علاء الدين الأعرجي
نيويورك
منذ أن حلت الفوضى في العراق،تعرض المسيحيون العراقيون، كبقية فئات الشعب العراقي لكوارث متلاحقة.
ومنذ فترة قصيرة سمعنا عن تعرض بعض القرى المسيحية في محافظة نينوى( الموصل) بوجه خاص، لتهديدات واعتداءات واغتيالات. كما انفجرت خمس عبوات خارج إحدى الكنائس في بغداد، أدت إلى مقتل أربعة أشخاص وجرح قرابة العشرين. ويقول وليم وردية رئيس جمعية حقوق الإنسان في بغداد " أن بعض الإسلاميين الأصوليين لايريدون إبقاء أي مسيحي في هذا البلد"(رويتر). علما أن حوالي 12 الف من المسيحين غادروا الموصل، بسبب التهديد والوعيد والاعتداء، منذ تشرين الأول/ اكتوبر من العام الماضي. ويقدر عدد المسيحين الباقين في العراق بحوالى 750 ألف نسمة .
نحن بداية نرفض أن يكون التعامل مع أية فئة من أعضاء المجتمع العراقي على أساس ديني أوطائفي أومذهبي، بل على أساس المواطنة ليس غير. لذلك نرفض أن يجري استهداف المسيحيين بالذات، لصفتهم الدينية هذه، فيشعرون بالتهديد اكثر من غيرهم ، لكونهم مسيحيين وحسب، فهم عراقيون أقحاح قبل كل شيء، لهم حق المواطنة والعيش بسلام كأي مواطن آخر.
وبصرف النظر عن جميع الادعاءات والاتهامات التي تنال من المسيحيين العراقيين، في وقت أصبح العراق ساحة مفتوحة للمؤامرات التي يراد منها تدميره أو تقسيمه إلى دويلات أو كانتونات متفرقة؛ وبصرف النظر عن الجهات المتهمة بترهيبهم وتهجيرهم، ومنها بعض الحركات الكردية أو فصائل القاعدة، أو الحركات الإسلامية التكفيرية المتعصبة؛ نقول بصرف النظر عن كل ذلك، ولكن إخلاصا لكشف الحقيقة وشهادة لوقائع التاريخ القديم والحديث، لابد أن نوضح ونشرح، ولو باختصار، صفحات من تاريخ المسيحيين وفضلهم على الثقافة العربية الإسلامية ولغة الضاد واللحمة العربية، مما ساهم في إغناء الثقافة العربية.
المسيحيون في العراق.
إن المسيحيين العراقيين هم من السكان الأصليين في هذا البلد قبل الفتح الإسلامي.
وشأنهم شأن المسيحيين في الوطن العربي، يشكلون جزءا مهما من النسيج العربي واللحمة القومية العربية. وفي بلدي العراق حيث ولدت في بغداد ونشأت فيها، لم يكن هناك أي شعور بالتفرقة بين الأديان ولا بين المذاهب، ومن باب أولى .
بل كان للمسيحيين دور كبير في الثقافة والفكر والأدب واللغة. وكمثال واحد على ذلك نذكر بتقدير وإكبار دور الأب أنستاس ماري الكرملي، البغدادي المولد والنشأة (1866- 1947، من أم عراقية ووالد لبناني) ، فيما يتعلق بتعزيز دور اللغة العربية الفصحى وآدابها وتاريخها، في وقت تضافرت عليها الهجمات في مطلع القرن الماضي، حين بدأت حركة التتريك العثمانية. فقد اضطلع هذا العالم الضليع، الذي يتقن عدة لغات غربية وشرقية، بجمع مجموعة من المثقفين العرب من مختلف المذاهب والأديان بدون أي تفريق. وكان له مجلس ثقافي في كل يوم جمعة، حيث يجتمع إليه الأدباء والشعراء والكتاب ومنهم المؤرخ الكبير الأستاذ عباس العزاوي و الكاتب الصحفي المعروف رفائيل بطي ووالدي السيد صادق الأعرجي، وباقر الشبيبي ومحمد رضى الشبيبي ومن تلاميذه د. مصطفى جواد وكوركيس عواد. وله آلاف المقالات وعدد من الكتب منها " الفوز بالمراد في تاريخ بغداد" و"أغلاط اللغويين الأقدمين" و" نشؤ اللغة العربية ونموها واكتمالها" و"النقود العربية وعلم النميات" و" المعجم المساعد" كما قام بتحقيق الجزء الأول من كتاب العين للخليل بن احمد الفراهيدي، و" الإكليل " للهمداني. وقام الكرملي البغدادي بإصدر واحدة من أهم المجلات الشهرية التي كانت تعنى باللغة العربية والثقافة العربية باسم " لغة العرب"، منذ عام 1911 واستمرت حتى عام 1931. والجدير بالذكر أن الأديب المعروف كاظم الدجيلي، كان مدير تحريرها، (وهو من المثقفين الشيعة، وهو أمر لم يكن يستحق الذكر ولا يمكن أن يخطر ببالنا قبل الآن)، ومن كتابها الشيخ باقر الشبيبي والشيخ محمد رضا الشبيبي الذي اصبح في العهد الملكي وزيرا للمعارف ثم رئيسا للمجمع العلمي، وهما من أعيان الشيعة والعلامة محمود شكري الألوسي وهومن أعيان السنة، مما يدل على التعاضد والتعاون الذي كان سائدا بين الأدباء بصرف النظر عن المعتقدات والأديان.
ومن قصيدة لوالدي السيد صادق الأعرجي ، حول الانتماء إلى الوطن بصرف النظر عن اختلاف الأديان والمعتقدات، نقتبس هذا البيت الذي ذكره المؤرخ اليهودي الكبير مير بصري، الذي كان صديق والدي، للتدليل على تعايش العراقيين في سلام وتفاهم رغم تنوع الأديان :
رغم اختلاف الدين سوف يظلنا ----وطنٌ يوحدُ بيننا دُستوره
دورهم في الدولة الأموية
ودور المسيحين في الثقافة العربية الإسلامية ليس جديدا، بل يرجع إلى عصر الدولة الأموية في الشام حين استعانت تلك الدولة في إدارة الدولة الإسلامية، التي امتدت من حدود الصين شرقا إلى بحر الظلمات ( المحيط الأطلسي) غربا ، ثم إلى بلاد الاندلس شمالا؛ استعانت بالخبرات المحلية والإدارات البيزنطية. ولاسيما خبرات وعلوم المسيحيين السريان الذين كانوا يحملون لواء الثقافة اليونانية والبيزنطية. فقد استعان معاوية بسرجونَ بنَ منصور رئيسًا للديوان، وقنان بن متَّى كاتبًا، وابنَ أثال طبيبًا“ كما يقول أحمد أمين في كتابه ضحى الأسلام.
ومن العلماء المعروفين في ذلك العصر نذكر يعقوب الرُّهاوي (640-708 م ) الذي تَرجم كثيرًا من كتاب الإلهيَّات“ اليونانيّ. ولهذا الرجُل فضلٌ كبيرٌ في تعليم الناشئةِ من المسلمين. إذ أفْتى رجالُ الدِّين من النصارى بأنَّه يحلُّ لهم أن يُعلِّموا أولادَ المسلمين التَعليمَ الراقي. وهذه الفتوَى تدلُّ من غير شكٍّ على إقبالِ المسلمين، منذُ ذلك العصر، على دراسةِ العلوم والفلسفة على أيدي هؤلاء المعلمين . وتردُّد النصارى أوَّلاً في تعليمهم حتى أصدر يعقوب الرهاوي فتواه في إجازة تعليم غير المسيحيين. ولمَّا جاء دَورُ نقلِ الفلسفةِ والعلوم إلى العربيَّة في العهدِ العبَّاسيّ، كان لهؤلاء السريانيِّين الفضلُ الأكبر في التَرجمة، أمثال حُنَين بن إسحاق، وابنِه إسحاق، وابن أختِه حُبَيش.
دورهم في العصر العباسي
وفي العصر العباسي قام أبو جعفر المنصور باستقدام الطبيب جورجيس بن بختيشوع إلى بغداد. وظلت أسرة "بخت يشوع" ثلاثة قرون تتمتع بمكانة كبرى لدى الخلفاء العباسيين ووزرائهم وعلمائهم ، للاستفادة من علمهم في الفلسفة والطب واللغات، مما أسهم في بناء صرح الحضارة العربية الإسلامية التي ازدهرت في القرون الوسطى .
ومن أشهر علماء هذه الأسرة يوحنا بن ماسويه، الذي عينه المأمون رئيسا لدار الحكمة، أكبر مؤسسة ثقافية علمية في العالم، في ذلك العصر. وقد تتلمذ حنين بن اسحق على يد هذا العالم الجليل، فاصبح أشهر المترجمين لكتب الفلسفة الإغريقية من اللغة اليونانية أو السريانية إلى العربية . وهو من أهم المترجمين الدقيقين الذين يشيد بفضلهم الدكتور عبد الرحمن بدوي في موسوعة الحضارة العربية الإسلامية.
دورهم في الثقافة العربية الإسلامية في عصر النهضة الحديثة
أما في عصر النهضة العربية الحديثة، فقد اضطلع المفكرون والأدباء المسيحيون بدور متميز في الثقافة العربية الإسلامية وكانوا أول من رفع لواء القومية العربية عاليا ضد حملة حركة التتريك العثمانية. وهكذا فقد حافظوا على اللغة العربية وآدابها، وبادروا إلى وضع المعاجم المفصلة للغة العربية . ونذكر من جملة هؤلاء البارزين، على سبيل المثال ، المعلم بطرس البستاني مؤسس أول مدرسة عربية حديثة، وأول معجم عربي مطول حديث باسم " محيط المحيط"، الذي يحتوي على مفردات القاموس المحيط للفيروزابادي، بالإضافة إلى ما استجد في اللغة العربية من ألفاظ ومصطلحات حديثة، فضلا عن أول موسوعة عربية جامعة، منذ عام 1875(دائرة المعارف )، واول صحيفة عربية راقية أسمها " نفير سورية". كما أنشأ الأب لويس معلوف أول معجم عربي مختصر أسمه "المنجد" بمجلد واحد، كان وما يزال مرجعا ضروريا لجميع الدارسين والكـُتاب العرب، لاسيما قبل صدور "المعجم الوسيط" . وأتذكر أن هذا المعجم هو المفضل لدى والدي، وقد علمني منه كيفية البحث عن معنى الكلمة المبهمة. ومن هؤلاء المسيحيين الذين قدموا عطاءات ثمينة للمكتبة العربية أذكر بكل اعتزاز؛ جورجي زيدان مؤسس "مجلة الهلال" الغراء في عام 1892، التي ماتزال تصدر في القاهرة، ومؤلف العديد من الكتب ومنها أول كتاب في "تاريخ العرب قبل الإسلام". وهو أول من حاول إعادة كتابة التاريخ العربي الإسلامي، من خلال تدبيج الروايات التاريخية الرائعة ذات المغزى العميق والأسلوب الرقيق . ومنهم العالم الكبير شبلي شميل، وسليم تقلا مؤسس صحيفة الأهرام منذ عام 1875، و يعقوب صروف ، وفارس نمر من مؤسسي المجلة الذائعة الصيت، "المقتطف" التي تخصصت في البحوث العلمية والفكرية والأدبية الراقية، وذلك منذ عام 1876. ومنهم ناصيف اليازجي وابراهيم اليازجي(1847- 1871) صاحب القصيدة المشهورة التي تشير بعض أبياتها إلى مدى حماس هذا الشاعر الموهوب لقضية الأمة العربية، وغفلة العرب عن خطورة ما تتعرض له بلدانهم من خراب ودمار، مادي ومعنوي. وأقتطف منها بعض الأبيات فقط :
تنبهوا واستـفـيـقـوا أيـــها العربُ فقد طغى الخطبُ حتى غاصتْ الرُكبُ
فِيمَ التـّــعَـلّـُـلُ بِالآمَـال تَخْدَعُـكـُم وَأَنـْْـتـُُــمُ بَيْنَ رَاحَاتِ القََنَـا سُلـبُ
اللهُ أَكْبَـرُ مَا هَـذَا المَنَـامُ فَقَـدْ شَكَاكـُـمُ المَهْدُ وَاشْـتــاقَـتـْـكُمُ التــُّـرَبُ
كَمْ تـُظْـلَمُونَ وَلَستـُمْ تَشْـتَكُونَ وَكَمْ تـُسْـتَغـْـضَبُونَ فَلا يَبْدُو لَكُمْ غَضَـبُ
أَلِفـْتـُُمُ الْهَوْنَ حَتى صَارَ عِنـْْدَكُمُ طَبْعَاً وَبَعْـضُ طِبَـاعِ الْمَرْءِ مُكـْتـَـسَـبُ
وَفَارَقَـتـْكـُمْ لِطُولِ الذ ُلِّ نَخْوَتـُُـكُمْ فَلَيْسَ يُؤْلِمُكُمْ خَسْفٌ وَلا عَطـبُ
فَصَاحِبُ الأَرْضِ مِنْكُمْ ضِمْنَ ضَيْعَتِهِ مُسْتَخْـدَمٌ وَرَبِيبُ الدَّارِ مُغْـتـَـرِبُ
ومع مرور قرابة قرن ونصف على هذه القصيدة، نلاحظ أنها ما تزال تنطبق بكل أسف على حال العرب، مما يدل على أننا لم نتقدم قيد أنملة ، بل ما تزال معضلاتنا تتفاقم وبلدنا يضيع، بسبب ضعفنا على مختلف المستويات وتخلفنا الحضاري.
وفي مطلع العشرينيات من القرن العشرين تشكلت "الرابطة القلمية" هنا في نيويورك، على أكتاف نخبة من المسيحين المهاجرين من بلاد الشام ، حيث فجرت أول حركة فكرية أدبية عربية في العالم الغربي، انتقلت إلى الوطن العربي فشكلت ثورة أدبية طورت اللغة العربية . فقد أصبحت أعمال جبران خليل جبران، أبرز أعضائها، تتصدر واجهات مختلف مكتبات أمريكا و أوربا، منذ ذلك العصر حتى الآن، باعتبارها من عيون الأدب العالمي . ومن أعضائها الكاتب المعروف ميخائيل نعيمة وعبد المسيح حداد ورشيد أيوب وندره حداد و نسيب عريضة ووليم كاتسفليس . وكانت تنشر أعمالها في مجلة "الفنون" وصحيفة "السائح".
في الفترة المعاصرة
ونذكر من جملة المسيحيين الذين لهم دور كبير في الثقافة العربية والفكر العربي المعاصر، والكفاح الوطني :
سلامة موسى وأنطون سعادة وقسطنطين زريق، وجورج طرابيشي وجورج حبش وميشيل عفلق وجورج قرم وعزمي بشارة وكلوفيس مقصود وأدوارد خراط وناصيف نصار ولويس عوض وفؤاد زكريا وكمال اليازجي وأنطون غطاس كرم وغالي شكري ونادر فرجاني وأنطوان زحلان وجورج صليبا وخليل رامز سركيس وفرانسوا باسيلي، و غيرهم الكثير، ومنهم أخيراً وليس آخراً، أسرة مجلة" صوت داهش" الغراء، من د.غازي براكس والشاعر الأديب طوني شعشع، (إلى أمين المكتبة الأستاذ محمد المصري)، التي أعتبرها من أهم المجلات الأدبية والفكرية التي صدرت في المهجر بوجه عام.
وختاما ً أرجو أن نتعاون شعباً وحكومة لوقف هذ ه الجريمة والنزيف الذي يؤدي إلى حرمان العراق من ثروة بشرية وتنوع ثقافي ، نظراً لتزايد أعداد المسيحين العراقيين المهاحرين بسبب هذا الاضطهاد والتهديد.
1433 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع