارة كانت مقلوبة وآثار الدماء واضحة على العمود".
ــ الدكتور صائب شوكت: "الوفاة بسبب ضربة (هيم) من خلف الرأس"، في حين أعلن رسمياً بأن سبب الوفاة كان جراء اصطدام سيارة الملك بعمود كهرباء.
ــ نوري السعيد: "الحادث تم قرب قصر الزهور". لكن الحادث كان أقرب لقصر الرحاب.
ــ الأميرة بديعة: "وجدناه بمكان الحادث ملقى على الأرض وهو ينزف".
ــ خادم الملك: "السيارة التفت حول نفسها والعمود ضرب رأسه". لكن الصور عن سيارة الملك بعد الاصطدام والتي حجبت تماماً تثبت بأن الاصطدام كان من جهة اليمين في حين كان الملك جالساً في جهة اليسار، ومن الجدير بالذكر أن هذا الخادم اختفى بعد الحادث.
وكانت الاستنتاجات حول الحادثة كلاتي:

أــ السيارة لم تتحطم لدرجة موت سائقها. فمن المعلوم إن أي حادث لسيارة يؤدي إلى الوفاة لابد أن تكون إصابة السيارة شديدة وكبيرة إلا أن الواقع كان عكس ذلك تماماً، فقد كانت الأضرار التي لحقت بالسيارة طفيفة جداً.

ب ــ العمود سقط على وسط السيارة وبعيداً عن مقعد السائق أي انه سقوطه لم يكن على رأس الملك.
ج ــ اعوجاج عمود الكهرباء يدل أنه تم بفعل فاعل وليس بفعل اصطدام السيارة.
د ــ يمكن إن الملك قد تعرض لضربة بآلة حادة من الخلف على يد خادمه الذي كان جالسا في المقعد الخلفي.
ه ــ الملك قُتل قبل الحادثة وجرى سحب الجثة لمكان الحادثة وتم صنع المشهد ليبدو وكأنه ناتج عنها.
و ـ يقول الفريق نور الدين محمود، الذي شغل منصب رئيس أركان الجيش العراقي ثم رئيساً للوزراء عام 1952، "أنه اصطدام غامض وعويص لا يسع الإنسان مهما كان بسيطاً في ملاحظته إلا أن يكذب زعم الحكومة، وهو يقارنه بالأدلة التي يراها في مكان الحادث".
ولكي تكتمل لدى القارئ كل الجوانب ويستطيع أن يستنتج ما يشاء من تصورات وأحكام بعد أن اوردنا وصف المكان والزمان وأقوال بعض المعاصرين واستنتاجاتهم لابد أن نذكر السيارة وهل أن سيارة بمثل هذه المواصفات يمكن ان يؤدي اصطدامها بعمود الكهرباء لمثل هذه النتيجة. كما أشار اللواء فؤاد عارف وكان قبل الحادث بفترة مرافقاً للملك بأنه كان يرسل مفرزة حراسة في الطريق الذي جرى فيه الحادث إلا أنه بعد نقله من الحرس الملكي لم يتم ذلك.

   

السيارة:
هي سيارة أمريكية من شركة (جنرال موتور) (GM) ماركة (بيوك Buick) نوع (Road master) موديل 1939 ذات لون أصفر فاتح بطول 5.4 مـ وبعرض 1.9 مـ وبوزن 2.1 طن ومحرك 8 أسطوانات (L8) وحجم (5.2 لتر). تم شراء هذه السيارة في شهر تشرين الأول عام 1938 لحساب القصر الملكي بسعر (2180) دولار (بسعر اليوم ما يقارب 41 ألف دولار)، طُلبت تغيرات خاصة للسيارة مثل إضاءة امامية وجانبية إضافية وراديتر أكبر تلائم الأجواء الحارة وكلفت تلك التغيرات مبلغ (175) دولار إضافية. السيارة جمعت بمعمل لتجميع (GM) بمدينة ليندن بولاية نيوجرسي شرق أمريكا وشُحنت لتصل بغداد بنهاية كانون الأول 1938 ويكون تسلسلها (17) من (364) سيارة أنتجتها بيوك (Buick) لهذا النوع سنة 1939. وسيارة الملك (Buick Roadmaster) هي سيارة فخمة بوزن 2.1 طن وليست كما يشاع بين المهتمين بأنها (Buick Special) الرياضية ذات وزن خفيف (1.6) طن وسبب الالتباس كون النوعين تجمعهما مصانع شركة جنرال موتور بنفس الوقت وبأشكال متقاربة مع بعضهما لأن مصممهما واحد هو المهندس الأميركي هارلي ايرل. وقد أشيع هذا الوصف بدل مواصفات سيارة الملك لتبرير انقلابها لخفة وزنها.
فحصت السيارة بعد الحادث وظهر التالي:
أ ـــ المصد الأمامي والخلفي للسيارة لم يتضررا بالحادثة. وهنا يثار السؤال، كيف لسيارة تصطدم بعمود الكهرباء لدرجة قلعه من مكانه ولم يتضرر أحد مصداتاها (الدعاميات).
ب ــ تضرر بالجانب الأيمن للسيارة بينما الأيسر لم يتضرر.
ج ــ هناك آثار احتكاك بارزة مع الأرض على حافظات الإطارات (الجاملغات) بالجانب الأيمن.
د ــ عمود الكهرباء الحديدي بارتفاع 5.3مـ تم ثنية ما يقارب 35 درجة ومع ذلك لم يتضرر مصد السيارة.
هـ ــ الزجاجة الأمامية للسيارة مضغوطة من أعلى وسطها.
وــ قاعدة العمود الخرسانية رفعت من مكانها بعد الحادث وليس بفعل الحادث.
ز ــ هناك آثار احتكاك بالجانب الأيمن للسقف المتحرك ولصندوق السيارة.
ح ــ العجلات الأمامية كانت متجه للأمام دون أي انحرافه.
ط ــ اعوجاج بأعلى عجلة القيادة.
ي ــ مكان السيارة تغير بعد الحادثة وليس نتيجة لها.
لم يكد خبر مقتل الملك غازي يصل إلى أسماع الشعب حتى خرجت مظاهرات في بغداد ومدن أخرى، وظهرت منشورات جاء فيها أن الملك لم يصطدم بالسيارة كما تدعي حكومة نوري السعيد، وإنما بعملية اغتيال دبرتها الإمبريالية البريطانية وعملائها، وعلى رأسهم نوري السعيد بالذات. تقول الوثائق البريطانية أنه: بعد دقائق من إعلان مقتل الملك غازي اندلع على الفور تعاطف الجمهور مع العاهل الراحل، وكان عفوياً مع انفجار الغضب الشعبي الموجه ضد بريطانيا. وقد وصف السفير البريطاني لتلك الخطورة العاطفية في الموكب الجنائزي مشيراً أن النساء: (تخلوا عن أنفسهم في حزن هستيري، ومزقن ثيابهن وغطين ملابسهن ورؤوسهن وصدورهن بالطين من المزاريب)، بينما تمت مراقبة رجال الشرطة والجنود "وهم يبكون مثل الأطفال". وهتفت حشود من المعزين في شوارع بغداد تناشد نوري باشا: (عليكم الجواب بدم غازي يا الباشا نوري)
وفي الموصل كان رد فعل الجماهير الشعبية شديداً جداً، حيث خرجت مظاهرة كبيرة قادها طلاب الثانوية المركزية والتحق بهم عدد من العمال والكسبة وتوجهت نحو القنصلية البريطانية، وهي تعلن عن شعارات تتهم فيها بريطانيا بقتل غازي، وأقتحم المتظاهرون البوابة الخارجية للقنصلية، ولما خرج أليهم القنصل البريطاني في الموصل المستر مونك ميسن (جورج إيفلين آرثر شين مونك ميسن) هجموا عليه وقتلوه ثم تفرقوا وقد قبض على الجناة بعد التعرف عليهم واعترافهم بفعلتهم. ولم تسلم رود الفعل من أحداث شغب فقد هوجمت الأحياء اليهودية في بغداد ووقعت عمليات نهب وحرق مساكن اليهود.

        

بعد إعلان وفاة الملك غازي تولى مجلس الوزراء حقوق الملك الدستورية، وفقاً للمادة 22 من الدستور، وأعلن فيصل الثاني بن غازي الأول ملكاً على عرش العراق. على أن يسمى وصياً عليه، نظراً لصغر سنه، وقرر مجلس الوزراء تعيين الأمير عبد الإله وصياً على العرش، استنادا على شهادة الملكة العالية بأن غازي نفسه أوصى بذلك.

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

715 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع