الباب الثالث: حرب البناء المؤسسي
الفصل الخامس: النفاذ الحزبي المعاصر
اتجاهات النفاذ الحزبي
ان عملية التسييس التي اسهمت مع أخطاء الادارة السياسية للبلاد في الزمن السابق بتهيئة الجيش وباقي القوات المسلحة الى اتون النهاية السلبية المحتومة، استمرت نهجا في غالبية العقلية السياسية التي تشاركت في ادارة البلاد بعد حصول التغيير، كانت هذه المرة تسابقا في النفاذ الى البنية العسكرية من عدة جهات سياسية، بطرق شتى منها الرسمية عن طريق عملية الدمج لمليشيات الاحزاب السياسية بالقوات المسلحة، وغير الرسمية عن طريق التسلل الى المؤسسة العسكرية بكسب ضباط مستمرين بالخدمة الى صفوفها كسبا حزبيا، واستمالة آخرين للانحياز اليها، متكئين في خطواتهم هذه على حالة الضعف التي تكونت في النفوس، ودفعت البعض من الضباط الى السعي للاتكاء على جهة حزبية نافذة لتقوية موقفهم في البقاء والاستفادة، وعن طريق توسيع سلطة الكتلة الحزبية الحاكمة على المؤسسة العسكرية والامنية المنفذة. انها توجهات واضحة من خلال الحضور الملموس والمتكرر لبعض نواب الكتلة السياسية النافذة لدوائر وزارتي الدفاع والداخلية، وكثر اتصالاتهم بالقادة العسكريين والامنيين هاتفيا، واكثر وضوحا وسعة في الحكومات المحلية التي تحاول السيطرة والتحكم بالقرار العسكري والامني باحتكار اختيار وتنحية القائد المعني، كما هو قرار مجلس محافظة النجف عام 2006 بعزل مدير شرطتها اللواء عباس عبد الكريم، ومنحه إجازة طويلة الأمد بحجة ازدياد التوترات الأمنية في المحافظة، وما يشبهه حصل لمدير شرطة محافظة بابل اللواء الطيار قيس المعموري، الذي دخل الجمهور المسَيّس طرفا في الاحتجاج على عملية العزل التي سعى اليها مجلس المحافظة في نفس الفترة الزمنية.
ان الحالتين عمليتي عزل سياسي بحجج امنية، جاءت على وفق تفسير الساعين اليها بمقدار السماح بامتداد نفوذهم والتابعين لهم في المؤسسة العسكرية والامنية، ومقدار التحجيم الحاصل لنفوذ الآخرين غير المتوافقين معهم. عزلٌ وان جاء متوافقا مع القوانين التي وُضعت اجنبيا بداية التغيير، لتعطى حق الاشراف للمجلس على انتخاب قائد الشرطة، وحق اقالته، لكنه حقٌ لم يكن تطبيقه دقيقا، وحقٌ وضع في الاصل وبما لا ينسجم وطبيعة الادارة والشخصية العراقية الميالة الى الاستحواذ والسيطرة ومد النفوذ. وهنا يقتضي منطق التجربة، القول ان مسألة الانتخاب الخاصة بقيادات شرطة المحافظات، وعزلهم التي تمسكت بها مجالس المحافظات العراقية كانت خطأ، أوجدته سلطة الائتلاف يوم اعتقدت أنها ستبني قوات شرطة على الطريقة الأمريكية التي يتبادل الإدارة في جميع ولاياتها حزبان وفي عراق الحاضر مئات من الأحزاب، ويتنحى رجال الكنيسة فيها جانبا، والقائمين على الجامع يقاتلون من أجل الدور الأعلى في قيادة البلاد، والولاء هناك إلى العَلَم الواحد، ويتجزأ هنا بين القومية، والطائفة والمنطقة، وغيرها معالم اختلاف حضارية تجعل التحكم بعزل مدراء الشرطة، واختيار بدلاء لهم بهذه الطريقة المستنسخة كارثة يمكن ان تحوّل قيادات الشرطة مستقبلا إلى مليشيات حزبية، لا تأتمر بأوامر وزارة الداخلية التي تمثل مرجعيتها الفاعلة بعيدا عن تأثير الأحزاب.
خسائر النفاذ الحزبي
ان الطريقة المذكور للنفاذ والسيطرة، حصيلتها خسارة جسيمة للعملية الأمنية التي تتأسس في جانبها السياسي على رضا الجميع واقتناعهم، واستعدادهم للتضحية، وقبولهم سلطة الحكومة قاضيا منصفا لهم ولغيرهم، وابتعادهم طواعية عن التآمر، والالتفاف والصراع باستخدام القوة. وتفضي أيضا إلى تصدعات، وشروخ في جدران خطط الحكومة الأمنية لأن مساعي التوسع من هذا النوع ستسمح بسيطرة أصحابها على مديرية شرطة المحافظة كأداة ضبط أمنية، وقوة ردع مسلحة واستخدامها لأغراض الحصول على مزيد من التوسع والامتداد، وتحقيق المصلحة الخاصة للجماعة والكتلة والحزب على حساب المصالح العليا للعراق. وتفضي من جانب آخر إلى الحصول على فرصة التأثير سياسيا على قيادة ومنتسبي القوة العسكرية للجيش في المنطقة باتجاه دفعهم إلى غض الطرف عن تحركات قد يقوم بها الأتباع المسلحون لأغراض التأثير وتعزيز النفوذ، الأمر الذي يثير الآخرين حتما، ويدفعهم إلى التفتيش عن وسائل وأدوات مضادة سيكون النفوذ الحزبي اي التسييس هو المتيسر منها في وقت بات البعض من الضباط يتقبلون وبعضهم يرحبون به.
إن العزل على وفق النفوذ السياسي الكتلوي بالمجالس لمن لا ينسجم سياسيا ومصلحيا واتجاهات المتنفذين داخله، بعيدا عن سيطرة المركز "الوزارة" القادرة على التقييم الصحيح، وتقدير أوجه الخلل والإصلاح يعني اختيار بدلاء بنفس طريقة النفوذ، وعلى ذات الأسس الخاصة بالاختيار الديمقراطي تحت رغبة وتأثير الأغلبية التي تنتمي إلى كتلة أو مجموعة واحدة، تسعى في تحركها السياسي والاجتماعي غير الناضج بعد، إلى زيادة أغلبيتها في المجلس حد السيطرة التامة على احد فروع القوات المسلحة محليا، وفق فلسفة الحزب القائد التي عاش العراق تحت مظلة ديمقراطيته المركزية، فترة شهدت اعلى مستويات التدمير للبنية العسكرية.
مساعي الاستحواذ الحزبي
ان أمعان النظر الى مجالس المحافظات المنتخبة في السنوات التسع الاولى ما بعد التغيير"وقت اتمام هذا الكتاب" والى مراكز القوى في داخلها، وطبيعة الصراع الجاري فيما بين اعضائها، يبين وبشكل واضح توجهات حثيثة لبعض الاحزاب والكتل السياسية من اجل زيادة هامش الاستحواذ، والتأثير في القرارات المتخذة، التي تفضي إلى نفع ملموس لذوي التأثير في تلك المجالس، وضرر مضاف لآخرين فيه. لم تتوقف على الشرطة التي سمحت القوانين بالسيطرة عليها، وتوجهت صوب الجيش باساليب صراع وتبادل اتهامات مغلفة بمساعي استحواذ، بينها على سبيل المثال توجه كتل سياسية مشاركة في الحكومة باتهامها بعد عام 2010 علنا بالتفرد بالسلطة، وتابعية مكتب القائد العام للقوات المسلحة الى رئيس الحكومة، والسيطرة على المناصب القيادية المهمة في وزارتي الدفاع والداخلية، وطرحت مع الاتهام افكار لتقاسم السلطة الامنية والعسكرية مع رئيس الحكومة. تقاسمٌ تعتقده تلك الكتل الساعية ضمنا للاستحواذ، توزيع ضباط تابعين لها او مؤيدين لخطواتها في مكتب القائد العام، وبعض المفاصل القيادية في الوزارتين، وكأن قيادة العسكر والامن من وجهة نظرها برلمان يجري فيه التصويت لاتخاذ قرار بتحريك وحدة عسكرية للتعامل مع موقف قتال بالضد من مجموعة ارهابية. وبينها تنافس غالبية الكتل والاحزاب منذ الايام الاولى لاعادة التشكيل على كسب بعض الضباط القادة لتمشية قوائمها الخاصة بالتطويع، والجري بقوة من أجل زرع المنتمين اليها في جسم المؤسسات العسكرية بوسائل عدة بينها اغواء بعض الضباط، والضغط على الحكومة في محاولة للتأثير عليها لما يتعلق بتسمية بعض القادة، او الحيلولة دون تسمية آخرين، الى مستوى اشتكى فيه رئيس الحكومة في مقابلة تلفزيونية مع فضائية العراقية مساء يوم 9/5/2012 من انه قد ارسل اسماء قادة الفرق الى البرلمان منذ فترة طويلة ولم يجري التصويت عليهم، وهم ينتقدونه على تعيين قادة بالوكالة، لغرض تمشية ومعالجة الوضع الامني. وبينها ايضا محاولة بعض الكتل السياسية احتكار بعض المناصب القيادية العسكرية التي أعتبرتها حصصا مقننة للمكّون او القومية أي للحزب والكتلة.
الهدم في عملية النفاذ الحزبي
الاستحواذ خاصية اصبحت ماثلة في سلوك السياسة العراقية الجديدة، عززت وجودها معالم الاضطراب وعدم الاستقرار الذي لم يسمح لسلطة الحكم بتحديد أهداف الدولة عسكريا، وتسمية المصالح الوطنية التي لا يمكن المساس بها عسكريا وسياسيا، ولا بتحديد مصادر التهديد الموجودة والمحتملة التي يمكن أن يخل استهدافها بالمصالح الوطنية، داخليا وخارجيا، وكذلك بتأشير العدو والعدو المحتمل. حتى ان احدا لم يجرؤ طوال سنوات مضت من أن يذكر عدوا، وكأن العراق يعيش وحيدا في هذا العالم المتصارع بلا أعداء وأعداء محتملين، ولم تسمح أيضا بتوصيف سلوك التدخل المباشر أو غير المباشر لبعض دول الإقليم فيما إذا كان تهديدا لمصالح العراق العليا في الأمن وبناء الدولة الديمقراطية. وهذا بمجمله قصور ترك فراغا، حاولت بعض الكتل والاحزاب ملؤه بدعوى الحاجة والمعرفة والاستحقاق الوطني لتوسيع هامش الاستحواذ. وكون أزمة في ظروف اضطراب أمني، دافعت لابقاء الجيش يدور في فلك تيه لقتال غير واضحة ملامحه، يحدث بعضه بسبب الاستحواذ والتسييس الجاري حتى لمصادر التهديد. اذ وفي الوقت الذي ترى فيه كتلة الائتلاف الوطني على سبيل المثال ان احد مصادر التهديد هي السعودية، وبعض دول الخليج، ترى القائمة العراقية ان ايران هي المصدر الاقوى للتهديد، وهي العدو رقم واحد... تناقض سياسي تصارعي استحواذي امتد ولو بشكل غير مباشر الى محيط القوات المسلحة، فاسهم بتأخير بعض خطوات بنائها في التهيؤ والتدريب. واسهم من ناحية أخرى بعدم تحديد سياسة دفاعية يمكن ان يحشد فيها جهد الدولة، والمجتمع لتكوين توازن رادع يجنب العراق، خرقا يمهد إلى جره إلى المزيد من التعطيل والتدمير شبه المنظم.
المبالغة بالنهج التحزبي
ان عملية التسييس التي وقعت في فخها الاحزاب والكتل السياسية، تجاوزت الاستمالة التقليدية لضابط ما او كسب ضابط هنا وآخر هناك، وتجاوزت ايضا الاكتفاء بحدود التأثير في تعيين قائد في هذا المنصب أو ذاك، لتمتد الى محاولة ابداء الرأي في الشأن العسكري، الذي وجد جميع السياسيون انهم قادرون وملزمون بابداءه، اذ وعندما احتدم الجدال في موضوع الجاهزية القتالية للجيش العراقي كأحد العوامل العلنية التي يجري التأسيس عليها في القرار على تحديد صيغة وشكل الإنسحاب الامريكي من العراق عام 2010، ومدى تأثيره على خطط الاستمرار بمقاتلة الإرهاب بنفس الكفاءة والدافعية التي تسهم من وجهة نظرهم بفرض الأمن في ربوع البلاد، دخلت الاحزاب المشاركة في الحكم وغير المشاركة حلبة الجدال، واتفقوا بداية على وجوب اتمام الجاهزية القتالية للحصول على جيش قوي، كرمز من رموز الوطنية العراقية يعيد لها هيبتها وللعراق تاريخه المجيد، وكوسيلة تعامل منطقي مع ضغوط الشارع العراقي التي تتزايد شدتها باتجاه الرغبة في التخلص من الكارثة الأمنية التي يعتقد العديد من المواطنين، أن أطرافها الرئيسيون كتل واحزاب ودول وجماعات، تقاتل في الساحة او تضع عنها من يقاتل بالانابة. لكنهم وعندما وصلوا الى فقرة الحلول والمقترحات اللازمة لتحقيقها، اختلفوا مع الامريكان الطرف الرئيسي في عملية الانسحاب، واختلفوا فيما بينهم كمعنيين بحصوله. اذ وفي الوقت الذي ينظر الأمريكان اليها "الجاهزية" بمقدار الفعل القتالي في الميدان، ومستلزمات تكوين هذا الفعل من أسلحة ومعدات وشؤون إدارية ومعنويات، ينظر من كان من بين الكتل التي تحكم بمقدار الكم الميسور من الأفراد والوحدات القتالية والفنية والخدمية، ومن الأسلحة والمعدات. بينما ينظر من كان في الصف المقابل للحكومة، بمقدار ابتعاد الحكومة عن السيطرة على القوات المسلحة. وترى اطراف ثالثة انه يتعلق بمقدار نفوذهم في المؤسسة العسكرية والامنية. وهكذا يمتد الخلاف من وحي السياسة التي تثير الخلاف، وتأتي الآراء ناقصة لأنها تأسست على جانب واحد من العملية هو الجانب المادي"الانسان- السلاح- المعِدة" في بيئة مثل البيئة العراقية، التي يقاتل فيها الجندي عدو قد يكون قريبا من نفس العشيرة والطائفة والدين، ويتحرك فيها العدو على ساحة قد تكون مشتركة بين الطرفين.
الحزبية تقلل من الجاهزية
ان الجاهزية التي تراها الاحزاب ماثلة في الجانب المادي، جاهزية ناقصة، لاهم عامل في الحسابات النفسية، هو الولاء التابعي الى الدولة، الذي يحتاجه الجندي والشرطي والوحدة في تعاملهم مع موضوع القتال الداخلي، باعتباره ذلك الشعور المركب من الميل والرغبة، والتفاني، والتضحية، والتأييد الذي يسهم في إنتاج الأداء القتالي في الموقف المحدد. الولاء للدولة، كشعور لا يمكن افتراض وجوده، ولا اقحامه في العقول الجمعية للمقاتلين بطلب من الآمر المباشر قبل أو أثناء القتال، ولا يمكن تجسيده في تعميم آني للقائد الأعلى قبل المعركة بقليل، بل ويأتي من عوامل عدة أهمها التدريب النفسي، وديمومة التوجيه الذي يعلي من شأن العراق بلدا آمنا لجميع العراقيين، بالإضافة إلى التطبيق الصحيح لمفردات الثواب لمن يضع عراقيته في المقدمة خلال القتال، والعقاب لمن يتقاعس أو يتلكأ في أداءه القتالي عند المرور بمنطقته أو مدينته التي يصدف أن تكون ساحة معركة في قتال بات محتمل في معظم أنحاء العراق.
ان طبيعة القتال وظروفه تحتاج بالإضافة إلى المهنية العسكرية والضبط العالي والتدريب الراقي، والسلاح الملائم، ولاءً محسوما الى الدولة من قبل المنتسب الذي يقاتل من أجل وجودها، دون أي انحراف منه الى الجماعة السياسية او الطائفة الدينية او العشيرة التي تحاول الولوج الى جسم المؤسسة العسكرية، ولوج قد يبطل دافعية الجندي في مقاتلة اتباعها، عندما يتمردون على الدولة، عندها أي في حالة ضعف الولاء أو فقدانه أو انحرافه سوف لن يكفي العدد المتيسر للمنتسبين في حساب الجاهزية. ولن تنفع معه الاعداد الكلية للبنادق والدبابات، إن كانت أمريكية الصنع أو روسية.
إن الغريب في الكلام عن الجاهزية لم يتطرق أحد من القادة العسكريين الذين يعرفون جيدا أن الجاهزية، تفاعل الجوانب المادية من سلاح ومعدات مع الجوانب النفسية ذات الصلة بالضبط والمعنويات والولاء، والأغرب منه أن ما يزيد عن تسع سنوات لم تكن كافية لأن يدرك المعنيون في العسكرية العراقية الجديدة أن العوامل النفسية في قتالهم الإرهاب الداخلي هي الحاسمة في تحديد النتائج أي كان السلاح. من هذا يتبين ان النفاذ الحزبي ومساعي التسييس بالزمن الجديد، اصبحتا اخطبوط يحاول مد أذرعه في جسم المؤسسة العسكرية والامنية، بدءا من القرار العسكري الامني، وانتهاءً بتنسيب المقاتل في الوحدة والدائرة. سلوكٌ بالإضافة الى تأثيره السلبي المباشر على الجاهزية، فانه واذا ما استمر كما هي خطواته قريبا من عام 2012، سَيُمَهد الى مرحلة هدم يصعب ترميمها لعشرات مقبلة من السنين.
للراغبين الأطلاع على الحلقة السابقة:
http://algardenia.com/2014-04-04-19-52-20/thaqafawaadab/31687-2017-08-30-12-18-53.html
4813 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع