تداعيات انقلاب ٨ شباط ١٩٦٣ على القضية الكردية
بعد نجاح الانقلاب الذي قاده حزب البعث في 8 شباط 1963 وسقوط نظام الجمهورية الأولى وإعدام قائده اللواء الركن عبد الكريم قاسم رئيس الوزراء وبعد تثبيت النظام سيطرته على أمور البلاد وإزالة خطر الحزب الشيوعي العراقي بعد مطاردة قيادته وعناصره وقتل العديد منهم وزج الكثيرين في السجون والمعتقلات وتعرضهم للتعذيب البدني والنفسي الشديد وهروب واختفاء الآخرين وخاصة في المناطق التي كانت تحت سيطرة الحركة الكردية آنذاك....
عبد الكريم قاسم
بعد انتهاء الحكومة الجديدة من تجاوز هذه العقبات انصرفت للتفكير في حل القضية الكردية وحسب الاتصالات التي كانت قد جرت بين الطرفين قبل الانقلاب الذي استبشر به الكرد وعقدوا الآمال في حل قضيتهم وانهاء حالة الحرب وعدم الاستقرار في المنطقة من خلال إيجاد حل سلمي لها.
أعلنت قيادة الحركة الكردية في 8 شباط 1963 وقف إطلاق النار لإفساح المجال للحكومة الجديدة لتنفيذ وعودها في هذا الشأن إلا أن الفترة التي أعقبت الانقلاب أظهرت عدم جدية هذه الحكومة في سياستها من أجل حل هذه القضية سلمياً وكانت الحكومة منقسمة إلى فريقين عسكري ومدني، وكان الفريق الأول يعارض فكرة المفاوضات ويتصرف بحذر ومرونة من أجل التحضير والاستعداد للحرب إذا ما اقتضت الضرورة إلى ذلك من خلال إعادة تنظيم القوات المسلحة، والفريق الثاني كان يدرك خطورة الوضع وضرورة التفاوض مع القيادة الكردية لإنهاء الأزمة.
استمرت اللقاءات والمفاوضات بين الطرفين لفترة ليست بالقصيرة من خلال الوفود الرسمية والشعبية التي كانت تنتقل بين بغداد وأربيل دون نتيجة بسبب تعنت الطرف الحكومي ومماطلته ومشاغلته لقيادة الحركة الكردية لكسب الوقت لحين استكمال الجيش العراقي استعداداته للحرب.
وقد تعزز هذا الموقف لدى الحكومة العراقية بعد نجاح انقلاب حزب البعث في سوريا في 8 آذار 1963 حيث تراجعت عن الكثير من المواقف السابقة وأخذت تتشدد تجاه الحركة الكردية والتي بدورها أدركت أن هناك تحولاً قد حدث إلا أن ذلك لم يثنيها عن مواصلة الجهود والمساعي في سبيل التوصل إلى حل يجنب كردستان وشعبها ويلات الحروب والمآسي.
شكلت قيادة الحركة الكردية وفداً موسعاً مؤلفاً من 14 عضوا وسبعة مستشارين برئاسة (جلال الطالباني) انيطت به مهمة التفاوض مع الحكومة العراقية حيث وصل الوفد إلى العاصمة بغداد في 30 آذار 1963 وشعر الوفد من بداية وصوله بعدم اهتمام الحكومة العراقية به من خلال عدم مشاركة أي فريق حكومي للتفاوض معه بسبب عدم استعدادهم للقبول بمطالب الحركة الكردية وانعدام الرغبة لديهم في إيجاد حل سلمي وديمقراطي لهذه المشكلة واقتصرت اللقاءات مع بعض الشخصيات الشعبية .
انتهت الفترة القصيرة للهدنة المتوترة والتي استمرت حوالي أربعة أشهر، بعد يأس الوفد المفاوض قررت قيادة الحركة الإيعاز إليه بالعودة إلى كردستان وفي طريق عودته وقرب مدينة بعقوبة تعرض للاعتقال وأعيد إلى محافظة بغداد وأودع رئيسه وأعضائه في سجن رقم (1) في معسكر الرشيد.
مع كامل الاستعدادات العسكرية التي كانت تحضر لها الحكومة العراقية لمعاودة القتال ضد الحركة الكردية وكذلك الاستعدادات العسكرية الدفاعية التي كانت تتهيأ لها الحركة في مجابهة أي تحرك عسكري حكومي مرتقب مع الحرص على الاستمرار في الجهود التفاوضية لتفادي الحرب الكارثية في المنطقة وبالمناسبة أجد من الضروري أن أشير إلى أنه بالرغم من محاولات قائد الحركة الكردية (الملا مصطفى البارزاني) في التفاوض العلني عن طريق وفد الحركة في بغداد وطرقه كافة السبل والوسائل في هذا المجال ومنها ما حدثني عنه خالي (شيخ محمد رسول خليفاني) عندما ذكر لي في أحدى جلساتي معه بأن قائد الحركة الكردية قد أرسل في طلب حضوره مع الشيخ (حسين خضر آغا السورجي) وعندما اجتمعوا به كلف الأخير بمهمة إيصال ثلاث رسائل إلى بغداد احداها للرئيس العراقي (عبد السلام محمد عارف) والأخرى لشقيقه (عبد الرحمن) والذي كان في ذلك الوقت يشغل منصب قائد الفرقة الخامسة، أما الرسالة الثالثة فإنها كانت موجهة إلى تاجر كردي فيلي يعمل في سوق الشورجه وطلب منه مصاحبته في هذه المهمة والتي جرت في الأيام العشرة الأولى من شهر حزيران عام 1963 .
رئيسا جمهورية العراق الأخوين عبد السلام وعبد الرحمن محمد عارف
وكانت أجواء العلاقات بين الحكومة العراقية والحركة الكردية قد وصلت إلى أشد حالات التوتر والاستعداد للحرب والتي كانت قد بدأت قبل الإعلان عنها رسمياً في 10 حزيران 1963 ، حيث بثت إذاعة بغداد نص بيان مجلس قيادة الثورة والذي اتهم الكورد بالنزعة الانفصالية والحركة بالرجعية والموالية للإمبريالية وطلب من مقاتليه تسليم أنفسهم مع أسلحتهم وتخصيص مكافئة مالية مجزية لمن يستطيع النيل من قائد الحركة كما تضمن البيان المذكور الإعلان عن بدأ القتال في كافة المحاور مع التأكيد على القضاء على الحركة في أشهر قليلة وبكل سهولة من خلال الاعتماد على الجيش العراقي والقوة السورية التي جاءت من أجل المشاركة في الحرب والتي كان قوامها لواء من الجيش السوري (لواء اليرموك) بقيادة العقيد (فهد الشاعر).
العقيد السوري فهد الشاعر
بالإضافة إلى عدد من رؤوساء العشائر الكردية مع أفراد عشائرهم وكان يطلق عليهم فرسان صلاح الدين الأيوبي وعدد من رؤوساء العشائر العربية مع مقاتليهم وكان يطلق عليهم فرسان خالد بن الوليد، هذه التحضيرات الكبيرة والضخمة من حيث العدد والعدة خلقت في نفوس القيادات السياسية والعسكرية للحكومة العراقية شعوراً بالغرور والاعتداد بالنفس مما حدا بوزير الدفاع العراقي (صالح مهدي عماش) إلى القول بأن الجيش العراقي ذهب إلى شمال العراق في نزهة.
وزير الدفاع العراقي صالح مهدي عماش
نعود إلى أصل حديثنا عن المهمة التي كلف بها الشيخ (حسين خضر آغا السورجي) والذي وصل بغداد وفور وصوله عرج على دار العقيد (عبد الرحمن محمد عارف) وبعد أن بين له طبيعة مهمته وما جاء من أجله مع زميله سلمه الرسالة التي تخصه والتي لم تكن تتضمن سوى السلام والأمور الشخصية وبعدها بادر للاتصال بشقيقه رئيس الجمهورية (عبد السلام محمد عارف) مخبراً إياه بوصول الشيخ (حسين خضر آغا السورجي) مكلفاً بمهمة عاجلة من قبل (ملا مصطفى البارزاني) والذي رد عليه بأنه سوف يحضر حالاً ويلتقيه عنده ، وحضر فعلاً وبعد السلام والاستفسار عن الأحوال حيث كانت أواصر العلاقة والصداقة قوية بين الأخوين والمذكور لكون الأخير كان رئيساً لعشيرة السورجي وهي من العشائر الكردية الكبيرة وكان معروفاً من أغلب ضباط الجيش العراقي في ذلك الوقت والأوقات اللاحقة بالإضافة إلى كون منطقة خليفان كانت منطقة فرضيات وتمارين عسكرية سنوية للجيش العراقي.
صورة نادرة يظهر فيها من اليمين شيخ محمد رسول ثم حسين خضر اغا السورجي وكريم خان برادوستي يرحمهم الله
استلم الرسالة الموجهة له من (ملا مصطفى البارزاني) وبدأ بقراءتها بتمعن مع نفسه وعلامات الغضب وعدم الارتياح تبدو عليه وتزداد مع مراحل استمراره في قراءة الرسالة وفي النهاية وبحركة عفوية تعبر عن دفين مشاعره السلبية قذف الرسالة على الطاولة التي أمامه وهو يصرخ موجها كلامه لحامل الرسالة ((متگولي شيريد هذا ملا مصطفى ... والله إذا ما يكَعد راحة أسوي بي سواية ما صايرة))
أجابه الشيخ حسين خضر آغا السورجي ((سيادة الرئيس ما تگدر))
أجاب الرئيس وبنفس الحدة ((آني ما أگدر! ليش آني عبد الكريم قاسم! آني راح أسد الحدود عليه من كل الجهات وأخلي الجيش العراقي يلقنهم أقسى الدروس في خلال أيام))
رد عليه الشيخ حسين خضر آغا السورجي ((سيادة الرئيس كلما يشتد الهجوم عليهم تنفتح الحدود أكثر واللي ما يمكن السيطرة عليها وأنا وبحسب قناعتي الشخصية أشوف بأنه أحسن حل لهذه القضية هو الحوار والتفاهم لإنهاء المشكلة بشكل سلمي دون اللجوء إلى الحرب والقتال))
انتهى اللقاء دون تمخضه عن أية نتائج إيجابية والسبب بعود إلى كون السلطة الفعلية كانت بيد الحكومة العراقية والتي كانت تحت سيطرة حزب البعث ولم يكن للرئيس العراقي ذلك الدور المهم لكي يقرر أي قرار يخالف ما اتفق عليه البعثيون في معاودة الحرب ، فمن المعلوم بأنه لم يكن للرئيس العراقي (عبد السلام محمد عارف) أي دور في انقلاب 8 شباط 1963، وإنما جيء به من مسكنه صبيحة ذلك اليوم ونصب رئيساً للجمهورية لغرض الاستفادة منه ومن سمعته باعتباره يمثل التيار القومي الناصري المنادي بالوحدة العربية وتبين فيما بعد زيف ادعائه وعدم رغبته في التنازل عن حكم العراق لصالح الرئيس المصري (جمال عبد الناصر) في دولة الوحدة.
الرئيس جمال عبد الناصر والرئيس عبد السلام محمد عارف
أمر الرئيس العراقي (عبد السلام عارف) تأمين طائرة هليكوبترعسكرية لغرض إعادة الموفدين إلى منطقتهما في قرية (كلكًين) حيث حطت الطائرة يوم 10 حزيران في معسكر سبيلك ، وتبين للشيخ (حسين خضر آغا السورجي) حرق قريته من قبل جماعة من الفرسان مما اضطره للبقاء في المعسكر ، أما شيخ (محمد رسول خليفاني) فقد تبين له بأن جميع سكنة قريته (زار كَلي) من أهله وأقاربه قد نزحوا من القرية وهربوا إلى قرية ( سريشمه) بعد تجدد القتال بين الجيش العراقي وقوات الحركة الكردية خوفاً على حياتهم تاركين دورهم ومزارعهم فالتحق بهم وبعد ذلك نزحوا إلى المناطق الخاضعة للحركة الكردية.
قرية كلكَين
وتجدر الإشارة إلى أنه في أحد الليالي وعندما كان سكان قرية (زار كَلي) قد نزحوا منها قرر كل من (كانبي رستم ونبي حمد) العودة إلى قريتهم سراً لغرض سقي مزروعاتهم إلا أنهما وقعا في كمين للقوات العراقية التي أطلقت النار عليهم فأردت الأول قتيلاً بينما استطاع الثاني الهرب والعودة إلى أهله وأقاربه في محل نزوحهم. وفي صباح اليوم التالي عثرت قوات الجيش على جثة القتيل وتم ربطها بمؤخرة إحدى السيارات العسكرية وسحلها لمدة أكثر من ساعة على الشارع العام وأزقة قرية خليفان.
كانبي رستم نبي حمد
بعد سيطرة الجيش العراقي على المنطقة وإعادة بناء قرية ( كلكَين) اختار الشيخ (حسين خضر آغا السورجي) البقاء في القرية مع عشيرته فيها والقرى الكثيرة الأخرى في المنطقة وانضم عدد كبير من أبناء عشيرته تحت قيادته في صفوف قوات صلاح الدين إلا أن الشيء الملفت للنظر هو بقاء واستمرار علاقة المذكور مع قيادة الحركة الكردية سراً لغاية تعرضه لنيران كمين نصب له خلال عام 1968 في الطريق بين القريتين (كلكَين وخليفان) ونجاته بأعجوبة حيث أصابت إحدى الاطلاقات مسدسه المشدود في محزمه ، وكان لهذا الحادث أثره في حسم ولاء المذكور للحكومة العراقية.
قرية خليفان وأصبحت فيما بعد ناحية
لم تستمر سلطة البعث في حكم العراق سوى تسعة أشهر وعشرة أيام فبينما كان القتال على أشده بين الحكومة العراقية والحركة الكردية في كافة المحاور، ظهر انقسام مؤثر داخل قيادة حزب البعث واستغل الرئيس العراقي (عبد السلام محمد عارف) ذلك، واستطاع السيطرة على مقاليد الحكم بتاريخ 18 تشرين الثاني عام 1963 بالاعتماد على وحدات الجيش العراقي وانهيار مقاومة القوى التابعة لحزب البعث من وحدات جيش قليلة وقوات الحرس القومي.
في نهاية سردي لهذه الحكاية والتي أرجو أن تكون قد نالت اعجاب أعزائي القراء وكانت غايتي تسجيل وتوثيق هذا الحدث الذي لا اعتقد بأنه قد تم التطرق إليه بهذا الشكل سابقا من قبل أي باحث في مجال تناول مجريات أحداث القضية الكردية في العراق في تلك المرحلة.
2942 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع