بدايات السينما في العراق .. كيف شاهــد جمهــور بغــــــداد أول فيلم ســينمائي ؟
أهتم البغداديون بمشاهدة الصور المكبرة في فترة سيقت ظهور أول صور متحركة صامتة فوق شاشة سينما (بلوكي) أول دار تم إنشاؤها في العراق عام 1909 وهذه الحقيقة يؤكدها السيد محمد رؤوف الشيخلي في كتابه (مراحل الحياة في الفترة المظلمة وما بعدها) الذي نشر في جزأين يروي من خلالهما سيرة ذاتية لحياته الخاصة تعكس صورة شاملة للحياة العامة في بغداد القديمة، فنجده قد سجل في كتابه القيم هذه الواقعة المهمة:
كان في سوق الميدان محل فيه صور كثيرة قد صفت على جدار وأمام الجدار على مسافة متر واحد أو أكثر (بردة) ستار سميك وقد ثبتت فيه عدسات محدبة بقطر أربع أو خمس سنتيمترات، فالمتفرج بعد ان يعطي لصاحب المحل الأجرة يأتي به الى احد هذه العدسات فينظر منها الصورة مكبرة فتتجسم أمامه كأنه يرى المحل بعينه مائلاً أمامه ،ثم يذهب الى العدسة الثانية والثالثة حتى ينتهي من جميعها ويخرج، وقد يكون المتفرجون كثيرين فيتبادلون العدسات الى ان يكونوا كلهم قد رأوا جميع الصور، وتلك الصور التي أشار إليها السيد محمد رؤوف الشيخلي تذكرنا بذلك الصندوق الخشبي الكبير الذي كان يحمله صاحبه ويطوف به في قرى ومدن العديد من الأقطار العربية جامعاً حوله الصغار والكبار الراغبين في (الفرجة) على الصور التي توضح بطولات أصحاب السير الشعبية العربية المعروفين، وقد عرف ذلك الصندوق الذي يحوي الغرائب والعجائب باسم (صندوق الدنيا)
سينماتوغراف بغداد
لكن تلك الصور التي أثارت شغف البغداديين في سوق الميدان تحركت لأول مرة ليلة السادس والعشرين من شهر تموز عام 1909 مسجلة تقديم أول عرض للصور المتحركة في دار الشفاء الواقعة في الجانب الغربي من مدينة بغداد، مؤكدة اهتمام البغداديين بذلك الاختراع العجيب الذي أدهش ألوف المتفرجين في جميع أرجاء العالم الذين تابعوا بانبهار حقيقي تلك الصور التي تتحرك فوق شاشة بيضاء كلما زاد الظلام.
وفي يوم الثلاثاء 5 أيلول عام 1911 قدم (سينماتوغراف بغداد) عرضاً للصور المتحركة الصامتة في بستان (العبخانة) وقد ضم ذلك العرض الذي أقيم تحت رعاية الوالي احمد جمال بيك ثمانية أشرطة قصيرة هي (صيد الفهد، والرجل الصناعي، وبحر الهائج، والتفتيش عن اللؤلؤة السوداء، وسباق مناطيد، وطيور مفترسة في أوكارها، وخطوط حية)، اما الشريط الثامن فقد صور تشييع جنازة ادوارد السابع ملك إنكلترا، وقد علقت صحيفة (صدى بابل) آنذاك على العرض الاحتفالي قائلة: «عندما أخمدت تلك الأنوار الساطعة انحصر الضياء بالمسرح فظهرت عليه كتابة تشير الى المشهد الذي سيمثل، فأول مشهد مثل هيئة بحر هائج متلاطم الأمواج يصعد ماؤه تارة الى أعلى قبة الفضاء وينحدر الى أسفل الأعماق ما يصور للناظر هول تلك الأنواء، ثم اظلم المشهد وأضاءت المصابيح ولم تلبث حتى أظلمت المصابيح ثانية فظهرت على المسرح الكتابة ثانية التي تشير الى هيئة المشهد الثاني وهكذا الى آخر مشهد كما مفصل في الإعلان، ناهيك عن نفاسة المشهد الثامن والأخير الذي مثل تشييع جنازة ادوارد السابع حيث ظهر المسرح بما يجذب القلب الى تلك المظاهر التي تكاد تكون طبيعية وليست تمثيلية صناعية فتشاهد ملايين الرجال من وزير وأمير ورفيع ورضيع بين فارس وراكب عجلة وراجل والعساكر بانتظام بديع يدهش الخاطر فيشخص إليها الناظر».
ولم تتوقف عند حدود الدهشة البالغة أمام ذلك الاختراع الجديد (السينماتوغراف) بل تحتفي به وتدافع عنه فبعد العرض الأول أقيم عرض ثاني أيضاَ في بستان (العبخانة) واحتوى على ثمانية أشرطة قصيرة جديدة هي (اللص الخفي، وسواحل نرويج، وذكاء الكلب، وسباق الخيل، والمرأة المعتوهة، والعاب متحركة، وأول جائزة يانصيب، والمحاربة في الأسطول)، وبعد تقديم العرض الجديد كتبت الصحيفة في عددها الصادر يوم الأحد 10 أيلول عام 1911 داعية الناس لمتابعة تلك المناظر المصورة التي تقدمها الشاشة في البستان موضحة مزايا عروض (السينماتوغراف) وفوائدها الجمة.
ولم يكن بستان (العبخانة) المكان الوحيد الذي عرضت فيه الصور المتحركة ففي المسرح المركزي بحديقة الأهالي خصصت سينما للأهالي عرضت العديد من الأشرطة القصيرة من أهمها (جريدة باته، والعاب بدنية، وصورتان هزليتان، وطعام الملوك)، إضافة الى شريط من خمسة أجزاء اسمه (مناظر الحرب) وكانت عروض السينماتوغراف تقدم عادة في المناسبات المهمة والاحتفالات العامة تماماً كما حدث في (التياترو الجديد) بالبساتين العمومية عند الاحتفال بيوم الإمبراطورية 24 أيار عام 1918، فالى جانب العرض التمثيلي الذي قدمته فرقة الممثل الانكليزي بول فريمن تم عرض شريط سينمائي يحمل اسم (معارك هذه الحرب) سجل مآسي الحرب العالمية الأولى، كذلك تم عرض الصور الجديدة التي التقطت في شوارع بغداد وأسواقها، ومع تضاعف اهتمام الناس بمتابعة تلك الأشرطة المليئة بالمشاهد والصور المدهشة تضاعف اهتمام بعض الميسورين بتلك الظاهرة الجديدة التي اسمها (السينما الصامتة) فسعوا جاهدين للإفادة منها بالتفكير ببناء دور خاصة بالعروض السينمائية تجلب فيها احدث الأشرطة القصيرة التي غزت العالم كله..
وقد أدت (أولمبيا سينما) و(رويال سينما) تلك المهمة بنشاط فلم يتوقف دورها عند حدود جلب الأشرطة القصيرة، بل قدمتا أيضاً احدث الأشرطة المسلسلة المتطورة التي تعتمد أساساً على عنصري الإثارة والتشويق.
ومع قدوم عام 1920 توسعت دور السينما في شراء ذلك النوع المطور من الأشرطة الطويلة المسلسلة التي كان من أنجحها (ملك المسرح، ورصاصة النحاس الأحمر، وخفايا برشلونة، وسر الغواصة، ورداء التنكر الأرجواني) التي قدمتها (سينما رويال) إضافة الى رواية مسلسلة ناجحة ذات 38 قسماً اسمها (نمرة النحاس) عرضتها (سينما بين النهرين) اما سينما أولمبيا فقد عرضت البنت الباسلة في ثلاثين قسماً إضافة الى مسلسل (سر اللطخة الحمراء) الذي بلغ طوله 36 الف قدم.
وفي مساء الاثنين 26 تموز عام 1920 تم افتتاح دار جريدة للعرض السينمائي في الشارع الجديد وقد اطلق عليها اسم (سنترال) واشتمل أول عروض (سينما سنترال) على رواية (التذكرة الصفراء) إضافة الى شريطين قصيرين هما (القرود في غاباتها، وحوادث مختلفة).
وقد لوحظ اهتمام الجمهور البغدادي وحرصه الشديد على متابعة الأشرطة المصورة ذات الطابع الكوميدي، ومن أهم تلك الفصول الكوميدية التي شهدتها بغداد خلال العشرينيات (قصة برنيطة، وكيف عاد جون، والسيدة عقيلة الوزير، والولد المشاغب، وموظف التلغراف، وهل تحب امرأتك، ونتائج الرهان، ولا تطاق، والممرضة الجديدة، وأرملة الشماس)، وقد تكرر ذلك الإقبال الجماهيري بصورة واضحة عند عرض المسلسل الكوميدي (صيد القمر) الذي قدمته (سينما أولمبيا).
وخلال العشرينيات أيضاً أضيفت الى دور العرض السينمائي دار أخرى جديدة تم تشييدها في شارع الرشيد وأطلق عليها اسم (السينما الوطني) وقد ساهمت مع دور العرض السينمائي الأخرى في جلب عروض احدث الأشرطة السينمائية المسلسلة التي أنتجتها فرنسا وأمريكا وإيطاليا، ومن انجح تلك الأشرطة (ألف ليلة وليلة) الذي قدمته (سينما الوطني) ابتداء من 10 كانون الأول عام 1927 وأدت فيه دور البطولة الممثلة (بتي بلايت) التي كانت من أشهر ممثلات السينما في ذلك الحين، وقد عرضت لها السينما ذاتها فيلماً آخر عام 1928 باسم (هي التي يجب ان تطاع) بينما كان فيلما (جزاء الخيانة، والطاحونة الحمراء) أبرز عرضين قدمتهما سينما الوطني خلال عام 1929، وقد خصصت تلك السينما عرضاً خاصاً لطلبة المدارس ليلة الجمعة من كل أسبوع وأصبح ذلك تقليداً أتبعته دور السينما الأخرى،وقد كان فيلم (خطايا البشر) آخر الأفلام الصامتة التي قدمتها (سينما الوطني).
تكلمت السينما الصامتة
ولعل أهم حدث فني شهده العراق مطلع الثلاثينيات كان ذلك الذي جرى داخل (سينما الوطني) يوم عيد الفطر المبارك الموافق 19 شباط عام 1931، ففي ذلك اليوم بالذات نطقت السينما الصامتة وتكلمت لأول مرة في العراق من خلال الفيلم الغنائي (ملك الموسيقى) الذي أدى فيه دوري البطولة المطرب الذائع الصيت في ذلك الحين (جونجون بولز) والممثلة (لورا بلانت)، وعرضت فيلماً آخر اسمه (ضابط الحرس) لنفس الأبطال...
ثم توالت الأفلام الناطقة على شاشة سينما الوطني وكان من أنجحها رواية الكاتب الألماني المعروف إيريك ماريا ريمارك المعروفة باسم (كل شيء هادئ في الميدان الغربي) والتي صورت مآسي الحروب الدامية من خلال معاناة بعض الجنود الألمان.
ولوحظ ان اغلب تلك الأفلام الناطقة كان من النوع الغنائي الذي أتاح للناس فرصة الاستمتاع بالأصوات الغنائية والألحان الموسيقية وهي ميزة افتقدتها الأفلام الصامتة التي بدأت تتلاشى تدريجياً وتختفي خاصةً بعد ان بدأت (سينما سنترال) هي الأخرى في تقديم الأفلام الناطقة ابتداءً من عشرين نيسان عام 1931 حيث عرضت أول أفلامها الناطقة (أنشودة شارع برود واي) ثم واصلت عرض تلك الأفلام الغنائية الراقصة مثل (هوليوود، ومأساة مدان سيتي، وشارع اليونان، واعشقيني الليلة)...
وذلك أيضاً ما فعلته (سينما ليالي الصفا وسينما رويال) عندما بدأتا بعرض الأفلام الناطقة أسوة (بسينما الوطني)،وترتب على ذلك إنشاء دور جديدة للعرض السينمائي مثل (سينما الرافدين وسينما الزوراء وسينما الحمراء وسينما الرشيد) وقد ساهمت كلها في تقديم أعداد وفيرة من الأفلام الأجنبية التي تم عرضها خلال الثلاثينيات...
وليس معنى ذلك ان التجارب العربية الأولى لإنتاج الأفلام الروائية الناطقة كانت غائبة او بعيدة عن شاشات دور السينما في العراق ففي شهر تموز 1932 عرضت سينما الوطني فيلم (أولاد الذوات) الذي أخرجه محمد كريم وشارك في بطولته يوسف وهبي وأمينة رزق والدولة ابيض، وفي العام التالي عرضت سينما رويال الفيلم المصري (سلمى) وعرضت سينما سنترال فيلماً غنائياً من إخراج احمد جلال وفي 6 كانون الأول عام 1934 عرضت سينما الوطني فيلم (الوردة البيضاء) الذي أخرجه محمد كريم وشارك في بطولته الموسيقار محمد عبد الوهاب وقد حقق ذلك الفيلم نجاحا غير عادي وأعيد عرضه لأكثر من مرة وفي شهر نيسان من عام 1934 عرضت سينما رويال الفيلم الغنائي (أنشودة الفؤاد) وفي بداية شهر تموز عام 1936 عرضت فيلم (بواب العمارة) الذي شارك في بطولته الممثل الكوميدي علي الكسار.
اما سينما الرافدين فقد عرضت في شهر آب عام 1936 فيلماً جديداً للموسيقار محمد عبد الوهاب باسم (دموع الحب)، وفي الشهر ذاته عرضت سينما الحمراء فيلم (وداد) لام كلثوم، وفي 25 أيلول من نفس العام عرضت سينما الرافدين الفيلم الكوميدي (بسلمته عايز يتجوز) تمثيل نجيب الريحاني وعزيزة أمير وبشارة واكيم.
أفلام الإنتاج المشترك
لقد شهدت الثلاثينيات بعض المبادرات الفردية التي استهدفت خلق نشاط سينمائي عراقي ففي شهر كانون الأول 1931 نشرت الصحف إعلاناً تحت عنوان (فيلم زاد السينمائي يطلب هواة وهاويات تمثيل) وقد اشترط الإعلان ضرورة ايجادة المتقدمين للغة العربية الفصحى وقدرتهم على التعبير عن المشاعر والأحاسيس المختلفة، كما جرت محاولات فردية أخرى لاستيراد أجهزة الصوت والتصوير والإضاءة للعمل السينمائي لكن الظروف السياسية والاجتماعية في ذلك الحين لم تساعد على خلق ذلك النشاط السينمائي الذي كان مقدراً له ان يتبلور بشكل واضح في منتصف الأربعينيات، والظاهرة اللافتة للانتباه حقاً كانت تلك الحملة الصحفية المنظمة التي تبلورت مع بدايات الأربعينيات وكان هدفها الأول المطالبة بإنشاء استوديوهات السينما المجهزة بأحدث معدات الصوت والإضاءة والتصوير وتهيئة كل الظروف وتوفير كل الإمكانات من اجل خلق السينما الوطنية العراقية ومن ابرز ما نشرته الصحف في ذلك الحين ما كتبه فاضل عذافة في جريدة العراق الصادرة في عشرين آذار 1945 تحت عنوان (حاجة بلادنا الى صناعة السينما) مطالباً رجال المال بتقديم المعونات المادية التي تساعد رجال الفن على أداء رسالتهم السامية قائلاً: «تتعدى المنفعة الاقتصادية منفعة أخرى هي المنفعة القومية، اذ ان أكثرية شعوب العالم المتمدن وغير المتمدن لا يعرف عن الأمة العربية شيئاً يذكر، بل كل ما يعرفه أنها تعيش عيشة قبائل رحل وحشية مما تروجه الدعاية الصهيونية من الدول الاستعمارية، فاذا قامت السينما بعمل الأفلام التاريخية التي تبين عظمة العرب وأخلاقهم وسجاياهم وحضارتهم وحياتهم المدنية الحاضرة لتغيرت وجهة نظر الأجانب الى بلادنا»، كما كتب الكثيرون بهذا الخصوص أمثال محمد إبراهيم العشعوشي وفؤاد طرزي.
لكن الحكومة في ذلك الحين لم تهتم كثيراً بتلك الصيحات والآراء المخلصة، ولم تتخذ الجهات المسؤولة إجراءً إيجابياً يستهدف خلق السينما الوطنية أو يشجع حتى على قيامها، وأصبح الأمل الوحيد معقوداً على أصحاب رؤوس الأموال الذين حاولوا ان يفعلوا ما لم تفعله حكومة ذلك العهد، ففي شهر نيسان 1946 وصل الى بغداد المخرج الربيطاني ريجنالد فوغزويل لدراسة تفاصيل إنشاء أستوديو سينمائي يتم تزويده بعدد من الخبراء والفنيين الأجانب يتولون مهمة تدريب العراقيين الذين سيرتبطون بالعمل السينمائي، على أساس ان يقوم بتمويل ذلك المشروع الأخوين هورائي وانطوان مسيح.
حقي الشبلي
وفي صيف عام 1946 بدأ في أستوديو مصر الذي تم افتتاحه رسمياً بالقاهرة في العاشر من تشرين الأول 1935 تصوير المناظر الداخلية لفيلم (القاهرة بغداد) كأول إنتاج عراقي مشترك تم انجازه بالتعاون مع شركة اتحاد الفنيين المصرية وجرى تصوير مناظر الفيلم الخارجية في العراق ولم يكتفي الأستاذ حقي الشبلي بالمشاركة بأدائه التمثيلي مع مديحة يسري وعفيفة اسكندر وبشارة واكيم وعبد العزيز خليل، بل ساهم أيضاً مع كاتب السيناريو يوسف جوهر في كتابة قصة الفيلم الذي أخرجه احمد بدرخان، وفي مساء 9 آذار 1947 تم عرض الفيلم في دارين للعرض السينمائي سينما الحمراء وسينما الارضروملي...
وبعد أربعة أيام من عرض الفيلم قررت إدارة سينما الحمراء عرض نسخة ثالثة منه بسينما النصر في البتاوين حتى يتسنى لأكبر عدد من المتفرجين مشاهدة الفنانين العراقيين في أول لقاء سينمائي مع الفنانين المصريين، لكن الفيلم لم يحقق النجاح الفني المنشود فقد بدت قصته مفتعلة الأحداث لان كاتبيها لم يجعلا هدفهما الأول التوصل لرؤية ومعالجة سينمائية متكاملة او تقديم بناء درامي متماسك بل جعلا هدفهما الأساس هو إتاحة الفرصة لأبطال الفيلم للتنقل بحرية وسهولة بين القاهرة وبغداد وتلك الأخطاء ذاتها وقع فيها ثاني أفلام الإنتاج المشترك (ابن الشرق) وقد ضاعف من فشل ذلك الفيلم انه لم يرتكز الى جهود ممثلين مرموقين كما حدث بالنسبة للفيلم الأول (القاهرة بغداد) فلم تكن النتيجة ضعفاً فقد في المعالجة السينمائية بل ضعفاً في الأداء التمثيلي وذلك ما جعل سينما الحمراء الصيفي تحرص على كتابة تلك الجملة في إعلاناتها عن الفيلم (نسخة جديدة جرت فيها تعديلات عظيمة) عندما عرضته في اليوم الثالث من شهر تموز 1947 كمحاولة لجذب الجمهور الذي صدم بهذه الأفلام.
لكن إنشاء أول أستوديو سينمائي في العراق (أستوديو بغداد) جعل فكرة إنتاج فيلم عراقي صميم ممكنة التحقيق بعد ان تصورها الفنانون العراقيون حلماً صعب المنال، ولم تكن القصة هي العقبة الأساسية التي واجهت القائمين على تنفيذ ذلك المشروع خاصة بعد ان وقع اختيارهم على قصة (عليا وعصام) التي كتبها أنور شاؤول، بل كانت العقبة هي عملية الإخراج السينمائي ذاتها نظراً لعدم توافر المخرجين العراقيين الدارسين، لذلك تم الاتفاق على الاستعانة بالمخرج الفرنسي اندريه شاتان الذي تقاضى من شركة أستوديو بغداد مبلغ ثلاثة آلاف دينار نظير إخراج فيلم (عليا وعصام) كما تمت الاستعانة أيضاً بمهندس الإضاءة الفرنسي جاك لامار بينما تولى عبد الخالق السامرائي مسؤولية هندسة الصوت وقام يحيى فائق وأكرم جبران بمهمة مساعدة المخرج، اما الممثلون فكانوا جميعهم من العراقيين وفي مقدمتهم إبراهيم جلال الذي أدى دورين في الفيلم، دور (عصام) الابن ودور الوالد (الشيخ سعد) وأدى فوزي محسن الأمين دور (الأمير جسام) وأدى جعفر السعدي دور (الشيخ نايف) بينما أدى الممثل الكوميدي عبد الله العزاوي دور (مطشو)، ولم يكتف يحيى فائق بمساعدة المخرج، بل شارك أيضاً بجهده التمثيلي من خلال تجسيده لشخصية (ذياب) وقد أكد ذلك الفيلم ان العناصر النسائية لم تكن عقبة رئيسة بدليل انه ضم أربع ممثلات عراقيات (سليمة مراد) التي أدت دور (نائلة) و(عزيمة توفيق) التي أدت دور (عليا) و(اعتدال يوسف) التي قامت بدور (نبعة)، إضافة الى (أحلام إبراهيم) التي أدت دور (روضة)، وقد جسد الفيلم قصة الحب التي جمعت بين قلبي (عليا وعصام) لكن ذلك الحب الصادق حاصرته أحقاد عارمة بسبب صراعات قديمة بين قبيلة (عصام) وقبيلة محبوبته (عليا).
وقد عرض الفيلم أول مرة في مساء يوم السبت الموافق 12 آذار 1949 على شاشة سينما روكسي وتم تخصيص دخل ذلك الحفل لمصلحة الجيش العراقي، وقد استمر عرض الفيلم مدة أسبوعين ثم انتقل بعد ذلك الى شاشة سينما الارضراوملي ابتداءً من 4 نيسان 1949 مدة أسبوع واحد.
وفي 19 نيسان 1949 أي بعد أسبوعين من انتهاء عرض فيلم (عليا وعصام) نشرت الصحف ذلك الإعلان (تعلن إدارة أفلام محمد سلمان بأنها ستبدأ في إنتاج أول أفلامها في أستوديو بغداد قريباً جداً وأنها بحاجة الى وجوه جديدة من الفتيات العراقيات والمثقفات الرجاء ممن ترى في نفسها الكفاءة وترغب في الظهور في الفيلم ان تراجع الإدارة في عمارة روكسي بأقرب فرصة)، وكان ذلك الإعلان إيذاناً ببدء العمل في ثالث أفلام الإنتاج السينمائي المشترك، لكنه كان في هذه المرة إنتاجاً مشتركاً مع لبنان من خلال شركة أفلام محمد سلمان، ويبدو ان النجاح الجماهيري لفيلم (عليا وعصام) والإيرادات المادية الكبيرة التي حققها كانا الدافع الحقيقي لإنتاج الفيلم الجديد (ليلى في العراق) الذي أخرجه المخرج المصري أحمد كامل مرسي وكتب قصته ووضع ألحانه محمد سلمان.
وكان واضحاً ان أفلام الإنتاج المشترك لم تستوعب تماماً كل طاقات الممثلين العراقيين بدليل ان بعضهم لم يكن راغباً في انتظار تلك الأفلام حتى تأتي اليه، بل كان يفضل البحث عن فرصته السينمائية في أفلام يتم إنتاجها خارج العراق، وذلك بالضبط ما فعلته الفنانة العراقية نظيمة إبراهيم عندما شاركت المطرب المصري محمد الكحلاوي في بطولة فيلم (ابن الفلاح) الذي عرضته سينما ريجنت مساء الجمعة 22 نيسان 1949، ولم يكن فيلم (ليلى في العراق) الذي كتب حواره سليم بطي واعد له السيناريو مخرجه أحمد كامل مرسي لم يكن أفضل حالاً من فيلمي (القاهرة بغداد) و(ابن الشرق) فقد وقع في برائن القصة الملفقة الأحداث التي تكاد تكون صورة طبق الأصل لقصة الشائعة التي اعتمدت عليها كثير من الأفلام المصرية.
لقد كان واضحاً ان فيلم (ليلى في العراق) افتقد شيئاً بالغ الأهمية هو الصدق الفني الذي من دونه تصبح الاعمال الدرامية عاجزة عن الإقناع والتأثير، ولم يشفع للفيلم ذلك الحشد الكبير من الفنانين المشاركين في بطولته إبراهيم جلال وعفيفة اسكندر ومحمد سلمان وجعفر السعدي وعبد الله العزاوي، ولم تنقذه تلك الاستعراضات الغنائية الراقصة التي بهرت وأدهشت المتفرجين بعض الوقت، لكنها لم تستطع أخفاء عيوب الفيلم كل الوقت، وهكذا انتهت الأربعينيات من دون ان يقدم الفيلم العراقي المنشود الذي يعتمد اعتماداً كاملاً على الجهود العراقية تأليفاً وتمثيلاً وتصويراً وإخراجاً وإنتاجاً، وبرغم ان تلك الأفلام الأربعة (القاهرة بغداد) و(ابن الشرق) و(عليا وعصام) و(ليلى في العراق) قد اعتمدت على جهود بعض المنتجين والممثلين والفنيين العراقيين، الا انها جميعاً افتقدت (المخرج العراقي) الذي يقود العمل السينمائي ويوجهه التوجيه الواعي السليم.
وقد أصبح واضحاً مع نهاية الأربعينيات ان إنشاء الاستوديوهات ودور السينما ليس كافياً لخلق سينما وطنية ناهضة، فلابد قبل ذلك من توافر الكوادر الفنية اللازمة لكل قطاعات العمل السينمائي، ولابد أيضاً من توافر المناخ الاجتماعي والثقافي العام الذي يساعد على ظهور سينما وطنية حقيقية من خلال التشجيع الجاد للجهات الرسمية المسؤولة، فهل تحقق ذلك في الخمسينيات؟
أول مخرج عراقي
تضائل الأمل في إمكانية خلق صناعة سينمائية وطنية في العراق خاصة بعد إغلاق (أستوديو بغداد) وبعد فشل تجارب الإنتاج السينمائي الأولى، وسيطر على هواة الفن السينمائي ومحبيه نوع من الأسى العميق كاد ان يصل الى درجة اليأس، وأصبح السؤال الذي يؤرق الجميع ويشغلهم هو، هل من المعقول ان تمضي الخمسينيات أيضاً من دون ان تقوم لصناعة السينما العراقية قائمة؟ وظلت الأفلام الأمريكية والإنكليزية والفرنسية والإيطالية والمصرية والهندية تتلاحق فوق شاشات دور العرض السينمائي العراقية، إضافة الى الأفلام التركية التي عرضت في تلك الفترة (الله يجازيك) و(الغجرية الحسناء) و(أرزوقمبر) و(طاهر وزهرة)، وقد تم تصوير الفيلمين الآخرين في العراق، عرض الأول (أرز وقمبر) فوق شاشة سينما الرشيد ابتداءً من الخميس 3 شباط 1955، اما الثاني (طاهر وزهرة) فقد عرضته سينما الرشيد ابتداءً من الخميس 15 آذار 1956، كذلك وجد الفيلم الإيراني طريقه الى شاشات دور السينما العراقية مع بدايات الخمسينيات وكان أهمها (ليالي طهران) و(نرجس ومراد) و(ولكرد) و(قصة حياتي) و(فتاة شيراز) و(الأمير ارسلان) و(بنت الراعي) و(المليونير).
لكن عام 1954 جدد الأمل في خلق السينما الوطنية العراقية خاصة بعد إعادة افتتاح (أستوديو بغداد) وسرعان ما تضاعف العمل الجاد من أجل إنتاج أول فيلم عراقي صميم يتولى مهمة إخراجه لأول مرة مخرج عراقي هو حيدر العمر الذي أسندت إليه أيضاً مهمة السيناريو، غير ان فيلم (فتنة وحسن) الذي بدأت في إنتاجه شركة (دنيا الفن) صادفته ظروف غير عادية كادت تعطل إنتاجه وتنفيذه، لكن الخلافات سويت واستؤنف العمل من جديد في فيلم (فتنة وحسن) الذي انتظره الجميع بشغف بالغ، ويبدو ان سينما الرشيد أرادت ان تعيد للأذهان الأفلام السابقة التي شارك فيها فنانون عراقيون مع اقتراب موعد عرض أول فيلم عراقي صميم (فتنة وحسن) فأعادت في العاشر من شباط 1955 عرض فيلم (عليا وعصام) مدة أسبوعين ثم عرضت بعده مباشرة فيلم (ليلى في العراق)، وفي مساء الاثنين 20 حزيران 1955 تم عرض الفيلم المنتظر (فتنة وحسن) أول مرة في العراق على شاشات أربع دور للعرض في وقت واحد هي سينما القاهرة الشتوية وسينما الهلال الصيفية وسينما القاهرة الصيفية ببغداد وسينما الحمراء في البصرة، وقد استمر عرض الفيلم الذي أدى أدواره الرئيسة ياس علي الناصر ومديحة رشدي وعبد المنعم الدروبي وسلمى عبد الاحد وغازي التكريتي، وقد استمر العرض بداري سينما القاهرة الشتوية وسينما الهلال حتى 7 تموز 1955، وهكذا حقق فيلم (فتنة وحسن) نجاحاً جماهيرياً مدوياً فاق كل التوقعات وتخطى كل التصورات.
الگاردينيا: للأسف الشديد لم نفلح في معرفة أسم كاتب المادة..لذلك وجب الأعتذار..
811 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع