صور مأساوية لعوز وحكايات فقر لا تنتهي في قلب بغداد

   

المدى/بغداد/ يوسف المحمداوي:شردت بسحرها معلقات الشعر وصدحت بجمالها  وفتنتها الأغاني، حِلم الطامحين في الترف بعروس العواصم،حار في وصفها الفلاسفة والرحالة الأجانب والعرب ،قال عنها الجاحظ "أم الدنيا ،من لم يرها لم ير الدنيا ولا الناس " كل شيء فيها يحيلك الى ألق وحضارة هل كان الراحل نزار قباني غير جاد وهو  يقول "عيناك يا بغداد منذ طفولتي

...شمسان نائمتان في أهدابي ...لا تنكري وجهي فأنت حبيبتي ...وورود  مائدتي وكأس شرابي"،أتمنى ان تتحقق نبوءة الشاعر مصطفى جمال الدين حين يقول "بغداد ما أشتبكت عليك الأعصر...الا ذوت ووريق عمرك أخضر" ،هل يحق لنا اليوم ان نغني مع سيدة الغناء العربي أغنيتها (بغداد يا بلد الرشيد....ومنارة المجد التليد)، ونحن نذرع شوارع مدينة لا تشبه بغداد باي ملمح او صورة.

  

لا تستغرب على من  فارق بغداد في سبعينات القرن الماضي  ويمر وسطها الآن وفي مركزها التجاري" الباب الشرقي" ان يقول هذه ليست عاصمتي، نعم اغنى عواصم العالم  مالا  وجاها وحضارة اليوم ترزخ بالخراب والفقر والعوز في ظل رفاه وثراء الساسة الجدد الذين جعلوا من بغداد ثكنة عسكرية تقطع أوصالها السيطرات الأمنية والحواجز الكونكريتية، وطوابير الزحامات  اصبحت عنوانا دائما  لشوارعها ،وارصفتها محال لبسطيات العراقيين الذين لم يجدوا فرصة للعمل في دوائر الدولة بعد ان اصبحت المحسوبية والفساد هما الباب الشرعي للتعيين، (المدى) طافت بمركز بغداد لتنقل لكل عراقي غيور على وطنه سواء من الساسة او المواطنين مأساة العاصمة وكيف يعتاش شعبها الذي يجلس وسط سفينة هائلة من الثروات ذهبت معظمها الى أرصدة  المسؤولين في الخارج ورواتبهم التي شرعوها بأنفسهم دون رادع او رقيب ليضربوا الرقم القياسي في حجم الفساد السياسي عالميا، بعد ان أثارت تقارير دولية بان حجم ثروة السياسيين العراقيين بلغت (700)مليار دولار!!!؟؟؟؟؟؟؟؟؟.

   
قصة عبد رواية كمد
عبد حسين رجل يبلغ من العمر (58)عاما وجدته في مكب قمامة وسط شارع الجمهورية يبحث عن علب معدنية فارغة(قواطي عصائر) ،تقرأ من ملامحه التي بدت لي بانه تجاوز السبعين من العمر العوز ورائحة الشكوى قال لي بحسرة ومرارة انه يحصل مقابل كل(60) علبة على مبلغ (400)دينار نعم (400)دينار  يا ساسة الفساد وتدعون الدين ، ويضيف حسين للمدى ان دخله اليومي لا يتجاوز الاربعة آلاف دينار بعد ان يقضي نهاره كاملا في البحث وسط مكبات القاذورات غير آبه بمرض ،فمهمته إعالة عائلته المكونة من خمسة افراد ،عبد حسين الذي يسكن مدينة الصدر يقول  انه يذهب الى مدينته سيرا على الاقدام  لتوفير ثمن الاجرة لأن يوميته لا توفر له غير الخضار ،معتمدا على يومية ابنه صالح الذي ترك المدرسة ويعمل في نفس المهنة لشراء وجبة الفطور، ويؤكد حسين ان الدولة حين تقوم بحملة ضد المتسولين تقوم باعتقالنا ايضا لانهم يعدونا من المتسولين بحسب قوانينهم كما يقول حسين الذي ابكاني حقيقة بحسب الأوضاع التي يعيشها هذا العراقي الشريف الذي لم تسول له نفسه مد يده على مال الناس كما يفعل بعض الساسة او الضلوع بجرائم ضد مجتمع حكم عليه بكل هذا البؤس والإهمال.


العمل حتى في العيد
خالص علي  من مواليد 1966 من سكنة الكمالية وجدته ناثرا بضاعته على الرصيف وهي مجموعة من الجواريب  وكان صوته وكأنه يستجدي من المارة على الشراء وكان سعرها مناسبا اذا ما قورن ببيعها في المحال حيث كان سعرها ثلاثة أزواج من الجواريب بألف دينار وبين علي للمدى انه متزوج وله ولدين  وانه يشتري تلك الجواريب من محال الجملة وان مجموع مورده اليومي يتراوح ما بين 10-12الف دينار، ويضيف انه التجأ الى منطقة باب الشرقي بعد ان قامت الأمانة بغلق بسطيته في منطقة الأمين الثانية التي هي اقرب الى منطقة سكناه الكمالية، ويقول علي الذي هو خريج إعدادية التجارة انه راجع العديد من الدوائر في سبيل الحصول على وظيفة لكن جميع الدوائر رفضت تعيينه بسبب عمره المتقدم  والكبير كما قالوا له ،وبعض الدوائر طلبوا منه المال في سبيل التعيين ولكنه لم يكن يملك المال الذي طلبوه بحسب قوله، مبينا انه يضطر العمل حتى في العيد والعطل لان الغياب يوم من العمل يعني يوم جوع للعائلة كما يقول مؤكدا ان يوم الأحد هو اليوم الذي يكون البيع فيه قليلا على عكس بقية الايام دون ان يعلل سبب ذلك.


جواد سليم وفيروز
أرصفة بغداد محال مفتوحة على مصراعيها للعوز والحرمان ومعرفة العاصمة على حقيقتها المرة ،تفوح من تلك الارصفة رائحة الفقر كشاهد ودليل قطعي على ان بغداد في ذروة الدمار والخراب بعد ان حولتها ديمقراطية التغيير الى مدينة يضرب بها المثل بالحزن وكل شيء فيها يصرخ مع الماغوط "الفرح ليس مهنتي" ،زرت العديد من العواصم الأجنبية والعربية التي لا تصل موازناتها الى ربع موازناتنا الانفجارية ،وللاسف تجدها مدنا مترفة ،تشعر بالفرح على وجوه مواطنيها ،تحس بالامل والتفاؤل سمة احلامهم بمستقبل أجيالهم القادمة، يبنون لمستقبل ونحن ندمره بجميع ادوات الظلام والجاهلية ،انا على ثقة لو كان يعلم الفنان الراحل جواد سليم ما تنشر من لافتات نعي وعزاء وسط ساحة نصبه لفكر الف مرة قبل إقامته ،وانا واثق تماما وجازما لو ان الملكة فيروز تشاهد بغداد الان لترددت  في اطلاق اغنيتها الساحرة "بغداد والشعراء والصور...ذهب الزمان وضوعه العطر...يا ألف ليلة يا مكملة الاعراب...يغسل وجهك القمر".

                                 


توابل (الحاجة بألف)
ابو علي موظف متقاعد من وزارة الزراعة يفترش الرصيف ببسطيته التي تحوي على انواع من التوابل  وتجده يصيح على المارة بصوت اكل من نشاطه الزمن(الحاجة بألف)،(توابل برياني، توابل دولمة،توابل كبة) وتتعدد الانواع لكن السعر الذي يطلبه ابو علي يبقى ثابتا وهو الف دينار لاغير، يبين ابو علي للمدى ان السبب الذي دعاه الى العمل هو عدم كفاية مرتبه التقاعدي والبالغ (200)الف دينار  لقضاء احتياجات العائلة بالرغم من قضائه خدمة تجاوزت السبعة والعشرين عاما، وشكى ابو علي وان لم يشتك لي لحظتها لأجبرته على تلك الشكوى العادلة والشرعية، لماذا والقول لابي علي يحللون ساسة الخضراء رواتب تقاعدية لهم بعد اربع سنوات وبأرقام خيالية لا يتوقعها العقل ولا يرضاها اي دين او قانون، موضحا بانه افنى شبابه في خدمة الدولة  وكان جزاء تلك الخدمة هذا المبلغ الزهيد الذي لايسد رمق عائلته كما يقول ،ولزيادة تذمره قلت له ان اعضاء مجلس الحكم وبعض اصحاب الدرجات الخاصة  حصلوا على مرتبات تقاعدية بعد خدمة لم تتعد الشهر، رد علي قائلا(لا بروح ابوك صدك؟؟)(والله اذا صدك حجيك ،فهؤلاء سراق لقوت الشعب وكل دينار يأخذونه حرام عليهم الى يوم الدين ) بحسب قول ابو علي.

    


هؤلاء وعبد الكريم قاسم
أبو احمد وهو بائع لميداليات ذكرى ومحفظات نقود وسكاكين مختلفة الانواع عندما سألناه عن اقبال الشباب على السكاكين ،اكد بأنها البضاعة الاكثر مبيعا  من حاجيات كشكه ،وبحسب تبريره لفقدان الامن في الشارع ، وقال انها  تستخدم احيانا لتقشير الفواكه وليس لغاية القتل او غيره، ابو احمد وهو من مواليد 1969 وخريج إعدادية الصناعة اكد بانه راجع عدة مرات الى وزارة العمل والشؤون الاجتماعية  وتم تسجيله ضمن قوائم العاطلين عن العمل وبعد فترة والكلام لابي احمد جاء التعيين كبائع شاي فقمت بتمزيق المعاملة والعودة الى هذه البسطية التي تتكفل برزق عائلته ودفع ايجار البيت والمولدة ،مضيفا انه يستغرب من دولة بحجم العراق اقتصاديا ومواطنيها يعيشون كل هذا البؤس، وموضحا كيف يدعون الدين من يغرفون المال العام بامتيازات خاصة ورواتب خيالية لا يرضاها دين ولا عاقل؟،هل يجوز ان تجوع عوائلنا والبرلمان يقرر إضافة 30الف دولار لعمليات تجميل!!!؟ بحسب قول ابو احمد الذي ترحم في نهاية حديثه على روح الزعيم الراحل عبد الكريم قاسم قائلا(الله يرحمه مات مديونا لكنه بقي حيا في قلوب الناس لنزاهته وشرفه، فما وزن هؤلاء أمام ذلك الزعيم الحقيقي).

   


ما بين بغداد والسليمانية
دعونا لا نذهب الى العواصم العربية وحتى الأفريقية في مقارنتها بعاصمتنا  التي كانت يوما من الايام سيدة المدن الى الحد الذي وصفها بعض العارفين  بانها روضة العالم وما خلاها بادية، أين هي الان وحتى لا نتهم بالغلو فلنقارنها بمدينة عراقية من الاقليم وهي محافظة السليمانية   ولا نأخذ العاصمة اربيل لنكون اكثر من الانصاف انصافا ،لانه لا يستطيع اي انسان ان يصف بغداد بهذا الشكل  لكن الاوضاع التي تراها  والمشاهد هي التي تفرض هذا الوصف ، فمدينة السليمانية تعج اليوم بالترف في حين بغداد يقتلها البؤس والقرف، الشوارع في السليمانية جميلة وواسعة فشارع سالم يباهي مولوي والستين بجسور المشاة الحديثة وسلالمها الكهربائية تحيلك الى مدينة اوربية، المولات والفنادق الحديثة لوحات من الفن المعماري الحديث، وفي كل لوحة فتنة  تجعلك تتحسر على بغداد وتلتفت اليها بالف (ايا ويلي)،متنزهات حديثة نواد ترفيهية حتى دار إقامة رئيس الجمهورية مام جلال طالباني افترشت تحته العوائل للتنزه، حين رايتهم قلت لو حدث هذا في بغداد لاتهموا بالمادة (4ارهاب)، لامواكب مسؤولين ،لا صافرات الاسعاف، لا حواجز كونكريتية الورد والشجر سيد المكان حيثما تلتفت ،لا متسولين ،لا باعة متجولين، ولا الم كل شيء فيها يدعوك للسرور والتفاؤل بمستقبل اجمل وابهى، ويدعوك بنفس الوقت الى السؤال لماذا لا نرى هذا في بغداد؟.

                        


أبو قصي الموصلي
الجواب عند بائع  قناني  الماء أبو قصي الذي يعيش في غرفة مشتركة مع صديق في احد فنادق البتاوين قادما من محافظة الموصل لغرض العمل، يقول ان مورده لا يتجاوز الـ(15)الف دينار ،وينفذ ما بين ايجار الغرفة ومتطلبات الحياة اليومية، يقول في الشتاء ابيع الحلويات  وفي الصيف قناني الماء وشهريا ابعث لعائلتي في الموصل  ما مقداره(150)الف دينار لإعانتهم على العيش  في ظل عوز واضح كما يقول، ويؤكد ابو قصي ان الحكومة والساسة الجدد لم يفكروا بحياة المواطن وجميعهم في سباق وتنافس من اجل كسب المال اما الشعب فحصته الاهانة والبؤس، مبينا انه بين فترة واخرى يتعرض شأنه شأن بقية الباعة المتجولين الى حملات من أمانة العاصمة مدعومة بالمفارز الامنية لقطع ارزاقنا دون رعاية لوضع عوائلنا البائس، موضحا ان جميع من تراهم الآن هم من شريحة البطالة لكن بطرق مبطنة اجبرهم العوز وعدم وجود فرص العمل على امتهانها بحسب قول ابو قصي.


بغداد والفقراء والقهر
اتمنى من  المسؤولين ان يتجولوا  هناك قرب امانة العاصمة  ليشاهدوا عربات الخشب تقودها الخيول والحمير، ليتركوا سياراتهم الفارهة ويشاهدوا بأعينهم كم حمال من الشباب الذين يقودون عربات الخشب تحت شمس آب اللاهب ليدركوا حجم الجريمة التي يرتكبونها ضد من كانت اجمل وابهى المدن، ليسمعوا أدعية الأرامل عليهم وهن يقفن بتقاطعات الطرق  لبيع علب المناديل ، ليشاهدوا عيون ووجوه الايتام وقد امتهنوا شتى المهن غير آبهين بصحتهم او دراستهم، اي جيل بائس تصنعون؟، وكم من ذنب تتحملون؟،من يرى بغداد اليوم  سيغني معي أغنية فيروز لكن بكلمات مختلفة ومختصرة تقول (بغداد والفقراء والقهر... رحل الزمان بسلطة التتر).

 

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

964 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع