العلاقة الاستثنائية بين جهاز المخابرات العراقية ومن يشغل موقع رئاسة الحكومة مثلت منذ عهد رئيس الوزراء السابق مصطفى الكاظمي ووصولا إلى عهد الرئيس الحالي محمد شياع السوداني موضع ارتياب القوى الشيعية من أحزاب وفصائل مسلّحة عملت باستمرار على اختراق الأجهزة الأمنية الرسمية للدولة وإضعافها منعا لتحولها إلى مراكز قوّة مضادّة لها وممانعة لسياساتها وتوجهاتها.
العرب/بغداد - وضعت قضيّة التجسّس على مسؤولين ونواب عراقيين والمتّهم فيها موظفون من مكتب رئيس الوزراء محمّد شياع السوداني، جهاز المخابرات العراقي مجدّدا في قلب معركة سياسية تخوضها ضدّه منذ سنوات فصائل شيعية مسلحة وأحزاب وشخصيات على صلة بها، كون الجهاز استعصى على الاختراق من قبل تلك القوى وظلّ بما يمتلكه من خبرات وأيضا من مقدّرات تقنية ومادية وبشرية معتبرة موضع خشيتها وارتيابها.
وقاد جهازَ المخابرات العراقي لعدّة سنوات رئيس الوزراء السابق مصطفى الكاظمي الذي لم يكن موضع ثقة غالبية الميليشيات والأحزاب الشيعية الموالية لإيران والتي لم تتردّد في اتهامه بـ”العمالة” للولايات المتّحدة، وقد صعّدت معركتها ضدّه وضدّ الجهاز أثناء ترؤسه الحكومة بدءا من سنة 2019 عندما أطاحت انتفاضة شعبية بسلفه عادل عبدالمهدي.
وبلغت تلك المعركة درجة كبيرة من التصعيد شملت اغتيال اثنين من القادة البارزين للمخابرات العراقية وتوجيه تهديدات لآخرين بالقتل.
ويبدو أنّ الجهاز الرافض للاستسلام للاختراق من قبل ميليشيات الحشد الشعبي وللتنازل عن جزء من مهامه ومقدراته لتلك الميليشيات على غرار ما قامت به أجهزة أمنية أخرى تحت طائلة الضغط السياسي الشديد المسلط عليها، يجد في مقام رئيس الوزراء المخوّل قانونا بقيادة القوات المسلّحة سندا له في معركته ضدّ الميليشيات، وهو الأمر الذي لا يروق لقادة تلك الفصائل المسلّحة التي لا ترغب في أن تكون لمن يتولّى المنصب التنفيذي الأوّل في البلاد ذراع قوية تساعده في مواجهتها و”التمرّد” عليها.
وعلى الطرف المقابل لا تستبعد مصادر عراقية أن يكون السوداني قد استحسن ربط علاقة قوية مع جهاز المخابرات وقيادته أملا في إيجاد سند له في مواجهة ضغوط الأحزاب والميليشيات الشيعية ذات الدور الرئيسي في تشكيل حكومته من خلال الإطار التنسيقي الذي تجتمع تحت مظلّته والذي لا ينقطع عن التدخّل في أدق تفاصيل سياسة الحكومة ومحاولة توجيهها وفقا لمصالحه وتوجهاته المرتبطة عضويا بالسياسة الإيرانية ولا تخلو من تناقض مع مصلحة العراق في عدّة ملفات وقضايا على غرار مسألة القوات الأميركية المتواجدة على الأرض العراقية والتي تطالب الفصائل والأحزاب الشيعية برحيلها، بينما تحاول الحكومة تسويف القضية تفاديا لصراع محتمل مع الإدارة الأميركية من شأنه أن يمتد ليشمل قضايا مالية واقتصادية حيوية للبلد.
ووجّه مصطفى سند النائب المقرّب من ميليشيا كتائب حزب الله العراق اتهاما مباشرا لأسرة السوداني بالسيطرة على جهاز المخابرات.
وأورد في تعليق له عبر حسابه في منصّة إكس أسماء ثلاثة مسؤولين كبار في الجهاز يشتركون مع رئيس الوزراء في الاسم العائلي، وهم بحسب النائب “حيدر السوداني مدير مديرية الإنصات، ويرجع إلى أحمد السوداني سكرتير رئيس الجهاز (منصب شاغر) الذي يرجع إلى عبدالكريم السوداني سكرتير القائد”.
وجاء ذلك بعد أنّ وجّه سند اتهامات لجهاز المخابرات بالوقوف وراء عملية التجسّس على النواب والمسؤولين من داخل مكتب السوداني والتي قال إنّها لم تكن لتجري إلاّ باستخدام تقنيات يملكها الجهاز وتحديدا مديرية الإنصات التي يديرها حيدر ليث السوداني.
وتوعد النائب بإقامة دعاوى بحق شخصيات من عائلة السوداني تتولى مناصب أمنية حساسة في حال تأكدت لديه الشكوك بتورطهم في قضايا التجسس والابتزاز التي طالت عددا من الشخصيات.
وانضم إلى النائب سند النائب حسين مؤنس رئيس حركة حقوق الممثلة لميليشيا كتائب حزب الله الذي اعتبر عملية التجسس على المسؤولين انتهاكا خطرا لسيادة القانون.
ووصف في تصريحات صحفية القضية بالفضيحة مطالبا أن “يكون للبرلمان والجهات المعنية دور وصوت واضح فيها”، مشيرا إلى أن “مجلس النواب ينتظر إجراءات القضاء وهناك نواب قدموا العديد من الشكاوى بحق المتهم محمد جوحي”.
وتابع أنّه “خلال الأيام القادمة سيعلن عن نتائج التحقيق، ولن نتهاون بأيّ شكل من الأشكال مع المجرمين للإفلات من العقاب”.
وجوحي المشار إليه في كلام مؤنس هو نائب المدير العام في الدائرة الإدارية لمكتب رئيس الوزراء والمتهم بقيادة شبكة للتجسس والابتزاز وانتحال صفة جهات ومؤسسات إعلامية، وقد تمّ إلقاء القبض عليه على ذمّة القضية.
وردّ جهاز المخابرات ببيان اتّهم فيه شخصيات سياسية ووسائل إعلام بـ”ترويج إساءات” تستهدف قيادات الجهاز وضباطه، متوعّدا بمقاضاتها.
ومما ورد في البيان أنّ الجهاز “تابع تصريحات وتقارير ومنشورات لشخصيات سياسية ووسائل إعلام ومواقع إلكترونية روّجت إساءات استهدفت بعض قيادات الجهاز وضباطه ومنتسبيه وتضمنت اتهامات باطلة لا أساس لها من الصحة حاولت التشكيك بأداء الجهاز ومهنيته”.
كما ورد أيضا “في الوقت الذي نستنكر فيه هذه التجاوزات الخطرة نؤكد حق الجهاز بمقاضاة مطلقيها ومروجيها وملاحقتهم قانونيا بالنظر لما يمكن أن يترتب عليها من ضرر كبير للأمن القومي العراقي، خصوصا أن الجهاز يؤدي دورا محوريا إلى جانب المؤسسات الأمنية الأخرى في مواجهة مختلف التحديات والمخاطر”.
وخُتم البيان بتوجيه دعوة إلى “وسائل الإعلام والمدونين وناشطي التواصل الاجتماعي لتوخي الدقة في التعامل مع القضايا ذات العلاقة بمؤسسات الدولة لاسيما الأمنية منها، وإلى النخب الوطنية والأوساط السياسية إلى مواجهة هذه الممارسات اللامسؤولة ورفض التعامل معها”.
وتبدو قضية التجسّس فرصة سانحة لخصوم رئيس الوزراء لقطع مساره ومنع صعوده قبل أن يتحوّل إلى قوة سياسية وإلى مرشّح فوق العادة لمواصلة قيادة الحكومة لولاية ثانية، وقبل أن يؤسس له نفوذا راسخا داخل أجهزة الدولة على غرار ما فعله رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي الذي ما يزال رغم ابتعاده عن قيادة السلطة التنفيذية منذ عشر سنوات يتمتع بثمار ذلك النفوذ الذي أوجد له مكانة راسخة في المشهد السياسي يستخدمها حاليا في مواجهة السوداني نفسه.
ويرغب المالكي في قطع مسار النجاحات النسبية التي حققها السوداني على رأس الحكومة وذلك من خلال إصراره على إجراء انتخابات مبكرة يقول إنّ الاتفاق الذي تشكلت بفعله الحكومة ينص عليها.
لكنّ القضية ذاتها تمثّل فرصة أكبر للميليشيات والأحزاب الشيعية لإضعاف جهاز المخابرات العراقية الذي تنظر إليه باعتباره مركز قوة في طريق هيمنتها على المشهد الأمني عبر الحشد الشعبي الذي تحوّل إلى قوة شبه عسكرية كبيرة فضلا عن كونه قوّة سياسية مشاركة بشكل مباشر في حكم البلاد.
وبدأت الميليشيات معركتها ضد جهاز المخابرات العراقية منذ عهد رئيس الوزراء السابق مصطفى الكاظمي الذي قاد الجهاز منذ سنة 2016 حتى تنحيه عن رئاسة الوزراء.
وشاركت في المعركة آنذاك ميليشيا كتائب حزب الله المنخرطة حاليا في حملة ضدّ السوداني، والتي لم تتردد في اتهام رئيس الوزراء السابق بالتواطؤ في عملية قتل قائد فيلق القدس الإيراني قاسم سليماني ونائب قائد الحشد الشعبي العراقي أبومهدي المهندس في غارة أميركية قرب مطار بغداد مطلع سنة 2020.
وزاد الكاظمي من غضب الميليشيات عندما دشّن “حملة تطهير” للجهاز قام من خلالها بحركة نقل واستبعاد واسعة للعشرات من مسؤوليه وضباطه المعينين من قبل أحزاب وفصائل شيعية بهدف اختراق الجهاز والسيطرة عليه من الداخل.
وأغضب ذلك الإجراء قيس الخزعلي زعيم ميليشيا عصائب أهل الحقّ الذي اتّهم الكاظمي بتنفيذ قرار النقل والاستبعاد بناء على طلب دول وأطراف خارجية قال إنّ رئيس الوزراء يعمل لمصلحتها.
وردّ جهاز المخابرات على الخزعلي ببيان قال فيه إنّ فئات سياسية وإعلامية تتعمّد الإساءة إلى “سمعة الجهاز والنيل من كرامة ووطنية ضباطه ومنتسبيه”، معربا عن استغرابه لمثل هذه التصريحات التي “تتجاوز كل السياقات الطبيعية للتعاطي مع حساسية الجهاز وطبيعة عمله، ناهيك عن الطعن في انتمائه الوطني على خلفية إجراءات إدارية اعتيادية مثل نقل مجموعة من منتسبيه الى مؤسسات أخرى”.
ولم تكن معركة الميليشيات ضدّ جهاز المخابرات العراقي من دون خسائر بشرية، إذ طالت عمليات اغتيال اثنين من ضباطه هما العقيد نبراس فورمان مدير المخابرات الذي سقط في يونيو 2021 برصاص مسلحين مجهولين في منطقة الرصافة بالعاصمة العراقية بغداد والمقدّم محمود ليث حسين الذي اغتيل بمنطقة المنصور في شهر مارس من نفس السنة.
1105 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع