نظام صدام حسين 1979 – 2003 بعد سقوط النظام سُرقت كنوز لا تُقدر بثمن من المتحف الوطني وأحرقت المكتبة الوطنية ودُمِّرت البنية التحتية تدميراً واسعاً تأليف المؤرخة الأميركية د.فيبي مار
تأليف المؤرخة الأميركية د.فيبي مار
ترجمة: مصطفى نعمان أحمد
تمثلت العاقبة المباشرة للانتصار العسكري في الصعوبة الكبيرة للمهمة التي تواجه الولايات المتحدة والمملكة المتحدة لضمان السلام واستبدال الديكتاتورية التوتاليتارية. فسقوط صدام حسين وأجهزته الأمنية أعقبته أعمال نهب وهياج واسعة النطاق. كان الدمار فادحاً. فكنوز لا تُقدر بثمن سُرقت من المتحف الوطني، بضمنها آثار معروفة عالمياً، وجرى إحراق معظم المكتبة الوطنية وتدميرها. وفضلاً عن ذلك، فإن أقساماً واسعة من البنية التحتية العراقية ـ المستشفيات، والمدارس، وشبكة الكهرباء، والمنشآت النفطية ـ أُلحقت بها أضراراً بالغة، الأمر الذي أوجد مشكلة رئيسة أمام إعادة الإعمار. فدرجة الأضرار وانتشارها ـ ولاسيما في مجال الملكية الفكرية ـ أماطت اللثام عن مدى اضمحلال مسؤولية المواطنة في العراق بعد عقود من سوء الحكم. وبدت عملية استعادة القانون والنظام في أعقاب الحرب بطيئة على المدى القادم. ففي المناطق المحلية، فإن تنوعاً من الزعماء العراقيين الجدد، من رجال دين شيعة ذوي مراتب دنيا إلى زعماء عشائريين وبعثيين سابقين، نادوا بموقع لهم في النظام السياسي الجديد، الأمر الذي يدل على انبعاث سياسة القاعدة الشعبية وتبلور صراع جديد على السلطة. وبات ينظم لهم زعماء المعارضة المنفية، كأحمد الجلبي، الذي عاد إلى بغداد لإرساء قاعدة له في البلاد. كل هذه الأنشطة دلت على أنه من دون وجود يد حازمة نسبياً للإدارة الوطنية في بغداد، فإن العراق سرعان ما سيبدأ بالتشظي إلى مكونات إقليمية ومحلية.
صفحة العراق الجديدة
إن اتجاه العراق المستقبلي يكتنفه الغموض. وسواء أكان بمقدور العراق كدولة اتخاذ اتجاه جديد والبدء بالإفادة من بعض إمكاناته الواضحة أم أنه سيغوص في الوحل مرة أخرى، في المشكلات التي عصفت به في الماضي فإنه سؤال لم تتم الإجابة عليه ، ومع ذلك، فإن سقوط نظام صدام حسين وفرض الحكم الأجنبي يشيران إلى أن تغييراً ما قادم إلى العراق. غير أن قوى التغيير سيتوجب عليها التصارع مع تقاليد ثقافية وتاريخية راسخة ـ وفي الأقل في التاريخ المعاصرـ مع سجل كفاءة مثير للشفقة. ولإحداث نظام سياسي واجتماعي أكثر استقراراً ـ وعدالة، فسيتوجب على حكام العراق الجدد، أكانوا أجانباً أم من أبناء الوطن، التعامل مع المهام الثلاث التي أربكت السياسة العراقية منذ تأسيسها.تتمثل المهمة الأولى في تعزيز التماسك الوطني العراقي المستند إلى درجة من الإجماع أعلى مما كان سائداً في الماضي. والكيفية التي سيتعامل بها العراقيون مع هذه المسألة ستحدد سواء ستستمر (الدولة ـ الأمة) وتمضي قدماً أم سيتبلور نظام حكم أكثر مركزية ـ بل حتى انهيار للدولة. ولاستعادة حس بالوطنية، ينبغي إحياء حس بالهدف والمصير المشتركين بين المكونات العراقية والطائفية العراقية، والمجموعات العشائرية والقبلية، والطبقة الوسطى الحضرية النشيطة.وتتمثل المهمة الثانية في التطوير الاقتصادي والاجتماعي المتجدد. فبسبب قاعدة الموارد العراقية المناسبة، فإن هذه المشكلة تعد أكثر سهولة عند التعامل، بيد أن العراق شهد تآكلاً كبيراً لبنيته التحتية المادية والبشرية. فالتدني في نظام التعليم في العراق، وعزلته عن التقدم الفكري في الخارج، ونضوب الطبقة الوسطى الماهرة قد تستغرق عقوداً لإرجاعها إلى حالتها الطبيعية. ويتمثل الأمر الأهم في مسألة السياسة الاقتصادية. فللعراق، شأنه شأن دول الخليج الأخرى، اقتصاد يعتمد على موارد النفط، تسيطر فيه الدولة على عوائد النفط وتقوم بتوزيعها على المواطنين. هل بالإمكان تطوير اقتصاد جديد يعتمد على السوق، اقتصاد يشجع المبادرة، ويوسع حجم الملكية، ويقلل من الأهمية الاقتصادية للحكومة؟ ففي حالة عدم حصول تطوير اقتصادي، فإن تحجيم سلطة الحكومة المركزية سيكون أكثر صعوبة.وينبغي أن يرافق التطوير الاقتصادي تطوير لمؤسسات المجتمع المدني. وهذا لن يتحقق إلا من خلال تعزيز النقابات المهنية الموجودة سابقاً (المحامون، والمعلمون، والقضاة، والصحفيون)، ونقابات العمال، والمجاميع النسوية بطرق تساعدها في إعادة ترسيخ المستويات المهنية وتجعلها مصداً للحكم الاستبدادي. والمجتمع المدني بحاجة أيضاً إلى إيجاد وسائل لاستعادة حس بالمسؤولية الفردية وإبعاد الشعب عن سلبيته واعتماده على الحكومة.وتتمثل المهمة الثالثة والأخطر في أن العراق ينبغي أن يتعامل مع مشكلات متعددة للحكم شكلت صميم مصاعبه وهي المسؤولة عن وضعه الخطر. فيتوجب عليه تطوير مؤسساته الوطنية والمحلية القادرة على تمثيل طوائفه وطبقاته المختلفة فضلاً عن الأفكار والبرامج المختلفة. ومع ذلك، فالتمثيل لن يكون كافياً؛ والمؤسسات الجديدة، وقادتها سيتعين عليهم تطوير بعض المهارات والمواقف المتعلقة بالإدارة في مجتمع أكثر انفتاحاً. وهذه الأمور يفتقرها العراق على نحوٍ مؤلم. فالتقليد العلماني، الليبرالي الذي يؤيد بقوة هذه المبادئ الديمقراطية في السياسة لم يكن غائباً في العراق، ولكن وكما يشير هذا السرد، كان ضعيفاً ومفقوداً مراراً في العملية السياسية. ولكي يكون فاعلاً بصورة معقولة، سيتوجب على أية حكومة جديدة تعليم كيفية تعبئة الجمهور خلف البرامج؛ والتسوية مع المعارضين وتحمل الخسائر. وهذا أمر لا يتعلق ببساطة بالمؤسسات بل في القيم والثقافة السياسيتين اللتين تتطلبان وقتاً لتطويرهما.وأخيراً، فإن إحدى أهم المسائل المتعلقة بمستقبل العراق تعد جديدة وقديمة في آنٍ واحد. وتتمثل في دور القوى الخارجية في توليد التغيير وإقامة مؤسسات جديدة وصيغ للحكم. فالولايات المتحدة ـ بمساعدة حلفائها كالمملكة المتحدة ـ اضطلعت بالدور الكلاسيكي للقوة الامبريالية. وهي تواجه الآن المأزق نفسه الذي واجهته بريطانيا في 1920. فمن ناحية، يتعين عليها ضمان تلبية المصالح الأمريكية؛ وهذا يعني إيجاد قيادة في العراق راغبة بتلبية بعض الأهداف والمصالح الأمريكية، المتعلقة بأسلحة الدمار الشامل، والإرهاب، والعلاقات مع دول الجوار، بضمنها العلاقات مع إسرائيل. ومن ناحية أخرى، ذكرت الولايات المتحدة أنها تنوي إيجاد حكومة أكثر ديمقراطية وحرية للمواطنين العراقيين. لكن ماذا لو تعارض هذان الهدفان؟ فالحرية الأوسع قد تتمخض عن قيادة تواقة لإنهاء الاحتلال والالتزام بأهداف تتعارض والمصالح الأمريكية. وفي النهاية، وضع البريطانيون موارد قليلة بأيدي العراق وغادروا مبكراً، لكن توجب عليهم إعادة احتلال البلد في وقتٍ لاحق، في 1941. فهل سترغب الولايات المتحدة بتكريس الوقت، والموارد، والجهد في عراق "متغير"؟ أم هل ستحاول تحقيق أهدافها باقتصاد وموارد، ولا تحقق في النهاية سوى تغيير ضئيل؟ والأهم، كم ستواجه من معارضة في بلد ذي تراث كبير في مقاومة الاستعمار؟ وهل ستسهم هذه المعارضة في عرقلة التعاون العراقي في المؤسسات السياسية والاتجاه الجديد الذي يحتاجه العراق؟فعلى المدى القصير، سيكون العامل الخارجي حاسماً في تحديد اتجاه التغيير. وعلى المدى البعيد، فإن العراقيين أنفسهم هم الذين يحددون مستقبل بلدهم. فسقوط نظام صدام حسين وفر فرصة للتغيير، غير أن رؤية العراقيين، وموقفهم، وقيادتهم ستحدد مدى اتساع التغيير والمسار الذي سيتخذه.
694 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع