الشرق الأوسط/بغداد: حمزة مصطفى:لم يخف وزير الزراعة العراقي، عز الدين الدولة، سعادته وهو يعلن عن بلوغ العراق، ولأول مرة منذ أكثر من عقدين من الزمن، «الاكتفاء الذاتي من محصول الحنطة هذا العام». لكنه في المقابل، لم يخف مخاوفه من التذبذب الحاصل في الواقع الزراعي في العراق، الذي يبدو رهنا بظروف داخلية وإقليمية على أصعدة مختلفة، يقف في المقدمة منها المصير الغامض لواقع المياه في العراق الذي من شأنه التأثير الحاسم على المستقبل الزراعي في البلاد.
الوزير الذي تحدث لـ«الشرق الأوسط» بلغة الأرقام عن الواقع الزراعي في بلاده، لم يخف، في الوقت نفسه، ما يعانيه كوزير مرتبط مرة بالتجاذبات السياسية ومرة أخرى بمحاصرة المسؤولين بالكثير من الجهات الرقابية، التي وإن كانت تحصي في كثير من الأحيان على المسؤولين أنفاسهم، إلا أن العراق ما يزال طبقا للتصنيف العالمي، في مقدمة الدول التي تعاني الفساد المالي والإداري. الأمر من وجهة نظر الدولة، يتمثل في أنه «سلاح ذو حدين. فمن جهة، فإن وجود مؤسسات رقابية مثل النزاهة والرقابة المالية والمفتشين العموميين، أمر يفرضه واقع حال الفساد المستشري فعلا في كل مرافق الدولة. لكنه، من جانب آخر، يحد من الكثير من صيغ العمل التي تتطلب السرعة في اتخاذ القرار، بينما ما يزال الروتين سيفا مسلطا على رقاب الجميع، خصوصا من يريد أن يختزل الزمن ويحقق الإنتاج المطلوب».
كان الحديث مع وزير الزراعة، جزءا من متطلبات هذا التحقيق الذي شمل الواقع الزراعي في بلاد كان يطلق عليها وما يزال، «أرض السواد»، بينما هي الآن، واحدة من أكثر بلدان الأرض تعرضا للعواصف الترابية، طبقا للتقرير الذي قدمه الأمين العام للأمم المتحدة، بان كي مون، إلى مجلس الأمن الدولي هذا العام، توقع أن يتعرض العراق إلى 300 عاصفة ترابية في العام على مدى السنوات العشر المقبلة. والأخطر طبقا لتقرير مون، أن «البيانات العلمية تثبت أن العراق لا يتأثر بالعواصف الترابية فقط، بل أصبح واحدا من بلدان المصدر الرئيس نظرا لتعرضه لتدهور البيئة طيلة عقود كثيرة».
والعراق يطلق عليه أيضا بلاد ما بين النهرين أو بلاد الرافدين، بينما أخطر ما يواجهه اليوم ومستقبلا، هو احتمال الجفاف، سواء على صعيد شحة الأمطار التي أدت إلى زيادة مساحات التصحر، أو المشكلة المائية بين العراق من جهة وكل من تركيا وسوريا وإيران من جهة أخرى.
وفي الوقت الذي مر فيه الواقع الزراعي في العراق بمحطات عدة، قبل عام 2003، عام سقوط النظام العراقي السابق، وفي ظل النظام أيضا، كان العراق قد مرّ بمرحلتين هما، مرحلة ما قبل الحصار الذي فرض على العراق إثر غزو الكويت عام 1990، وكان قد حقق قبلها، اكتفاء ذاتيا، على صعيد عدد من محاصيل الخضر والفواكه، فضلا عن بعض المحاصيل الاستراتيجية، مثل محصولي القمح والشعير وإلى حد كبير الرز. أما في مرحلة الحصار التي استمرت 13 عاما، فقد تدهورت الزراعة إلى حد كبير، واستمر التدهور حتى سقوط النظام عام 2003، وما تبع ذلك من مشكلات وأزمات أثرت على كل شيء في العراق، من النفط إلى الزراعة، إلى المياه، إلى الصحة والتربية والتعليم. وعلى الرغم من أن الاقتصاد العراقي ما يزال وحيد الجانب، إذ يعتمد بنسبة أكثر من 95% على النفط، فإن انتقال العراق من الاقتصاد المركزي الاشتراكي على مدى العقود الأربعة الماضية، إلى اقتصاد السوق خلال السنوات العشر الأخيرة، لم يؤد إلى إحداث تغيير كبير في هياكل الإنتاج الزراعي والصناعي في البلاد.
* الزراعة والسياسة
* في العراق دخلت السياسة كل شيء بما في ذلك الزراعة. في حديثه لـ«الشرق الأوسط» قال وزير الزراعة عز الدين الدولة، إن «الأزمة السياسية في البلاد، أثرت إلى حد كبير على أداء الوزارة، بل وتسعى هذه الأزمة إلى إفشال أدائها بشتى الطرق والأساليب، فضلا عن أن المناكفات السياسية تؤثر على عمل الوزير شخصيا، حيث بات وزير اليوم، محكوما بهذه الآلية التي يصعب تخطيها».
وأضاف الوزير الدولة قائلا، إن «الزراعة كائن حي يحتاج إلى ظروف طبيعية للنمو، وفي حال لم تتوفر مثل هذه الظروف، فإن هذا يؤثر تلقائيا على النمو. ما أريد قوله هنا، هو أن وزارة الزراعة لديها ارتباط وثيق بمفاصل ووزارات أخرى مثل النفط والكهرباء والتجارة، فضلا عن وزارة الموارد المائية. يضاف إلى ذلك، الحلقات الأخرى، مثل النزاهة والبرلمان والرقابة والبيروقراطية».
ومن خلال بحثنا في مفاصل الزراعة العراقية، وجدنا أن الحكومة العراقية، وكجزء من سياستها الهادفة إلى رفع مستوى الإنتاج الزراعي، لا سيما بعد التدهور الذي أصاب هذا القطاع في السنوات الماضية، وأدى إلى تدهور الإنتاج المحلي والاعتماد على استيراد كل شيء تقريبا من الخارج، حتى ما كان يتباهى العراق بإنتاجه من قبل مثل التمور، قد أوجدت ما يطلق عليه «المبادرة الزراعية»، وهي مؤسسة مرتبطة شكلا بمجلس الوزراء وبرئاسة رئيس مجلس الوزراء، لكنها، من الناحية العملية، تكاد تكون تابعة لوزارة الزراعة، أو هي مثلما يقول الوزير عز الدين الدولة، «المبادرة الزراعية هي نحن وزارة الزراعة من حيث الكوادر والأساليب، ولكن هناك دعم إضافي من رئاسة مجلس الوزراء، تعبيرا عن الأهمية التي بات يحظى بها هذا القطاع الآن، وفي إطار لجنة وزارية تضم وزارات عدة ساندة». وبلغة الأرقام، الصادرة عن دائرة التخطيط والمتابعة في الوزارة، فإن «المبادرة الزراعية بدأت عام 2008، ورصدت لها ميزانية خاصة، تمكنت، حتى الآن، من توفير مبالغ قروض للفلاحين بنحو (1،75) تريليون دينار عراقي (نحو مليار ونصف المليار دولار أميركي). وبلغ عدد المستفيدين منها، في كل أنحاء العراق 97130 مزارعا». وفي إطار تفاصيل هذه القروض، يقول مدير العلاقات والإعلام في الوزارة، علي مطير، لـ«الشرق الأوسط»، إن «الهدف الاستراتيجي من إطلاق المبادرة الزراعية، هو إعادة الحياة للقطاع الزراعي كقطاع اقتصادي منتج، من خلال دعم وإنشاء وتشغيل مشاريع جديدة في الجانب النباتي والحيواني». ويضيف، «إن القروض الزراعية قد ساهمت مساهمة كبيرة في ارتفاع نسب الإنتاج بشقيه النباتي والحيواني هذا العام، إذ وصل إنتاج الحنطة إلى أكثر من ثلاثة ملايين ومائتي ألف طن، بزيادة فاقت الخمسين في المائة عن إنتاج العام الماضي، وبهذا يقترب العراق، تدريجيا في هذا الجانب، من الاكتفاء الذاتي، إضافة إلى منتوجات أخرى، منها الخضراوات التي أعلن، رسميا، قبل أشهر، عن وقف استيرادها من الخارج، باستثناء بعض الفواكه التي لا تزرع في العراق».
بالعودة إلى وزير الزراعة عز الدين الدولة، وفي إطار سياسة الحكومة الخاصة بالمبادرة الزراعية وصلتها بعمل الوزارة، يقول: «إن سياستنا كوزارة على صعيد الإنتاج، هي دعم الفلاح والمزارع من خلال توفير الأسمدة والبذور والمياه، والأهم التقليل من الروتين الذي ما يزال يشكل عائقا أمام تطوير القطاع الزراعي». ويضرب الدولة مثلا للكيفية التي كانت تتم من خلالها عملية الإقراض الزراعي، قائلا إن «عملية الإقراض معقدة جدا، حيث كانت تمر بنحو 22 مرحلة. وهذا أمر قاتل للفلاح والمزارع. ولكننا تمكنا من اختزالها إلى أقل ما يمكن، بحيث تمكنا من توسيع نطاق القروض، وهو أمر أسهم في تطوير مفاصل مهمة من الإنتاج الزراعي، لعل في المقدمة منها، أننا الآن وصلنا هذا العام إلى مرحلة الاكتفاء الذاتي من الحنطة، التي هي أهم المحاصيل الاستراتيجية في العراق، حيث إن مجموع ما تم تسويقه إلى السايلوات بلغ 3.8 مليون طن يضاف إليها نحو 400 ألف طن حنطة متضررة، حيث يصبح الإنتاج 4.2 مليون طن وهي حاجة العراق السنوية بالفعل من هذا المحصول».
* نحو الاكتفاء الذاتي
* ولدى سؤالنا الوزير عن الفواكه والخضر التي تعج بها الأسواق العراقية، وكلها مستوردة من الخارج وفي المقدمة منه دول جوار لا تملك أراضي خصبة مماثلة لأراضي العراق، ولا مياهه قال الدولة: «بلغة الأرقام أقول لك، إننا الآن اكتفينا عمليا من الخضر بأنواعها، حيث لم يتقدم أحد ومنذ حوالي سبعة أشهر بطلب إجازة استيراد باستثناء البصل اليابس».
وعند مقاطعتنا كلام الوزير، بأن أنواعا من الطماطم أو الخيار الأردني أو السوري أو الإيراني موجودة في الأسواق العراقية، وموجودة على مائدة أي بيت عراقي، بما في ذلك مائدة الوزير، قال إن «الوزارة مسؤولة عن الإنتاج وليست مسؤولة عن التسويق ولا المنافذ الحدودية التي يجب أن يتم ضبطها من جهات أخرى، لكي يبقى الإنتاج العراقي عزيزا ومجزيا للفلاح». وأضاف الدولة أن «عملية الاكتفاء الذاتي التي ننشدها جميعا، لا تحقق الغرض المنشود منها، ما لم تتآزر جهات عدة في الدولة من حيث الدعم اللوجستي للفلاح، والإنتاج والتسويق، ومنع الاستيراد العشوائي الذي ما نزال نعاني منه، وكثيرا ما يؤدي إلى إرباك خططنا ومشاريعنا». وحيث إنه لا يمكن تناول الزراعة في العراق من دون الالتفات إلى قضية أساسية هي النخيل وإنتاج التمور، فإن العراق الذي كان يصنف على أنه بلد النخيل الأول في العالم، بواقع 30 مليون نخلة في ستينات وسبعينات القرن الماضي، بدأت أعداد النخيل فيه تتناقص منذ ثمانينات القرن الماضي لأسباب مختلفة من أبرزها، الحروب وعمليات التجريف التي شملت مساحات واسعة جدا من أشجار النخيل، لا سيما في المحافظات الجنوبية، مثل البصرة والعمارة وذي قار، بالإضافة إلى أمراض النخيل التي ما تزال معالجتها دون المستوى المطلوب. الإحصائيات التي أعدتها خصيصا لـ«الشرق الأوسط» دائرة التخطيط والمتابعة في وزارة الزراعة، تشير إلى أن الإحصاءات السنوية للجهاز المركزي للإحصاء في وزارة التخطيط، «تشير إلى أن هناك زيادة في أعداد النخيل في العراق ناتجة عن اتباع مجموعة إجراءات، من أبرزها تشجيع زراعة النخيل ودعم إنتاج التمور».
ولدى سؤالنا الوزير عن كمية النخيل الموجودة في العراق حاليا، التي كانت قد تراجعت إلى نحو 6 ملايين نخلة خلال العقدين الماضيين، علمنا من الوزير، أنها بلغت اليوم «نحو 17 مليون نخلة»، وأن لدى الوزارة «خططا الآن لبلوغ أعداد النخيل 20 مليون نخلة». وأشار الوزير إلى أن «من بين الأساليب التي بدأت تعمل عليها الوزارة، دعم القروض لغرض لصالح زراعة النخيل، وتشجيع الصناعات التحويلية التي تعتمد في مادتها الأولية على التمور».
* المستقبل الغامض
* وحيث إن العراق بلد زراعي من حيث المؤهلات الطبيعية، مثل الأرض الصالحة للزراعة والمياه، ويعتمد الآن، على النفط كمورد وحيد على صعيد الدخل القومي، فثمة مخاوف من مغبة الاستمرار في الاعتماد على النفط، ما يعني الاستمرار في هدر الإمكانات الضخمة التي يملكها. لكن العراق الذي يواجه الآن مشكلة الفساد المالي والإداري، التي تكاد تكون المعرقل الرئيس لأي خطط يمكن أن تضعها الحكومة العراقية في أي مجال من المجالات والميادين، فإن صورة المستقبل غامضة بالنسبة للمياه. فبعد أن كان نهرا دجلة والفرات مشهورين بفيضاناتهما السنوية التي تغمر مساحات واسعة من الأرض، فإن كمية المياه التي بدأت تدخل إلى العراق، لم تعد تكفي لإرواء المساحات الحالية والمستقبلية، بسبب الجفاف والمشاريع التركية والإيرانية، ناهيك عن إنتاج الطاقة الكهربائية الذي توقف بسبب قلة المياه التي تحويها الأنهار والسدود المقامة عليها. فما هي البدائل إذن؟ وما هي السياسة التي يتوجب على العراق اتباعها للحفاظ على إنتاجه الزراعي، وما يمكن أن يمثله في المستقبل من دور في الدخل القومي في حال نضب النفط أو تراجعت أسعاره؟ وزير الزراعة العراقي عز الدين الدولة، يقول إن «البعد السياسي في هذه المسألة يعود إلى الدولة بشكل عام. لكن هناك مسألة أساسية تعنينا كمسؤولين عن القطاع الزراعي في العراق، وهي أن المياه السطحية والجوفية لدينا تفتقر إلى البنى التحتية، وهي أمور يجب أن تتم معالجتها».
ويؤكد الوزير أن «البدائل التي يتوجب أن نعمل عليها هي اعتماد أساليب الرش والتنقيط، فضلا عن تشجيع الزراعة المغطاة واعتماد بذور تتحمل الجفاف». ومن بين المسائل التي يتوجب التفكير فيها في العراق، من وجهة نظر الدولة، «اتباع سياسة خارجية متوازنة مع دول الجوار على صعيد المياه، والمصادقة على قانون المجلس الأعلى للمياه من قبل البرلمان».
ومن جهته اعتبر الخبير الاقتصادي ماجد الصوري في حديثه إلى «الشرق الأوسط» أن «المعلومات المتوفرة الآن وبناء على الكثير من المؤشرات والمعطيات، أن نسبة مساهمة القطاع الزراعي في الدخل القومي في العراق، قد ارتفعت خلال السنوات الأخيرة، لتبلغ 6 أو 7%، بينما كانت لا تتعدى الـ2%». وبينما اعتبر الصوري «هذا الأمر تطورا إيجابيا، إلا أنه ليس كافيا، لجهة أن العراق بلد زراعي أصلا قبل أن يكون بلدا نفطيا، وأن كل المتطلبات متوفرة لكي تكون المساهمة أكبر بكثير. يضاف إلى ذلك، أن العراق يملك ميزانية سنوية ضخمة يمكن توظيف جزء كبير منها لتطوير القطاع الزراعي بشقيه النباتي والحيواني». وأوضح الصوري، أن «هناك كلاما كثيرا حول ذلك، سواء من قبل وزارة الزراعة أم الحكومة، إلا أن السياسة العراقية في البلاد ما تزال بحاجة إلى إجراءات أكثر فاعلية من أجل تغيير النمط الاستهلاكي الذي بدأ يسود في العراق، وتحويل البوصلة باتجاه الإنتاج. وهذا لا يمكن أن يجرى في قطاع الزراعة، ما لم يجر العمل على إحداث هجرة عكسية من المدينة إلى الريف، بخلاف الهجرة التي حصلت من الريف إلى المدينة منذ أواخر خمسينات القرن الماضي. فضلا عن إعادة النظر في البنية التحتية للزراعة. ولن يتحقق ذلك من دون حسم قضية الطاقة الكهربائية». وأشار الصوري إلى أن «هناك مشكلة أخرى لا بد من معالجتها، وهي زيادة تكلفة الإنتاج الزراعي بالقياس إلى الأسعار السائدة. وهذا ما يدفع الفلاح إلى الاتجاه نحو وظائف أو أعمال أخرى تدر عليه أرباحا سريعة».
1158 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع