موقف الأتحاد السوفيتي من قيام ثورة ١٤ تموز ١٩٥٨
إذا كان لمرحلة العهد الملكي، من ايجابيات فانها وبحسب بعض المؤرخين هيأت الشروط الموضوعية لنمو الحركة الوطنية والقومية، الأدوات اللازمة لعملية التغيرات التي تحققت صبيحة يوم الرابع عشر من تموز ١٩٥٨.
وبعد القضاء على النظام الملكي خطت الثورة سياسة جديدة أطمأنت من خلالها الدول الشيوعية وعلى رأسها الاتحاد السوفيتي وكذلك القيام ببعض الخطوات التي تضمن امن البلاد وسلامتها، من احتمالات التدخل الاجنبي.وفي برقية من الخارجية البريطانية موجهة الى واشنطن، تشير الى نية الحكومة التركية التدخل عسكريا في العراق، مما قد يثير ذلك الروس.
وما ان نجحت الثورة، حتى اعلن الاتحاد السوفيتي اعترافه بالجمهورية العراقية وتأييده للثورة التي وصفها «.. بانها نضال ضد الامبريالية» وجاء الاعتراف يوم ١٦تموز١٩٥٨، وأعلن بعد ذلك عن استئناف العلاقات الدبلوماسية بين البلدين.
وفي مجلس الامن ومن خلال المناقشات التي جرت يوم ١٦تموز ١٩٥٨ حاول الاتحاد السوفيتي فضح دوافع الانزال الامريكي والبريطاني معتبرا ذلك من نتائج حلف بغداد ومبدأ ايزنهاور.
وعلى ضوء هذه المواقف السوفيتية، لم يتردد العراق في استئناف العلاقات والتبادل الدبلوماسي، فقرر مجلس الوزراء ذلك بجلسته المنعقدة بتاريخ ١٧تموز١٩٥٨.
ويبدو ان مجلس الوزراء العراقي اتخذ هذا القرار على الرغم من ان عبد الكريم قاسم اراد تجنب كل ما يثير الغرب، او يعطي للثورة الانحياز لجهة ما، مما يؤلب القوى الغربية التي كانت تتربص بالثورة، ولكي لا يدخل في آتون المساجلات السياسية أو المواقف الحادة التي تقود الى المواجهة المبكرة أو يضفي على الثورة صبغة شيوعية كما أراد بعضهم ان يصفها.وهكذا عادت العلاقات بين البلدين وتم تعيين عبد الوهاب محمود سفيرا في موسكو بترشيح من عبد الجبار الجومرد وزير الخارجية، وقدم اوراق اعتماده في ٢٨ كانون أول ١٩٥٨.
ويبدو ان موسكو اخذت ترسم وتنفذ سياستها الخاصة بالمنطقة العربية بشكل عام والعراق بشكل خاص بكل دقة، حتى لا تضيع اية فرصة تقربها من المنطقة، ومن ثم زيادة نفوذ الاتحاد السوفيتي وتثبته بالصيغة التي يراها مناسبة لا ان تعرض عليه كما في السابق.
وفي الامم المتحدة لم يدخر الاتحاد السوفيتي جهد في الدفاع عن العراق بوجه محاولات التدخل العسكري البريطانية والامريكية، إذ هيأ البريطانيون الجانب الشرعي والقانوني في حالة تدخلهم عسكريا في العراق.
وطالب الاتحاد السوفيتي مجلس الامن والجمعية العامة للأمم المتحدة لاتخاذ الاجراءات الفورية والحاسمة لايقاف التدخلات، وطالب في البيان الذي أصدره يوم ١٨ تموز١٩٥٨ بوقف التدخل العسكري في الشؤون الداخلية للاقطار العربية، وهدد بأنه لن يبقى مكتوف الايدي.
وبعد ذلك جاءت الخطوة الاكثر فعالية على ما يبدو على الرغم من محدوديتها، فقد أعلنت وكالة (تاس) السوفيتية ان القوات الجوية والبرية والبحرية السوفيتية تقوم بمناورات عسكرية واسعة النطاق وستكون القوات البحرية بأمرة المارشال غريشكو (Greshko) والقوات البرية بقيادة جرتسكون (Gertscoon).
ووجه الاتحاد السوفيتي تحذيرا الى المانيا الغربية وايطاليا وكذلك (اسرائيل) بعدم استخدام أراضيها وبضائعها وأجوائها لنقل قوات «الغاصبين» على حد تعبير الانذار.
وطالب خروشوف (Khroshoof) بصفته رئيس وزراء الاتحاد السوفيتي برسالة موجهة إلى رؤساء الدول الكبرى لعقد اجتماع عاجل في ١٩ تموز ١٩٥٨، لمعالجة الموقف المتأزم في الشرق الاوسط، واستنكر في رسالته التواجد العسكري الامريكي والبريطاني في لبنان والاردن. وعزز إجراءاته الدبلوماسية بإجراءات عملية أكثر فاعلية، وذلك بارساله الطائرات والاسلحة الى دمشق.
ومما تجدر الإشارة إليه ان الزعيم السوفيتي خروشوف قد حيا الثورة واعدَّها منعطفا كبيراً في المنطقة (اذابت حلف بغداد بسرعة) وطالب بإخراج ممثل العراق السابق في مجلس الامن، واعطاء كرسيه الدبلوماسي الى المندوب الجديد.
وفي الامم المتحدة صرح هاشم جواد، مندوب العراق الدائم في الامم المتحدة بتاريخ ١٩ تموز١٩٥٨، أن الحكومة العراقية تؤيد دعوة الاتحاد السوفيتي بعقد اجتماع عاجل يحضره اقطاب الدول الكبرى، وذلك لبحث الوسائل التي من شأنها ان تخفف من حدة التوتر في الوطن العربي.
وفي ٢٤تموز١٩٥٨، كرر الاتحاد السوفيتي انذاره الى تركيا حذرها فيه من القيام بتحركات عسكرية ضد العراق وحكومته الجديدة. وفي الثالث من آب ١٩٥٨ صرح هاشم جواد، ممثل العراق في الامم المتحدة... ان للحكومة السوفيتية الحق في ان تظهر اهتماماً بمشاكل الشرق الاوسط لأن الاتحاد السوفيتي هو احدى الدولتين الكبيرتين.. وأنه يجب أن يكون للاتحاد السوفيتي مصالح اقتصادية وعسكرية وسياسية في المنطقة.
ومما تقدم يتضح ان السوفيت أرادوا من وراء ذلك ان يثبتوا للعالم ان سياسة الانغلاق والانكفاء والعزلة لم تعد تتناسب ومكانة الاتحاد السوفيتي التي أثبتت نتائج الحرب العالمية الثانية، وصراع الحرب الباردة، أنه احد قطبي الصراع العالمي، لاسيما بعد القدرات العسكرية الكبيرة والتقدم الذي حصل فيه، فضلاً عن التطلعات السوفيتية إلى احتواء النفوذ الامريكي المتصاعد والوقوف بوجه الأحلاف العسكرية التي تسعى الولايات المتحدة إلى تشكيلها، للوقوف بوجه المد الشيوعي المتصاعد في منطقة الشرق الأوسط، وإيجاد أنظمة حكم على وفق المفهوم السوفيتي، مما أدى إلى زيادة ظهور الاتحاد السوفيتي كقوة عظمى في مقابل قوة الولايات المتحدة الأمريكية، وظهور نظام عالمي ثنائي القطبية مما اثر في مسار السياستين الأمريكية والسوفيتية في المنطقة والعراق بشكل خاص.
شهدت العلاقات العراقية – السوفيتية بشكل خاص والعراقية مع دول المعسكر الاشتراكي بشكل عام تطوراً كبيراً بعد ثورة ١٤ تموز ١٩٥٨، ويعود ذلك إلى إنهاء العمل بمعاهدة ١٩٣٠، والتي قيدت العراق بعدم اجراء مفاوضات أو عقد اتفاقيات أو معاهدات مع أية دولة أجنبية الا بموافقة بريطانيا. فضلاً عن الانتقادات التي وجهت من اطراف الجبهة الوطنية إلى مجلس الأعمار، للاعتماد فقط على الشركات الغربية في اعمار البلاد وتطويرها.وأجمعت أراء قيادة الثورة على ضرورة عدم الاقتصار على الشركات الغربية في تطوير البلاد، وان مصلحة البلاد تستوجب ان يتعامل مع الاتحاد السوفيتي، بوصفه أول دولة أجنبية كبرى اعترفت بحكومة الثورة كما ان الاعتماد على الشركات الأجنبية الغربية فقط بعده احدى مرتكزات الغرب في العراق.
وكان عدد من أصحاب هذه الآراء يرون ان التعاون الاقتصادي والفني مع دول المعسكر الاشتراكي بشكل عام، والاتحاد السوفيتي بشكل خاص هو الضمانة الأكيدة لتحقيق التنمية الوطنية، ومن ثم تحقيق الاستقلال الاقتصادي الذي يتماشى مع تحقيق الاستقلال السياسي.
وقد حاول مجلس الأعمار بعد الثورة تطبيق عقود المقاولة مع الشركات الاستشارية تطبيقاً صارماً ودقيقاً، مما أدى إلى هروب بعض الشركات الأجنبية، من مواقع العمل، وطرد بعضهم الآخر وكانت منها شركات بريطانية وأمريكية وايطالية وبلجيكية.
لقد تحول موضوع التعاون الاقتصادي والفني مع دول المعسكر الاشتراكي بشكل عام والاتحاد السوفيتي بشكل خاص الى شعار ثابت تؤكد عليه بصورة دائمة، ومتواصلة القوى السياسية والوطنية المؤثرة في الشارع العراقي وقت ذاك.
المدى/ريسان عامر عبد الله
عن رسالة (العلاقات العراقية السوفيتية ١٩٦٣-١٩٦٨ )
1181 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع