ناصر حكيم.. سيرة فنية حافلة

  

  

                  بقلم:علي ناصر الكناني

لم تكن هذه المرة الأولى التي أكتب فيها عن والدي الفنان الراحل ناصر حكيم فقد سبق لي أن تناولت قبل سنوات بعض الجوانب الأثيرة إلى النفس من مسيرة حياته الفنية التي استغرقت أكثر من خمسين عاما مع الغناء الريفي الأصيل،

ولست الوحيد بين الذين تكلموا عنه من زملاء المهنة كونه واحدا من الفنانين الرواد الذين ساهموا بوضع قواعد وأصول هذا اللون من ألوان الغناء العراقي القديم إلى جانب مطربين رواد آخرين سبقوه في الرحيل وممن عاصروه وشغلت أغانيهم مساحة واسعة في خارطتنا الفنية أمثال حضيري أبو عزيز وداخل حسن وشخير سلطان وغيرهم. واليوم وبعد مرور سنوات على رحيله الأبدي عن عالمنا ورغم تجدد الحزن والأسى في نفسي لفقده وتداعي قلمي ليكتب ربما للمرة الأخيرة عنه، رحلة استذكار لعلها تكون بمثابة وثيقة أسجلها في ذاكرة الزمن قبل الرحيل لشواهد وذكريات بعضها رواه لي خلال حياته وبعضها عايشتها معه ولعلي بذلك أجد العذر في أن أسجل بعض الوفاء لشخص عاصرته منذ ولادتي وسهر على تربيتي فكان نعم الأب والصديق والفنان.

 البدايات:
 في ناحية وادعة تغفو على ضفاف الفرات ضمن قضاء سوق الشيوخ في محافظة ذي قار تدعى ( العكيكة) وضمن منطقة تسمى البذريات حيث طبيعة الريف الساحرة المزدانة بالنخيل والأشجار الوارفة وفي يوم من أيام عام 1910 تردد صدى صوت أطلاقات بندقية الحاج حسين وزغاريد بعض النسوة مخترقا البساتين الغناء تبشر بمجيء المولود الأول له فسماه ناصر أما الحكيم فنسبه إلى جده علي حكيم الكناني الذي أشتهر بمعرفته الجيدة بالطب الشعبي فكان يسمى بالحكيم تبعا لذلك. وتمضي الأيام والسنين ويكبر الطفل المدلل الذي ما ان أشتد عود صباه حتى أثر علة نفسه أن يتحمل مسؤولية رعاية بستان والده وشؤون العائلة .. وتتفتح ذاكرة الفتى الذي لم يتجاوز الثانية عشرة من العمر لإطلاق حنجرته لتي كان يتهادى في تردداتها وترجيعاتها الصوتية حسا مرهفا ودفقا نغميا جلب أليه الانتباه من أقرانه الفتيان وكبار السن الذين كانوا يترددون للسمر في مضيف والده ويسمعونه كلمات الاطراء والاعجاب بولده الصغير ناصر ويحثونه على ان يطلب منه أن يسمعهم مما يحفظ من أشعار وأغاني كان يسمعها من بنات العيد ( وهن مجموعة من النسوة يحملن الرفوف ويرددن أغاني خاصة بالمناسبات ) ومن مطربين كبار أمثال الملا جادر والملا شنين ولكن بطريقة تلائم طبقات صوته الفني متجاوزا بذلك كل أقرانه ممن قاربوا عمره فما من مناسبة مفرحة أو زواج يقام ألا وأرسلوا بطلبه ليغني لهم أكراما لصاحب المناسبة دون أي مقابل . ودفعه هذا إلى التشجيع الكبير وأستحسان الناس لصوته أن لا يقلد احدا وأن يحدد لنفسه معالم شخصيته الغنائية منذ البداية . ولعل من بين ما يذكر في تلك الأيام انه كان إذا حل موسم الحصاد يهب زملاؤه لمعاونته فكانوا يطلبون منه أن ويكون ذلك شرطا محببا لأنفسهم ولنفسه ومرة حاول احد أشقائه أن ينوب مكانه لمرضه وعندما طلبوا منه ان يغني لهم مثل ما يغني أخوه ناصر وافق على ذلك ولكن ما ان بدأ والعمل وأطلق صوته يغني حتى انهالوا عليه بالضرب فاطلق ساقيه للريح وهو يلوذ بالفرار من البستان وسط تندر ومزاج زملائه الذين قرروا اكمال ما بدأوه من حصاد أكراما لأخيه ناصر .

الخطوة الأولى : في عام 1925 أقيم مهرجان غنائي كبير في مركز محافظة ذي قار حضره اكثر من ثلاثين مطربا من المعروفين آنذاك ضمن النطاق المحلي للمحافظة وصادف ان كان حاضرا بين الموجودين شخص يدعى نسيم الساعاتي وهو مندوب شركة بلفون لتسجيل الأسطوانات في البصرة والتي كان مقرها الرئيسي في بغداد فما أن سمع صوته وتفوقه على الباقين قرر أن يفاتحه بتسجيل مجموعة من أغانيه على الأسطوانات مقابل ( خمسين روبية ) لكل اسطوانة ( مقدار قيمة الروبية آنذاك 75 فلسا) ولكن ما أن سمع والده الحاج حسين بموضوع عرض الشركة بالسفر إلى البصرة حتى بادر بالرفض خوفا عليه من السفر و الأبتعاد عنه وبعد محاولات عديدة من الأصدقاء ومندوب الشركة أقتنع بالأمر ووافق بشرط أن يتحملوا مسؤولية الحفاظ عليه .
سبع أسطوانات بسبعة أطوار : لم يكن احد من المطرين الأوائل قد سبقه في تسجيل الأطوار الغنائية في الغناء الريفي وأن كانت موجودة ولكنه هو أول من سجلها على الأسطوان محققا بذلك سبقا غنائيا ساهم من خلاله بأرساء قاعدة أساسية لأصول هذا اللون من الغناء الشعبي الأصيل . ومن بين هذه الأطوار الحياوي والشرطاوي والمجراوي والجادري والصبي وغيرها في سبع أغان كانت البداية التي وضع من خلالها الخطوة الأولى على طريق مشوار فني طويل أمتد فيما بعد لأكثر من نصف قرن من الزمان ومن تلك الأغاني أغنية ( يمهيرة البدوان) و ( بطل يدالي) (وهلبت منيرة ) ( أهنا ياموسى ) (و صاحب بعد عيني ) وغيرها . وهنا طلبت منه الشركة أن يوقع عقدا معها بأن يلتزم بعدم تسجيل أغنياته لدى شركة أخرى لمدة عام .

بغداد والزيارة الأولى عام 1926 : بعد ان عرفت شركات الأسطوانات الموجودة في بغداد بجمالية صوته و لارتياحها له وخصوصا بعد انتهاء التزامه بعقد شركة ( بلفون ) التي رفض تجديد عقدها لأنه أثر العرض الذي قدمته شركة بيضافون في بغداد لتسجيل أغنيات جديدة بخمسة أطوار مع اجر يتجاوز المائة روبية للأسطوانة الواحدة ومن بين المطربين الريفيين الذين سجلوا معه أغنياتهم كان حضيري أبو عزيز وخضير حسن وشخير سلطان أما من مطربي المقام فقد كان الأستاذ الكبير محمد القبانجي ونجم الشيخلي ورشيد القندرجي .
حب غوية : لقد رفض الحكيم فكرة الأستقرار في بغداد عندما عرضت شركة تسجيل الأسطوانات ذلك مفضلا الذهاب والإياب ومتاعب السفر لأنه كان على علاقة حب ي أغانيه التي كان يعبر من خلالها عن مشاعره وأحاسيسه الصادقة تجاهها عندما يطلق العنان لقاربه وهو ينساب وسط النهر إلى الضفة الأخرى حيث تسكن حبيبته والتي ما ان تسمعه يغني حتى تسرع إلى ضفة النهر مع ( المشرية ) بحجة إملاء الماء فما ان تحسن أن أحدا لا يراقبهم تغني له . ( رد يبو زويني عدوانك مضربين ) أي عد إلى مكانك فأن هناك من يراقبنا من الأهل . ولكن الحظ لم يحالفهم بالزواج فقد تزوجت من أبن عمها .. وفي طريق ذهابه إلى بغداد لتسجيل أغانيه لشركة بيضافون ألف قصيدة غنائية مطلعها : ناصر مشه لبغداد كل الغوية تلبس هدوم السود تحزن علي .
المقهى وحكايات الكرامفون : في بداية الثلاثينيات قرر الزواج والسفر إلى بغداد والاستقرار فيها .. بعد شراء مقهى له في جانب الكرخ منطقة علاوي الحلة أقترنت فيما بعد باسمه فسميت بمقهى ( ناصر حكيم ) ونالت شهرة واسعة بين مقاهي بغداد القديمة على مدى أكثر من ثلاثين عاما حيث كانت أشبه بمنتدى أدبي ومدرسة غنائية كان يؤمها كبار المطربين والشعراء المعروفين آنذاك أمثال جبوري النجار وبدري الحلي وعبد الأمير الطويرجاوي وحضيري أبو عزيز وشخير سلطان وغيرهم . ولا زلت أتذكر ان المقهى كان يظم أريكة طويلة في أحد أركانه كان يجلس عليها مجموعة من المطربين ويؤدون الأغاني الواحد تلو الأخر دون آلات موسيقية سوى صينية وعليها مسبحة تستخدم كإيقاع وكان الناس يتجمهرون حول المقهى للأستمتاع بألوان الغناء الأصيل كما كان فيها جهاز الكرامفون للأسطوانات أو صندوق ( أليغي ) كما يسميه بعض الناس حيث ان التسجيل على الاسطوان سبق انتشار المذياع في العراق بسنوات طويلة فكان هذا الجهاز هو الوسيلة الوحيدة التي كان الناس يستمعون من خلالها إلى أصوات المطربين المعروفين آنذاك من العرب والعراقيين .

  

الخطوة الثانية نحو الانتشار:الخطوة الثانية نحو الانتشار كانت عام 1936 .
بعد افتتاح دار الإذاعة العراقية عام 1936 والتي كانت تابعة آنذاك إلى وزارة المعارف أرسلوا بطلبه وتم تعيينه كمطرب ريفي براتب شهري قدره ثمانية دنانير مقابل أربعة حفلات شهريا وكان البث الإذاعي على الهواء مباشرة إذ لم تكن في ذلك الوقت تتوفر أجهزة التسجيل الحديثة كما هو اليوم . وفي عام 1948 سافر إلى فلسطين مع مجموعة من الفنانين العراقيين من بينهم حضيري أبو عزيز وعلي مردان وناظم الغزالي وآخرين لأحياء حفلات ترفيهية لقطعات الجيش العراقي التي كانت تدافع عن ارض  العروبة هناك .
وفي عام 1955 سافر إلى عدد من الدول العربية من بينها مصر وسوريا ولبنان والبحرين والأمارات لتسجيل حفلات غنائية لإذاعات تلك الدول وتكررت سفراته إلى هذه الدول وغيرها من دول الخليج العربي لنفس الغرض المذكور في السنوات اللاحقة . ومن بين الأشياء التي لا يعرفها ألا القليل انه كان لا يجيد القراءة والكتابة ولكنه رغم ذلك كان ينظم الشعر ويضع ألحان أغانيه بنفسه فيما كنت أنا وأخي عبد الكاظم الذي يكبرني سنا نكتب له ما يؤلفه من كلمات الأغاني أو ما يكتبه له غيره من الشعراء الآخرين أمثال بدر الحلي وجبوري النجار ثم نبدأ بتحفيظه الكلام بطريقة القراءة المتكررة أمامه حتى يجيد حفظها و بعد ذلك يضع ترانيم لحنها دون الأستعانة بأي آلة موسيقية مستندا بذلك إلى ما يعرفه من أطوار غنائية في هذا اللون من الغناء . ومرة اضطر ان يأخذ معه أخي إلى الإذاعة ليجلس إلى جواره خلال تسجيل احدى الأغنيات الجديدة التي كتب كلماتها الشاعر بدر الحلي والتي لم يتم له حفظها بشكل جيد وكانت تخص مناسبة وطنية فكان أخي يهمس في أذنه مقاطع الأغنية الواحد تلو الآخر حتى اتم عميلة التسجيل ومرت بسلام دون أي أخطاء وخلال فترة الستينات افتتحت مراكز خاصة لمحو الأمية للكبار فذهب لتسجيل أسمه بالأحرف الأولى .. ومرة طلب منه المعلم في الصف أن يردد معه بعض مقاطع الحروف العربية له حرف ( أ) ألف .. فرد عليه مداعبا بيتا من الشعر يقول ( ألف الولف يتلف تلف ) وهكذا كان يردد مع كل حرف بيتا من الشعر فتحول الدرس إلى مطاردات شعرية طريفة .. فلم يتواصل مع التعلم والدرس بحجة كان يرددها ( لمن شاب ودوه للكتاب ) .
أغنياته والمطربون الشباب : وخلال معايشتي معه كنت أحس بفرحه وأرتياحه للمحاولات الجيدة التي كان يقوم بها المطربون الشباب لتجديد أغانيه القديمة ويسمعها بأصواتهم مبديا بعض الملاحظات على تغيير المفردات التي بأعتقاده ستفقد المعنى الشعري المقصود بها . فمثلا في أغنية ( عيني .. عيني ) التي غناها بعده الفنان سعدون جابر حيث يقول الكلام القديم في الأغنية ( مثل اليصم الماي رد جفه خالي ) وفي التجديد أصبحت ( مثل اليلم الماي رد جفه خالي ) فيعقب على ذلك بقوله أن الماي يلتم أي يمكن احتوائه في الكف ولكنه لا يصم وفي أغنية أخرى قدمها الفنان حسين نعمة بصوته هي ( فرد عود ) فمضمون الكلام القديم هو ( يالشاتل العودين خضر فرد عود لا بالذهب ينباع لا منه موجود ) وأعتراضه هنا هو على كلمة (لا بالذهب ) التي أصبحت بعد التجديد لا ينشره ولا ينباع لا منه موجود وهو يقصد هنا أن الذهب ه وأعلى قيمة شرائية للأشياء الثمينة ولكن الأشياء التي لا تشترى ولا تباع هي الأشياء التي لا قيمة لها . كم اخذ عنه مطربون شباب آخرون أغانيه القديمة والتي مع الأسف قال بعضهم انها الحان شائعة ومن بين تلك الأغاني أغنية ( بالراض أمشي بالراض ) التي غناها الفنان صباح غازي ( ومالي شغل بالسوك ) و ( نخل السماوة ) للفنان حسين نعمة وأغنية ( على الله يازماني) و (بهية) للفنان فاضل عواد ولكني كنت أسمعه يردد دائما أنا فخور بهم لأنهم أولادنا الذين سيواصلون بعدنا ..
التقاعد والمرض والرحيل: في بدايات 1971 قرر مجلس نقابة الفنانين بالموافقة على احالته على التقاعد بناء على طلبه حيث بدأ بالمرض يتسلل إلى جسده فأصيب بالسكر وظل يعاني منه سنوات طوال ثم أصيب بعدها بعجز القلب المزمن والكليتين ونتيجة لمضاعفات هذه الأمراض فقد بصره مما أبقاه طريح الفراش فترة طويلة من الزمن إلى ان وافاه الأجل في  التاسع من نيسان عام 1991 في الليلة الثالثة والعشرين من شهر رمضان المبارك وبذلك أكون قد فقدت وودعت أعز الراحلين.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

869 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع