
إرم نيوز:كشفت مصادر سياسية ومدنية عراقية بأن ممثلي "احتجاجات تشرين" مُنوا بخسارة شبه كاملة في انتخابات الـ11 من تشرين الثاني/نوفمبر 2025، على عكس انتخابات 2021 التي حقق فيها ممثلو الاحتجاجات صعودًا كبيرًا على خلفية الزخم الذي أشعلته الاحتجاجات التي كان أحد أبرز عناوينها "نريد العراق وطنًا" في وجه الفساد ونفوذ إيران.
مصادر سياسية قالت لـ "إرم نيوز" إن خسارة القوى المنبثقة عن حركة الاحتجاجات لم تكن "مفاجئة"، لأنها جاءت تتويجًا لمسار بدأ منذ استقالة حكومة عادل عبد المهدي، مرورًا ببرلمان 2021، ثم انقلاب المنظومة الحاكمة وتحديدًا "الإطار التنسيقي" على قانون الانتخابات الذي سمح يومها بصعود قوى التغيير.
وأضافت أنه "في ظل عودة الماكينات السلطوية والقانون النسبي على قاعدة سانت ليغو المعدل (1.7)، تبدّد رصيد تشرين في صناديق 2025، بينما أعادت أحزاب السلطة توزيع الغنيمة بينها بهدوء أكبر هذه المرة".
"اختراق رمزي" في انتخابات 2021
بعد انتفاضة تشرين 2019، دخلت قوى الاحتجاج البرلمان للمرة الأولى عبر أحزاب وحركات عدة: "امتداد"، "إشراقة كانون"، "الجيل الجديد" وعدد كبير من المستقلين. حيث منحت انتخابات 2021 هذه القوى ما يشبه "الاختراق الرمزي" عبر 9 مقاعد لامتداد، 9 للجيل الجديد، 6 لإشراقة كانون، إضافة إلى 43 نائبا مستقلًا، بحسب النتائج الرسمية.
لكن هذا "الاختراق" لم يتحول إلى كتلة سياسية متماسكة، وفقًا لتقارير بحثية ومصادر مدنية، ذلك أن محاولات تشكيل "كتلة تشرينية" موحدة فشلت سريعًا بفعل الانقسامات الداخلية، والتجاذبات الشخصية، واستقطاب بعض النواب عبر عروض من القوى التقليدية (مناصب، لجان برلمانية، نفوذ محلي)، فضلًا عن التهديدات الأمنية والاعتقالات التي طالت ناشطين ونوابًا مقربين من الحركة الاحتجاجية.
وبحلول 2023، كانت صورة هذه القوى في الوعي الشعبي قد تضررت، فقسم منها اتُهم بالانتهازية، وقسم آخر بالعجز، فيما شعر جزء من جمهور تشرين بأن "الدماء التي سقطت في الساحات لم تُترجم إلى تغيير حقيقي داخل النظام الخاضع للنفوذ الإيراني"، كما تقول ناشطة مدنية شاركت في احتجاجات ساحة التحرير.
"سانت ليغو".. عودة الماكينات السلطوية
الكاتب والباحث السياسي العراقي إياد العنبر يرى من جهته أن "المفصل الحاسم جاء مع قرار القوى المهيمنة (وخاصة مكونات الإطار التنسيقي وحلفاءه) العودة إلى نظام الدائرة الواحدة على مستوى المحافظة، مع احتساب المقاعد وفق "سانت ليغو" المعدّل (1.7)". يقول إن هذا التعديل ألغى عمليًّا الميزة التي منحها قانون 2021 للدوائر الصغيرة والمرشحين المحليين والمستقلين، وأعاد أفضلية واضحة للقوائم الكبيرة والماكينات المنظمة.
النتيجة في 2025 كانت واضحة في خريطة المقاعد: تحالف "الإعمار والتنمية" بزعامة رئيس الحكومة محمد شياع السوداني حلّ أولًا بـ46 مقعدًا، متقدمًا على القوى الشيعية والسنية والكردية التقليدية. والقوى الحليفة أو المقربة من إيران (بدر، الصادقون، وحلفاء الإطار) استعادت تماسكًا تمثيليًّا عبر القانون الجديد، كما يوضح العنبر.
وفي حين احتفظت حركة "إشراقة كانون" بـ8 مقاعد، إلا أنها باتت جزءًا من مشهد توافقي أوسع، أكثر من كونها رأس حربة لحركة تشرين. وتراجع "الجيل الجديد" إلى 3 مقاعد فقط، في ظل تضييق متصاعد على المعارضة داخل إقليم كردستان.
أما التحالف المدني الأبرز المنبثق عن "احتجاجات تشرين" في هذه الدورة، وهو "البديل"، فقد خاض الانتخابات بآمال الحصول على ما بين 10 و20 مقعدًا، وفق تقديرات نُشرت قبيل الاقتراع. لكن النتائج النهائية أظهرت حصول قائمة "البديل" على أكثر من 66 ألف صوت من دون أي مقعد؛ ما كشف كيف أعاد "سانت ليغو" المعدّل تحويل أصوات الاحتجاج إلى "هامش ضائع" في حسابات التمثيل النيابي.
إلى جانب "البديل"، ظهرت قوائم مدنية وشبابية مثل "محرك الشباب"، "الحزب المدني"، "التحالف المدني الديمقراطي"، لكنها مجتمعة لم تستطع كسر عتبة الفوز، فخرجت من الانتخابات من دون مقاعد، رغم حصولها على عشرات آلاف الأصوات المتفرقة في المحافظات.
كيف فُرِط عقد قوى التغيير؟
مصادر سياسية مطلعة على كواليس المفاوضات بين القوى المدنية تؤكد لـ "إرم نيوز" أن اللحظة التي سبقت انتخابات 2025 كانت "فرصة ضائعة ثانية". فبدلًا من خوض الانتخابات بقائمة واحدة ترفع مطالب تشرين، توزعت القوى التشرينية والعلمانية على ثلاثة مسارات؛ الأول ضم المنخرطين في تحالف "البديل" كقائمة مدنية إصلاحية عابرة للطوائف. والثاني تشكل ممن تمسك بهوية حزبه الخاصة (مثل امتداد وبعض المجموعات المدنية)، لكنه فشل في بناء ماكينة واقعية على مستوى المحافظات. أما المسار الثالث فضم من عاد إلى أحضان القوى التقليدية، مرشحًا على قوائمها مقابل ضمانات مقعد أو نفوذ محلي.
في المقابل، كانت الأحزاب المقربة من إيران تعزز "ثالوثها الذهبي"؛ السلاح، المال، والنفوذ المؤسسي، إذ رصدت تقارير دولية ومحلية ما سمَّته "مستويات غير مسبوقة من شراء الأصوات" عبر بطاقات تعبئة وخدمات ووظائف، خصوصًا في الأحياء الفقيرة. وتم استخدام المؤسسات الحكومية كأداة ضغط انتخابي، عبر التعيينات المؤقتة، وتوزيع العقود، والتحكم بخدمات حيوية. فيما جرى إقصاء عدد من المرشحين الإصلاحيين أو المحسوبين على ساحات الاحتجاج لأسباب "إجرائية" مبهمة، بحسب منظمات تراقب العملية الانتخابية.
هذه الآليات سمحت للأحزاب التقليدية ليس فقط باستعادة جزء كبير من المقاعد التي خسرتها عام 2021، بل أيضًا بتفكيك الشبكات التي أفرزتها ساحات تشرين، عبر تفريقها بين مقاطعين، ومشاركين في "البديل"، وآخرين "ذابوا" في قوائم السلطة.
مصدر مدني عراقي يلخص المشهد بالقول إن "المنظومة تعلمت الدرس جيدًا؛ لم تعد تترك للتشرينيين نافذة قانونية أو مالية أو إعلامية للنفاذ منها. القانون تغير، والمال السياسي تضاعف، ورموز الاحتجاج إما أُضعفوا وإما أُعيد تدويرهم".
إيران.. خلف الباب
في خلفية هذه العملية كلها، كانت عيون طهران مفتوحة على صناديق 2025. فنجاح قوى تشرين في دورة ثانية كان يعني عمليًّا مزيدًا من الأصوات المطالِبة بعراق "مستقل عن محور النفوذ الإيراني"، خاصة في المحافظات الجنوبية التي شهدت أشد موجات الاحتجاج ضد الفصائل التابعة لإيران.
تقول مصادر سياسية مستقلة إن مستشارين إيرانيين شجّعوا خلال العامين الماضيين على خيارين متوازيين: توحيد القوائم الشيعية الرئيسية تحت سقف يضمن عدم تكرار سيناريو 2021، حيث سمح القانون السابق لصعود مستقلين وتشرينيين على حساب الأحزاب الحليفة لإيران، ودعم العودة إلى النظام النسبي على مستوى المحافظات مع "سانت ليغو" المعدّل، بما يضمن تحويل أي موجة احتجاجية مستقبلية إلى أصوات مشتتة غير قادرة على ترجمة غضب الشارع إلى كتل برلمانية وازنة.
الشباب.. ما بين غياب وانقسام
تقول مصادر متابعة للانتخابات، إنه رغم إعلان مفوضية الانتخابات عن نسبة مشاركة بلغت 56.11% من المسجلين، تشير التقديرات إلى أن نحو 9 ملايين عراقي من أصل الجسم الانتخابي لم يسجّلوا أصلًا؛ ما يعني أن المشاركة الفعلية كانت أقرب إلى 38% من إجمالي من يحق لهم التصويت.
وتفيد تقارير إعلامية بأن شريحة واسعة من الشباب – وبينهم جزء كبير من حاضنة تشرين – انقسمت بين خيار المقاطعة الكاملة بدافع "انعدام الثقة"، وخيار المشاركة عبر قوائم مدنية صغيرة لم تتمكن من عبور العتبة الانتخابية. هذا الانقسام سمح للأحزاب السلطوية بأن تحشد قواعدها الزبائنية بفاعلية أكبر، في حين بقي جزء من "جيل تشرين" خارج اللعبة أو ممثّلا بأصوات مشتتة.
ورغم أنّ نحو 40% من المرشحين في هذه الانتخابات كانوا دون الأربعين من العمر، بحسب بيانات المفوضية، فإن أغلب الفائزين بقوا من وجوه المنظومة القديمة أو من حلفائها الجدد، بينما بقيت "الطاقة الشبابية" في مقاعد المرشحين الخاسرين أكثر منها على مقاعد البرلمان.
خلاصة المشهد، وفقًا للمصادر، أن خسارة "ممثلي تشرين" ليست مجرد نتاج إحجام الشباب عن التصويت، ولا مجرد ضعف أداء نواب 2021؛ بل هي حصيلة تزاوج بين هندسة انتخابية مُحكمة صاغتها المنظومة الحاكمة وحليفها الإقليمي، واختلال ميزان المال والسلاح، وتفكك معسكر التغيير وعدم قدرته على تقديم عرض سياسي واحد ومقنع.

1043 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع