المحكمة الاتحادية العليا تؤجج أزمات العراق بدل تطويقها

 الأجندات السياسية تعرقل العدالة العراقية

يواجه العراق خطرًا حقيقيّا يتمثل في فقدان جميع الضوابط والتوازنات، وفي الفشل كدولة ديمقراطية دستورية بسبب الانهيار السريع لنظام الفصل بين السلطات.

العرب/بغداد - تُعتبَر المحكمة الدستورية عمومًا أعلى سلطة قضائية في كل دولة، وتكون قراراتها نهائية وغير قابلة للاستئناف. وتُعَدّ المحكمة حصنًا وجهة ضامنة لكفاءة النظام الدستوري واستمراريته ونجاحه، خاصة في الدول الفيدرالية.

وإذا لم تتجاوز المحكمة دورها ومهمتها، فهي أساس نجاح النظام الفيدرالي. لكن عندما تتحول إلى أداة سياسية تتدخل في الخلافات السياسية تصبح وسيلة خطيرة تقوّض العملية السياسية برمتها، ويمكن أن تؤدي إلى إسقاط النظام في نهاية المطاف.

ويقول هيمن هورامي، عضو المجلس القيادي للحزب الديمقراطي الكردستاني ورئيس مكتب العلاقات الخارجية للحزب في تقرير نشره معهد واشنطن: بينما نرى أمثلة متعددة عن محاكم دستورية تعمل بنجاح في الدول الفيدرالية، قد يشكل الوضع الحالي في العراق التجلي الأوضح للخطر الذي تمثّله الحالة المعاكسة، فأعلى محكمة في العراق غير دستورية بحد ذاتها لأنها لم تُدرَج في أحكام الدستور، وقد انحرفت المحكمة مؤخرًا عن سلطتها المحددة سابقًا من خلال العمل كأداة سياسية تقهر من تعتبرهم خصومًا في الخلافات السياسية.

عيوب المحكمة الاتحادية

أنشئت المحكمة الدستورية الأولى في العراق بموجب المواد 81 – 87 من دستور عام 1925. وكانت المحكمة بمثابة مؤسسة مستقلة في العراق حتى عام 1979، عندما دُمِج “مجلس القضاء” العراقي مع وزارة العدل أثناء عملية التطهير في عهد صدام حسين، وفقدت المحكمة مكانتها وقيمتها. وبعد عام 2003 شكلت “سلطة الائتلاف المؤقتة” لجنة عليا لمراجعة المحاكم والقضاة، وعزلت القضاة الذين كانوا مقربين من نظام البعث السابق، فأنشأت بالتالي فرصًا لإجراء تعيينات جديدة.

واستعاد مجلس القضاء الأعلى استقلاليته، ففُصِل عن وزارة العدل. وأدى الأمر رقم 35 الصادر عن “سلطة الائتلاف المؤقتة” في عام 2003 إلى إنشاء مجلس القضاء الأعلى برئاسة رئيس القضاة مدحت المحمود.

وبعد إنشاء مجلس الحكم العراقي وسن قانون إدارة الدولة للفترة الانتقالية وتأكيد الفيدرالية، نصت أحكام المادة 44 من قانون إدارة الدولة للفترة الانتقالية على أن المحكمة الدستورية هي التي ستشكل أساس النظام الفيدرالي. وأصدرت الحكومة العراقية برئاسة إياد علاوي القانون رقم 30 لعام 2005، فأنشئت بموجبه المحكمة الاتحادية العليا التي يرأسها أيضًا رئيس القضاة مدحت المحمود صراحةً لفترة ما قبل الدستور في العراق.

وعندما أنشئت المحكمة كانت المناقشات حول صياغة دستور دائم قد بدأت. وبعد مرور عشرة أشهرٍ على تشكيل المحكمة، طُرِح الدستور العراقي الدائم للاستفتاء وتم التصديق عليه في أكتوبر 2005. وفي هذه المرحلة كان من المقرر أن تنتهي صلاحية المحكمة الاتحادية العليا، وكان تشكيل نسخة دائمة منها يتطلب إقرار قانون.

وعلاوةً على ذلك أُبطِل الأساس القانوني الوحيد لها، أي المادة 44 من “قانون إدارة الدولة للفترة الانتقالية”، بموجب المادة 143 من الدستور. وعلى عكس المحكمة الجنائية العراقية العليا، الممدد لها صراحة في المادة 134 من الدستور الذي تم إقراره حديثًا، اشترطت المادة 92 صراحة إعادة تشكيل المحكمة الاتحادية العليا من خلال إقرار قانون جديد بأغلبية ثلثي الأصوات البرلمانية، وهي عملية لم تحدث قط.

وبعد الأزمة السياسية في أكتوبر 2019 وسقوط حكومة عادل عبدالمهدي، أدى تقاعد القاضي فاروق سامي ووفاة القاضي عبود التميمي إلى شلل المحكمة الاتحادية العليا. فتتطلب هذه المحكمة، التي لا تزال قائمة على أساس القانون رقم 30، حضور جميع القضاة في القضايا. ولم يتسنَّ ملء المقعدين الشاغرين بسبب الخلافات حول آلية التعيينات.

وفي الوقت نفسه لم تتم تلبية مطالب المتظاهرين بإجراء انتخابات مبكرة بسبب شلل المحكمة الاتحادية العليا، نظرًا إلى الشرط الدستوري الذي يقضي بضرورة موافقتها على النتائج النهائية للانتخابات.

وقد فشلت محاولات الأحزاب السياسية للتوصل إلى تسوية وإقرار قانون بشأن المحكمة الاتحادية العليا فبهدف معالجة هذه المسألة، وتم أخيرًا تعديل القانون رقم 30 لعام 2005 في 18 مارس 2021 بأغلبية بسيطة بلغت 204 نواب من خلال إقرار القانون رقم 25 لعام 2021. وشابت هذا التعديل عدة عيوب أساسية هي:

• الافتقار إلى الأغلبية العظمى اللازمة: أصدرت المحكمة الاتحادية العليا بنفسها القرار رقم 107 لعام 2012، حيث أكدت على أن إقرار التشريع المتعلق بها أو تعديله يجب أن يراعيا أحكام الفقرة الثانية من المادة 92 في الدستور، التي تقضي بأن التعديل يتم إقراره بأغلبية الثلثين. وبالتالي لم يكن الهامش الذي مثّلته الأغلبية البسيطة كافيًا لتعديل الأمر رقم 30.

• تجاوُز الرئاسة: بموجب الدستور يجب أن يُصدر رئيس العراق مراسيم عند إقرار القوانين أو التعديلات. لكن بالنسبة إلى هذا القانون غير الدستوري صدر المرسوم من رئيس مجلس النواب الذي لا يتمتع بهذه الصلاحية.

• انخفاض التمثيل في المحكمة الاتحادية العليا ما بعد عام 2021: في التعديل الذي أُقرّ عام 2021، والذي تشوبه العيوب، تم تعديل المادة 3 من القانون رقم 30 لعام 2005 من أجل إنشاء إجراءات جديدة لتعيين أعضاء المحكمة، وهو ما أدى إلى إلغاء حق إقليم كردستان في تعيين أعضاء في المحكمة الاتحادية العليا بالتنسيق مع “مجلس القضاء” في إقليم كردستان. فأسقط التعديل هذا الحق، ما أخل بالتوازن العرقي والطائفي والديني في العراق.

وأحد المبادئ الملزِمة في العملية القضائية وعمل المحاكم هو التزام المحكمة بنطاق الدعوى والادعاء. إلا أن المحكمة الاتحادية العليا في تشكيلتها الحالية تنتهك هذا المبدأ الملزِم في قانون المرافعات المدنية العراقي رقم 83 لسنة 1969. فقد رأت المحكمة في بعض الادعاءات فرصةً لتوسيع نطاق شكوى المدعي، واستخدامها للتحكم في أجندات سياسية وتنفيذها.

وعلى سبيل المثال لم تدعُ شكوى الاتحاد الوطني الكردستاني الأخيرة ضد قانون انتخابات برلمان كردستان إلى إزالة المقاعد المخصصة للمكونات العرقية والدينية في إقليم كردستان، بل إلى توزيع تلك المقاعد على الدوائر الانتخابية.

وبموجب المبدأ الراسخ في القانون والعدالة، يقتصر الادعاء على نطاق الاستدعاء، ولا ينبغي الحكم عليه بما يتجاوز ادعاءات المدعي. فبدلًا من ذلك، أعطت المحكمة الاتحادية العليا لنفسها دور الجهة الواضعة والمعدِّلة للقانون. ويتجسد أحدث مثال على المخالفات القانونية والدستورية في الحكم الصادر بشأن الوحدتين 131 و185 من الدعوى رقم 83 لعام 2023 حول قانون انتخابات برلمان كردستان، في النقاط 2 و3 و4 و5 من الحكم. وقد أشار مجلس شورى إقليم كردستان إلى عدم دستورية نقاط الحكم ومخالفاته الدستورية.

صلاحيات توسعية
في غضون ذلك اعتمدت المحكمة الاتحادية العليا النظام الداخلي الخاص بها، الذي كانت وستبقى له تداعيات قانونية وسياسية كبيرة. وتنتهك القواعد الداخلية الدستور وحتى القانون نفسه، وكذلك “قانون المرافعات المدنية” العراقي. فقد أعطت المحكمة لنفسها حقين في قواعدها وهما: حق التصدي وحق العدول، وكلاهما مفهومان قانونيان لا أساس لهما، ويسمحان لها بأن تكون أكثر نشاطًا وتطفلًا مما قصده واضعو الأطر الدستورية.

وإحدى صلاحيات المحكمة بموجب المادة 93 من الدستور هي مراقبة دستورية القوانين. وقد تجاوزت المحكمة هذه الصلاحية فمنحت نفسها حق الفصل في مشاريع القوانين الأولية التي لم تتحول حتى إلى قوانين. لكن لا يتم تطبيق ذلك بشكل متناسق: ففي بعض الحالات تضغط المحكمة لإلغاء المشاريع التشريعية قبل إقرارها (عندما يناسب ذلك الفصائل السياسية الشيعية المهيمنة)، بينما تشير إلى أن بعض المشاريع القانونية الأخرى (التي تدعمها الفصائل الشيعية) لا يمكن الطعن فيها إلا بعد إقرارها.

وأعطت هذه المحكمة الاتحادية العليا لنفسها أيضًا دور تعديل الدستور. فبينما فُرضت قيود صارمة على تعديلات الدستور العراقي بموجب المادتين 126 و142 لحماية الحقوق والصلاحيات، منحت التشكيلة الحالية في المحكمة الاتحادية العليا نفسها صلاحية تعديل نصوص الدستور.

سلاح سياسي

إن المحكمة الاتحادية العليا لها دور كبير في تنفيذ النظام الفيدرالي، ويؤدي عدم تحديد سلطتها وتنظيمها بعناية إلى ظهور “ديكتاتورية قضائية”.

والمعروف أن القضاة التسعة يضمون خمسة من الشيعة واثنين من السنّة واثنين من الأكراد. وبموجب قانونهم الخاص يتم اتخاذ قرارات المحكمة بالأغلبية البسيطة، وهو ما سبق أن أدى عدة مرات إلى استغلال المحكمة الاتحادية العليا بشكل عنيف لصالح الفصيل السياسي الشيعي، وغالبًا ضد إقليم كردستان بالتحديد.

وفي السنوات الثلاث الماضية أصدرت المحكمة عدة أحكام محورية تتعلق بالعملية السياسية العراقية، وهي تشمل على سبيل المثال لا الحصر ما يلي:

• تعديل الآليات الدستورية الخاصة بالانتخابات الرئاسية، وذلك لاستبعاد مرشح لا يحظى بدعم الفصائل الشيعية المهيمنة، على الرغم من أن العرف يسمح باختيار الأكراد للمرشح الرئاسي.

• إعادة ابتكار آلية تشكيل الحكومة لتحديد الكتلة الفائزة في الانتخابات، ما أدى فعليًا إلى تغيير النتيجة في عام 2021، وتحقيق ما دعته وسائل الإعلام العراقية بـ”حُكم الخاسرين”، حيث يتم إقصاء الفائز في الانتخابات وإيصال منافسيه الخاسرين إلى السلطة.

• الاستمرار في تقليص نطاق الصلاحيات الدستورية التي يتمتع بها إقليم كردستان لصالح تفوُّق الحكومة الفيدرالية، وذلك بما يتعارض مع مبدأ اللامركزية الإدارية الذي قام عليه المشروع الدستوري برمّته، والمنصوص عليه في الدستور العراقي المكتوب.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1005 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع