جدرانها تحكي أسرار وقصص الأزمنة الماضية
الصباح/بغداد – آمنة عبد العزيز:بيوت المشاهير والشخصيات المؤثرة من اهل بغداد تكاد تضج بالأسرار والقصص والصراع والابداع والجلسات حتى آخر لحظات الفناء , وفوق جدران تلك البيوت علقت صورهم مع صور أخرى لشخصيات بارزة، وتزداد أهمية تلك البيوت لانها بنيت بنوعية من طراز معماري فريد، فكل دار منها تنم عن ذائقة متفردة تعكس شخصية ساكنها .
في السنوات القليلة الماضية بدأت تغيب تلك البيوت بسبب ورثة أولئك المشاهير , وينتظر المتبقي منها من ينقذه للبقاء كشاهد وتراث جميل يستقطب المتابعين ويحكي قصص أزمنة خلت.
حق الأجيال
تحدث المؤرخ الكبير سالم الآلوسي عن تلك المساكن التي تعود لأسماء مهمة في تاريخ العراق وفي بغداد تحديدا موضحا، للأسف الشديد هناك فجوة كبيرة في فهم الممتلك العام والإرث الإنساني والثقافي للبلد ومن ثم ضياعه بأبخس الأثمان على يد ورثة تلك الأسماء الراحلة عن دنيانا، وهذا لم يأت من فراغ بل هو نتيجة قصور فكري وعدم تثمين الملك من ناحية قيمته المعنوية والأثرية بعد سنوات, ففي بغداد توجد العشرات من القصور والبيوت والمساكن التي تختلف بأحجامها وطراز بنائها لكن أهميتها تنبع من قيمة الشخصية التي كانت تقطنها, ولهذا حينما يتخلى عنها الورثة ببيعها بأثمان لا تساوي أهميتها، فهنا يُرتكب اعتداء كبير على تلك الشخصية, فمن الأجدر والحري بمن يبيع سكنا لاسم معروف ومهم وله تأريخ كبير أن يبقي عليه من أجل الحفاظ على تلك القصص والحكايات التي لا ينضب معينها.
وأضاف الآلوسي هي عملية مشتركة في الحفاظ على تلك البيوت بين الجهات الحكومية والورثة والاتفاق على شرائها وتحويلها الى متاحف تكون مرجعا لتعريف الأجيال جديدة بها، وهذا الأمر بات مهما مع تواصل عمليات الهدم بين الحين والآخر لبيوت المشاهير من أهل العلم والثقافة والسياسة.
في منطقة (الوزيرية)، على سبيل المثال تزدحم ببيوت لأسماء وشخصيات تمثل زمنا مهما، فالراحل الفنان جواد سليم صاحب أشهر عمل نحتي (نصب الحرية) الذي سجل ضمن التراث الانساني لمنظمة اليونسكو العالمية , بيع منزله وهدم من قبل الورثة ولم تسعف انقاذ البيت المناشدات الكبيرة لتحويله إلى متحف خاص بالراحل الكبير يضم مقتنياته, هذا ما تحدث عنه الأستاذ الدكتور والباحث في التأريخ الحديث علي النشمي، وأضاف "غصة كبيرة أن يتحول الجمال الى فناء وعدم، فالبناء يكتمل بمن يسكنه وحينما يغيّب الموت تلك الأسماء تغيب معه آخر ذكرياته ومقتنياته", فمن الحري بالمؤسسات الثقافية والجهات ذات العلاقة أن تشكل لجنة تتابع تلك المنازل وتحميها من الزوال بكل ما أوتيت من سلطة مالية كانت أو قانونية أو انسانية كي لا تحول الى ركام تندثر معه صور الابداع بشخوصها. وعلى بعد أمتار معدودات من وجه دجلة ينزوي بملامح الزمن العتيق بيت (سليمة باشا) المطربة العراقية التي حملها نوري السعيد لقب باشا لأول امرأة في زمانها, وكما يقول صاحب الدار القريب للمنزل أرقم البغدادي40 عاما: كنت أسمع من والدي -رحمه الله- إن بيت الفنانة المطربة الراحلة سليمة مراد هو بيت بسلالم أربعة مرتفعة عن الشارع وتطل شرفات غرفه على واجهة النهر الذي طالما حاكته بصوتها الحزين الرخيم وكان يقول: هي سيدة عراقية من طراز متفرد، قوية الشخصية، بشوشة الطلعة، بسيطة محبة لجيرانها, لذا كان البيت محط أنظار ومتابعة من قبل الجيران كون الذين يترددون على منتداها وصالونها الأدبي من مثقفين ورجال سياسة، وهي تصدح بصوتها (أيها الساقي اليك المشتكى)., وطال الهدم تلك الدار قبل سنوات بعد أن تهالك البناء ولم يعد موجودا الا في ذاكرتي وذاكرة البعض من جيران الأمس البعيد.
وفي محلة 306 من شارع نجيب باشا في حي المغرب يقع بيت العلامة والمفكر الكبير الراحل محمد بهجت الأثري الذي رحل في منتصف التسعينيات من القرن الماضي، هكذا تحدث السيد ماهر حسن المالك الجديد للدار وأضاف قائلا: كانت تربطني علاقة صداقة بأحد ابناء الأثري وهو السيد سناء بهجت الأثرين وعرفت منه ان هناك نية لبيع المنزل وتقسيم الورث بين أخوانه، والحقيقة كنت من اشد المعجبين ببناء الدار الذي يتميز بطراز معماري انكليزي وشرفاته المغلفة بحجر (القرميد) الأحمر حتى الشبابيك لها طابع زخرفي من الحديد، صعب أن يتم صناعته الآن , وعرضت عليه الشراء بجزء من المساحة المشيد عليها البناء وتبلغ 250 مترا مربعا من أصل المساحة الكلية 800 م فكان المتبقي هو الحديقة وبالفعل كنت محظوظا بهذه الصفقة التي تكمن بين جوانبها صدى الأصوات لشخصيات زارت البيت وجلست الى العلامة الأثري ومنهم الملك الحسن الثاني والملك الحسين بن طلال ورؤساء دول عربية أخرى كل هذا شاهدت من خلال صور في ارشيف الراحل من خلال ولده سناء الذي ترك العراق مهاجرا, واختتم السيد ماهر قائلا : كنت أتمنى لو حصلت على السيارة القديمة التي أهداها الملك الحسين بن طلال للراحل فقد باعها نجل الأثري لأحد هواة جمع السيارات القديمة وقيمتها برأيي لا تقدر بثمن، ولكني سأحافظ على الدار وأبقي على جميع ملامحه البنائية ولن أغير به شيئا بل سأحاول اعادة ترميمه واحياء جوانبه المتآكلة بفعل تقلبات المناخ والزمن.
وكذلك في حي الوزيرية مازال بيت رفعت الحاج سري أحد الضباط الأحرار يقاوم البقاء وبقي ورثته محافظين عليه من الهدم أو بيعه وكما تحدث السيد عمر مجيد جبوري الذي يسكن بجوار بيت رفعت الحاج سري مبينا ان" البيت مازال تسكنه السكينة والهدوء حتى مذ كان ساكنه موجودا، فالعائلة الكريمة معروفة بالمحافظة الشديدة ولم تكن هناك مظاهر البيت تنم عن سكن الشخصية المهمة في ذلك الوقت وحتى الآن فالبساطة والتواضع في تفاصيل البناء فهو بيت عادي جدا ومساحته 600 م هي مساحة البيوت في تلك الفترة من الخمسنيات, والدار هي الآن دلاله مهمة في شارعنا لمن يريد الاستدلال على مكان قريب منه".
لكن من المؤلم حقا أن يهدم ذلك البيت الذي تربت وترعرعت به أول وزيرة في العراق والشرق الأوسط الراحلة نزيهة الدليمي, وكنت قد زرت هذا البيت قبل خمسة أعوام وأنا أجري حوارا مع شقيق الراحلة السيد هشام الذي فتح لي قلبه وتكلم عن مفاصل مهمة من حياة شقيقته الراحلة واهداني بعضا من صورها القديمة وكنت في حينها متشوقة لمعرفة زوايا المكان وتحديدا غرفة الوزيرة العراقية وما شكلها وفعلا في الطابق العلوي أصطحبتني زوجة السيد هشام وكانت الغرفة بكل محتوياتها كما هي سرير ودولاب ملابس ومكتب صغير بقرب نافذة تطل على الحديقة الخلفية حتى بقايا من ثياب نزيهة كانت معلقة بدولابها, وفي حينها قلت ماذا لو تتحول هذه الدار الى متحف ؟ أجابني السيد هشام الأمر متروك لمن يهتم بهذا الأمر ونحن ورثة قد نضطر لبيع المنزل لحاجتنا للمال , وبعد أن حصلت على هاتف نزيهة الدليمي بألمانيا أجريت معها حوارا عبر الموبايل وقلت لها غرفتك مازالت تنبض برائحتك وسكونها ينتظرك؟ قالت المكان لم يعد يجذبني بعد رحيل أغلى ناسي وهم كل ذاكرتي وذكرياتي !! واليوم تحول ذلك البيت بكل ذكرياته الى ( سبع دور ) من بناء اليوم وبمساحات لا تعترف أنها بنيت على أنقاض بيت أمرأة عراقية وأول وزيرة عراقية في الدولة العراقية الحديثة.
السيد علي الوردي أحد أحفاد عالم الاجتماع الدكتور علي الوردي تحدث عن البيت الذي مازال قائما ومتماسكا فقال: تبلغ مساحة الدار ما يقارب الألف متر ولكونه ( ركنا ) تعطي مساحة أكبر والحديقة هي جزء مهم فقد شهدت أهم الجلسات لأدباء ورجال سياسة ممن كانوا يتوافدون للقاء جدي، وفي داخل البيت مكتبته التي لا تقل أهمية عن الحديقة حيث تحوي على نفائس الكتب والمخطوطات بيد جدي - رحمه الله- , واختتم قائلا: ليست هناك نية في التفريط بهذا المكان فهو جزء من تواصل مع جدي الراحل.
وحتى كتابة هذا التحقيق مازال هناك أرث كبير تضج به مناطق مختلفة من بغداد لبيوت لشخصيات عراقية بمختلف جوانب الحياة تنتظر أن تكون ضمن دائرة الاهتمام وأن لاتطالها يد الهدم والفناء مثل, بيت رئيس الوزراء نجيب الربيعي المهجور والموجود في حي المغرب وبيت الوزير مصطفى سعيد وبيت الوزير في العهد الملكي فؤاد عارف وغيرها من المنازل المهمة.
426 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع