من القوقاز إلى سوريا.. الشركس في مواجهة آلة القتل الروسية

لوحة "الجبليون يغادرون القرية"، لبيوتر نيكولايفيتش غروزينسكي 1872. من ويكيبيديا.

غزوان الميداني- واشنطن / الحرة:رغم الفرحة بسقوط نظام الأسد، لا تزال مرارة التجربة تقطر من صوتها.

تتذكر سوزان دادوخ سنوات الحصار والقصف في قرية الوعر في حمص، حيث كانت تعيش مع أسرتها.

هروبها من القرية "كان نوعا من العناية الإلهية الخاصة"، تقول السيدة الشركسية، ذات الـ38 عاما.

"لا تزال أصوات انفجار البراميل وصوت السوخوي والصواريخ تضج في أذني. الحمد لله خرجنا أواخر العام 2015 واستطعنا النجاة بحياتنا إلى خارج البلاد".

تاريخنا مليء بالمجازر على أيدي الروس، تقول السيدة دادوخ وهي عضوة ناشطة في الجمعية الشركسية السورية، لكن الفارق أن روسيا الإمبراطورية ذبحت أجدادنا وشردتهم بعيدا عن عيون الكاميرات.

تبعثروا في أنحاء شتى، وانتهى ببعضهم المطاف في بلدان تابعة للإمبراطورية العثمانية، مثل الأردن والعراق، وسوريا.

الأصل
الشركس شعب أصيل من شعوب بلاد القوقاز، الجبلية التي تقع بين البحر الأسود وبحر قزوين، وتحدها روسيا من الشمال وتركيا من الجنوب.

موقعها الجغرافي الفريد أغرى إمبراطوريات كثيرة، عبر التاريخ، لغزوها.

خضعت المنطقة لسيطرة الإغريق والرومان والمغول وتتار القرم والأتراك، قبل أن تسيطر عليها روسيا في القرن التاسع عشر.

تقع معظم أراضي الشركس التاريخية اليوم ضمن جمهورية قراشاي شركيسيا الروسية، وهي منطقة تتمتع بمناظر طبيعية خلابة تجمع بين الجبال الشاهقة والسهول الخصبة.

وقد أثر تنوعها الجغرافي على نمط حياة الشركس، الذين اعتمدوا تاريخيا على الرعي والزراعة.

ازداد الاهتمام الروسي بالقوقاز مع حكم القيصر بطرس الأول (1672- 1725) ، الذي أطلق حملة عسكرية على بلاد القوقاز.

في عام 1785 أعلنت روسيا ضم منطقة شمال القوقاز.

وبحسب منظمة الأمم والشعوب غير الممثلة وحماية حقوقهم الأساسية (unpo)، اتبع الجيش الروسي خلال الحملة سياسة التطهير العرقي المنهجي، بتدمير القرى وحرق الأراضي الزراعية الشركسية، لمنع سكانها الأصليين من العودة.

في عام 1790، مثلا، دمرت القوات الروسية قرى عديدة في بجدوجا، وشردت مئات آلاف من الشركس.

مقاومة الإمبراطورية
لم يرضخ الشركس، ومعهم الشيشان والداغستان، للهيمنة الروسية.

خاض سكان القوقاز مواجهات شرسة مع الروس، توجت في عام 1829 بانطلاق ثورة الإمام شامل الداغستاني في شرق القوقاز.

وتمكنت روسيا من قمع الثورة عام 1859.

وفي عام 1860، بدأت حملة لإعادة توطين الشركس قسرا في وادي نهر كوبان.

وبلغت المأساة ذروتها في 21 مايو 1864، عندما أخضعت روسيا كل الأراضي القوقازية لسيطرتها بعد معركة "وادي كبادا" قرب مدينة سوتشي المطلة على البحر الأسود.

وهجّر الروس ما يُقدّر بين مليون ومليون ونصف مليون شركسي من وطنهم في منطقة القوقاز، وأجبروهم على الهجرة.

عبر البحر الأسود
انتقل المهاجرون الشركس في الغالب عبر البحر الأسود، في سفن قديمة متهالكة.

تكدسوا مع أطفالهم، بعضهم فوق البعض الآخر، لأن الروس حشروهم في سفن لم تتسع لأعدادهم الكبيرة.

عانوا البرد والجوع، وافترستهم الأمراض، التيفوئيد والجدري، فاحتمل نصفهم رحلة العذاب تلك وقضى النصف الآخر في البحر.

الذين قضوا قبل أن تلمس أقدامهم اليابسة، حملت الأمواج جثث بعضهم إلى الشواطئ.

في الحادي والعشرين من مايو، كل عام، يحيي الشركس ذكرى انتهاء الحرب القوقازية بانتصار روسية القيصرية.

في قلب كل شركسي، تعني نهاية الحرب تلك التهجير القسري من الموطن الأصلي.

من تركات المأساة ما أضحى موروثا شعبيا، كالامتناع عن أكل الأسماك لأنها تغذت على أجساد الغرقى من الأجداد.

العثمانيون والشركس
مع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين وزع العثمانيون اللاجئين الشركس - بدوافع إنسانية واستراتيجية - في مناطق مختلفة، بينها سوريا.

وطن السلطات العثمانية الشركس في أراض حدودية في الغالب، غير مأهولة، أو فقيرة زراعيا بسبب قلة الأمطار.

يطلق المؤرخون على المناطق التي سكنها الشركس في تلك الفترة "شريط الليمس الشركسي"، تشبيها بـ"شريط الليمس الروماني" الذي كان يضم الحصون الرومانية.

أرادت السلطات العثمانية استغلال الشركس في الدفاع عن الإمبراطورية وحمايتها.

الموروث
استقر الشركس في تجمعات قروية في هضبة الجولان ودمشق وريفها، وأرياف حماة وحمص وحلب.

وبنوا قرى بطرز بيوتهم الأصلية، وأطلقوا عليها أسماء قراهم السابقة، مثل قرية عسيلة في ريف حمص الشمالي.

حافظوا على ثقافتهم الأصلية في الزي والطعام والموسيقى الشعبية واللغة؛ نمط حياة تناقلوه جيلا بعد جيل.

مع ذلك، برهنوا قدرتهم الكبيرة على الانتماء والتعايش مع المجتمعات المضيفة.

يحتفظ كل بيت شركسي برمز يربطه بأرض الأجداد، مثل الزي التقليدي أو أدوات تراثية كالسيف (القامة) أو السماور، أداة لتحضير الشاي تحمل أختاماً تاريخية تشير إلى موطنها الأصلي.

بوتين والشركس
بعد التدخل العسكري الروسي في سوريا عام 2015، تعرضت مناطق كثيرة يقطنها شركس للقصف والحصار، مثل حي الوعر في حمص.

عام 2018 قالت وزارة الدفاع الروسية إن أكثر من 63 ألفا من العسكريين الروس، بينهم 26 ألف ضابط و434 جنرالا، قاتلوا في سوريا، دفاعا عن نظام بشار الأسد.

وشنت الطائرات الروسية 39 ألف غارة جوية على المدن والقرى السورية.

ومثل ملايين السوريين الآخرين، قتل الروس وقوات الأسد العديد من الشركس واضطر كثيرون إلى مغادرة البلاد.

ومنذ بداية الحرب السورية، هاجر حوالي 20 ألف شركسي سوريا، بحسب تقرير نشرته مركز الدراسات الشركسية عام 2021.

بالنسبة للسيدة سوزان دادوخ، تاريخ الشركس يعيد نفسه، وكذلك تاريخ روسيا. حبل طويل من المجازر يمتد من "بطرس الأكبر" إلى "بوتين الأكبر".

وكما حملت جدات دادوخ أطفالهن على الظهور وغادرن القوقاز هربا من بطش القيصر، حملت هي أطفالها وهاجرت، لكنها لم تفقد الأمل بالعودة إلى بلدها، سوريا.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1082 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع