لندن- “القدس العربي”:نشر موقع “ذا كرادل” تقريرا موثقا أعده أحمد الربيعي بعنوان: “كيف نهبت أمريكا والإمارات وإسرائيل آثار العراق؟”.
وأكد الكاتب أن الغزو الأمريكي للعراق، مهّد الطريق للنهب والتدمير المنهجي لعدد لا يحصى من القطع الأثرية والمخطوطات القديمة، وشدد على أن الإمارات وإسرائيل لعبتا كذلك دورا مهما في السرقة المستمرة والتهريب العالمي لهذه العناصر.
وذكر الكاتب أن وزارة الثقافة العراقية أعلنت مؤخرا عن استعادة كبيرة لـ23 ألف قطعة أثرية معظمها نُهب خلال الغزو الأمريكي غير القانوني للعراق عام 2003. واعتُبر هذا العمل بمثابة محاولة لمحو الهوية الثقافية للعراق. ومع ذلك، غالبا ما يتم تجاهل الأرشيف اليهودي العراقي الغني، إلا أنه يظل موضوعا مثيرا للجدل، حيث تنتهي أجزاء منه في تل أبيب قبل أن تصل إلى وجهات أخرى.
في 10 أبريل 2003، بعد أسابيع من الاحتلال الأمريكي، حاصرت الدبابات الأمريكية وزارة النفط العراقية، ومبنى المخابرات، والمتحف الوطني العراقي. وبينما سارعت القوات الأمريكية إلى تأمين مباني النفط والمخابرات، فإن أبواب المتحف الوطني الذي تأسس عام 1924 في منطقة العلوي ببغداد، تركت أيضاً مفتوحة على مصراعيها أمام تجار الآثار لنهب وتخريب محتوياته.
ولم يكن من قبيل الصدفة أن أنشأت القوات الأمريكية قواعد داخل المواقع الأثرية المهمة في جميع أنحاء العراق، بما في ذلك بابل التي يعود تاريخها إلى 2300 عام قبل الميلاد، و”أور” 3800 عام قبل الميلاد، والحضر، والنمرود، وغيرها.
ويقول خبير الآثار حيدر فرحان في حديث لـ”ذا كرادل”: “يحتوي المتحف على آلاف القطع الأثرية والمخطوطات النادرة، لكن لا توجد إحصائيات رسمية عن عدد الآثار المسروقة من المتحف عام 2003”.
وبحسب فرحان، فإن “القوات الأمريكية مسؤولة بشكل مباشر وغير مباشر عن سرقة محتويات المتحف”.
الفوضى والنهب
تشير تقارير عراقية إلى سرقة ما يقارب 120 ألف قطعة أثرية من العراق بين عامي 2003- 2017، الجزء الأكبر منها خلال الغزو الأمريكي للعراق، فيما يتحمل تنظيم الدولة مسؤولية سرقة مقتنيات متحف الموصل شمالي البلاد وبعض المواقع الأثرية في المناطق التي تم الاستيلاء عليها بعد عام 2014.
ويقول مدير دائرة المخطوطات العراقية، والناطق باسم وزارة الثقافة أحمد العلوي، للموقع، إن وزارته تمكنت من “استعادة أكثر من 23 ألف قطعة أثرية خلال ثلاث سنوات، منها 17300 قطعة أثرية تم استردادها قبل عامين”.
ويؤكد التقرير أن نهب المتحف العراقي لم يحدث بالصدفة؛ واستغلت العصابات المنظمة، بما في ذلك أفراد من الدول العربية المجاورة، حالة الفوضى. كان هؤلاء اللصوص على دراية بتصميم المتحف وقاعاته وغرف التخزين المخفية، وحتى الأماكن الأكثر أمناً، مثل الغرفة المخفية داخل المتحف، التي لم تسلم من السرقة.
وبحسب مسؤول سابق في المتحف الوطني، فإن “هناك عصابات منظمة من الدول العربية المجاورة للعراق اقتحمت المتحف، فيما غضت القوات الأمريكية المتواجدة في باحة المتحف، الطرف عن ذلك”.
وقال مسؤول المتحف، الذي طلب عدم الكشف عن هويته، للموقع، إن “عمليات النهب استمرت قرابة ثلاثة أيام.. وكانت لدينا غرفة سرية في المتحف، نحتفظ فيها بالحلي الأثرية الثمينة، وعندما عدنا في 12 أبريل 2003 إلى المتحف، وجدنا أن هذه الحلي قد سُرقت، رغم أن تلك الغرفة كان لها باب مخفي”.
الدور الإماراتي
بحسب التقرير، فقد زعم مسؤول المتحف تورط جنسيات عربية أخرى، وهو ما أكده المتحدث الرسمي السابق لوزارة الثقافة عبد الزهرة الطالقاني، الذي كشف في بيان عام 2011 أن “الآثار العراقية المنهوبة تم تهريبها إلى دولة مجاورة، ومن هناك إلى أمريكا وأوروبا”.
المتحدث باسم الوزارة العياوي أكد للموقع، أن الغالبية العظمى من الآثار المسروقة من العراق هُربت إلى إحدى دول الخليج [الفارسي] ومن ثم إلى الولايات المتحدة، بعضها عبر سرقة المتحف الوطني، والبعض الآخر عبر عمليات النبش غير القانوني لمافيات الآثار التي جرت في ظل الفلتان الأمني”.
وهو ما أكدته خبيرة الآثار العراقية سندس محمد، التي اتهمت، في تصريحات صحافية، القوات الأمريكية بـ”المساهمة في تهريب الآثار العراقية إلى خارج البلاد، بعد السيطرة على آثار بابل وأكاد، بالاتفاق مع مافيا التهريب”.
وبحسب التقرير، فمن أهم الأدلة التي تشير إلى تورط الإمارات في تهريب الآثار العراقية، الحكم الذي أصدرته وزارة العدل الأمريكية عام 2017 ضد الشركة الأمريكية “هوبي لوبي”. وتم تغريم الشركة بمبلغ 3 ملايين دولار، بعد أن اشترت بشكل غير قانوني 5500 قطعة أثرية عراقية قديمة من التجار في الإمارات، ومن ثم تهريبها إلى الولايات المتحدة وإسرائيل باستخدام وثائق شحن مزورة.
في وقت القضية، ذكرت صحيفة الغارديان أنه في سبتمبر 2011، تلقت الشركة طردا يحتوي على حوالي 1000 فقاعة طينية، وهو شكل قديم من أشكال التعريف المنقوشة، من تاجر إسرائيلي وكان مصحوبا بإعلان كاذب يفيد بأن بلدها الأصلي كان إسرائيل.
بعد الغزو الأمريكي، شكّلت واشنطن ما يسمى بسلطة التحالف المؤقتة، وأحكمت سيطرتها على المرافق الرئيسية في العراق، بما في ذلك المطارات، حيث تم تهريب الآثار من قبل أفراد محليين وعرب وأجانب تحت مراقبتها. وتعاقدت القوات الأمريكية مع شركة أمنية أجنبية للإشراف على الرحلات الجوية وتأمين دخول وخروج المسافرين وتفتيش أمتعتهم.
وكشف مصدر استخباراتي يعمل في مطار بغداد منذ عام 2004، وطلب عدم الكشف عن هويته للموقع، أن “القوات الأمريكية كانت تسيطر بشكل كامل على مطار بغداد، ولم يكن من الممكن نقل أي بضائع من وإلى المطار إلا بعلم الأمريكيين، لكنهم كانوا يغضّون الطرف عن الشخصيات المحلية والعربية”.
وبحسب التقرير، تتحدث مصادر أخرى عن تورط الإمارات في هذه السرقة الثقافية. واعترف القائد السابق لسريّة الحماية للسياسي العراقي أحمد الجلبي، محمد فيصل الغازي، بنقل الآثار إلى الإمارات، حيث تم تهريبها إلى إسرائيل.
وقال غازي في تصريحات متلفزة: “في 22 أبريل 2003، ذهبنا إلى المتحف الوطني بأمر من الجلبي. وأحضرنا مجموعة من الآثار منها نسخة من التوراة البابلية. وتم تسليم تلك الآثار إلى تمارا ابنة الجلبي. الحديث كان عن حماية هذه الآثار إلى حين تشكيل الحكومة، لكن ذلك لم يحدث”.
وفي أيار 2023، أعلن الناطق باسم القائد العام للقوات المسلحة، اللواء يحيى رسول، تفكيك شبكة دولية متورطة في تهريب الآثار من محافظة بابل. وكان من بين أعضاء الشبكة مواطن عربي.
ويذكر الموقع أن رسول قال في تصريح اطّلع عليه: “بناء على المهام الموكلة إلى جهاز المخابرات الوطني العراقي في (بابل) وفي إطار العمل الذي يقوم به لتقويض التهديدات الخارجية للأمن الوطني العراقي، تمكن جهاز المخابرات من تفكيك شبكة دولية مكونة من أربعة أشخاص أحدهم عربي، يقوم بتهريب الآثار بما في ذلك ثلاث مخطوطات قديمة”.
وبحسب التقرير، تُسوّق حضارة بلاد ما بين النهرين، عبر الإنترنت. ومن غير المستغرب أن تنتشر التجارة غير المشروعة بالقطع الأثرية العراقية وغيرها من القطع الأثرية في غرب آسيا عبر الإنترنت، حيث يتم بيع مئات القطع مقابل أقل من 400 دولار على مواقع الويب المختلفة، بما في ذلك شبكة الإنترنت المظلمة. وتشكل هذه التجارة المتفشية عبر الإنترنت تهديدا كبيرا للتراث الثقافي العراقي.
وكان موقعا “Live Auctioneers” و”Trocader” من بين المواقع التي رصدت بعض القطع الأثرية العراقية المنهوبة، حيث أصبحت هذه القطع متاحة للشراء المباشر سواء من قبل الأفراد أو الشركات.
يقول عالم الآثار العراقي عبد الأمير الحمداني لموقع “ذا كرادل” إن “بيع القطع الأثرية العراقية على المواقع الإلكترونية بهذه الأسعار المنخفضة يمثل كارثة حقيقية للبحث في التراث الثقافي. إن قيمة هذه القطع الأثرية لا تقدر بثمن، ولا يمكن أن تكون ملكية شخصية لأي شخص، لأنها ثروة وحضارة شعب بأكمله”.
الارتباط الإسرائيلي
ذكر مصدر مسؤول في وزارة الثقافة والسياحة والآثار العراقية، تحفّظ على ذكر اسمه، أنه “منذ عام 2003 وحتى رحيلها عام 2011، قامت القوات الأمريكية بتأمين فرق تنقيب يهودية [إسرائيلية] للتنقيب في المواقع الأثرية العراقية، وخاصة في بابل وأور”.
في عام 2010، كشفت القناة السابعة الإسرائيلية عن لفافة توراة تم تهريبها من العراق إلى تل أبيب.
وأثار هذا تساؤلات حول كيفية وصول هذه القطعة النادرة إلى هناك، مع الأخذ في الاعتبار أنه كان من المفترض أن يتم صيانتها من قبل معهد هوفر بجامعة ستانفورد.
وحتى اليوم لا يزال الجدل الدائر حول الأرشيف اليهودي العراقي قائما. وعلى الرغم من الاتفاق بين الحكومة العراقية والولايات المتحدة على إعادته إلى بغداد في عام 2014، إلا أن الأرشيف انتهى بشكل غامض في تل أبيب عام 2015.
وتقدم تقارير مختلفة روايات متضاربة حول كيفية وصوله إلى الولايات المتحدة، مع اتهامات ضد مؤسسة الذاكرة العراقية لتورطها في تسليم الأرشيف إلى الأمريكيين.
وبحسب الكاتب والباحث نبيل الربيعي، فإن الأرشيف اليهودي يضم 48 درجاً من فقرات سفر التكوين مكتوبة على جلد غزال، وتقاويم باللغة العبرية، و7002 كتاب، ومجموعة مواعظ باللغة العبرية يعود تاريخها إلى عام 1692.
كما ضمت، بحسب الربيعي، 1700 قطعة أثرية نادرة توثق عصري السبي البابلي الأول والثاني، وأقدم نسخة من التلمود البابلي، وأقدم نسخة من التوراة، وسجلات قانونية تعود إلى عدة قرون تركها يهود العراق، إلى جانب أشياء ثمينة أخرى.
وبحسب التقرير، لعبت مؤسسة الذاكرة العراقية، التي أسسها كنعان مكية عام 1992، دوراً محورياً في جمع أرشيف العراق، بما في ذلك وثائق من أرشيف حزب البعث، وقاعدة بيانات كردستان العراق. واللافت أن رئيس الوزراء العراقي السابق مصطفى الكاظمي، كان يعمل في نفس المؤسسة.
وفي عام 2018، ادّعى مدير دار الكتب والوثائق العراقية، أن ضابطا من جهاز المخابرات العراقي السابق، اتصل بأعضاء المعارضة بعد عودتهم إلى العراق، وعرض عليهم الكشف عن مكان الأرشيف اليهودي. وأثار ذلك الشكوك حول الظروف المحيطة باكتشاف القوات الأمريكية لها.
ويؤكد التقرير أن إسرائيل لم تلتزم قط بالاتفاقيات الدولية التي تقضي بإعادة الآثار المسروقة. وفي هذه الأثناء، تواصل الولايات المتحدة احتجاز آلاف الملفات من الأرشيف العراقي تحت ذريعة “الترميم”.
الحرب المستمرة على تراث العراق
ويؤكد التقرير أنه كان للتحركات الأمريكية في العراق أيضا، تأثير مدمّر على تراثه الثقافي الهائل. في عام 1991، تعرضت أور لقصف أمريكي عنيف، مما تسبب في أضرار جسيمة للزقورة القديمة.
وخلال غزو عام 2003، تم تحويل متحف الناصرية إلى ثكنة عسكرية، وتم استخدام موقع كيش الأثري كقاعدة تدريب، مما أدى إلى تدمير مناطق أثرية واسعة.
ومما زاد من مشاكل العراق، أن ظهور تنظيم داعش في عام 2014 أدى إلى سرقة مجموعات من متحف الموصل، وتدمير العديد من المواقع الأثرية. ومع ذلك، تشير العديد من المصادر إلى أن داعش قام بأعمال التدمير هذه لصرف الانتباه عن النهب الفعلي للآثار القيّمة. وحتى الآن، باع التنظيم الإرهابي مئات القطع الأثرية عبر تهريبها إلى تركيا، ومنها إلى أوروبا.
ويتباهى العراق بوجود أكثر من 15 ألف موقع أثري، والتي جذبت انتباه تجار الآثار منذ عام 2003. وحتى الآن، تمكّن العراق من استعادة 23 ألف قطعة أثرية، معظمها من الولايات المتحدة وبريطانيا، على الرغم من فرض ضوابط حدودية قوية على هذين البلدين.
ويختم كاتب التقرير، بالتأكيد أن التراث الثقافي لـ”أرض الرافدين” يواجه تهديدات مستمرة، حيث تلعب أطراف مختلفة، وهي الولايات المتحدة وإسرائيل والإمارات، أدوارا رئيسية في سرقته وتدميره. ويقول إن استعادة القطع الأثرية تشكل نضالاً مستمراً، ويجب على المجتمع الدولي أن يكثف جهوده لمنع المزيد من الخسارة، وتسهيل إعادة القطع المسروقة إلى مكانها الصحيح في تاريخ العراق الغني.
940 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع