لمحة تاريخية عن أشهر الأناشيد في المشرق العربي
الأستاذ الدكتور باسل يونس ذنون الخياط
أستاذ الرياضيات والعلوم الإحصائية والمعلوماتية/ جامعة الموصل
النشيد هو رفع الصوت بالشِّعر مع تحسين وترقيق بصوت شخص أو مجموعة أشخاص. أما اٍصطلاحا فالنشيد أو الأناشيد هي أغاني ذات توجه خاص تُغنى في أغلب الأحيان بدون موسيقى معتمدة فقط على الصوت البشري وبعض المؤثرات الصوتية إن وجدت.
على الرغم من الشهرة الكبيرة للنشيد المعروف:
طلع الـبدر عليـنا ... مـن ثنيـات الوداعْ
وجب الشكـر عليـنا ... مـا دعــــا لله داعْ
إلا أنه لم يثبت عند أهل العلم والحديث بالأسانيد الصحيحة أن أهل المدينة أنشدوه عند وصول النبي الكريم عليه الصلاة والسلام إلى المدينة المنورة. ويعتقد ذوي الاختصاص أن الإنشاد الديني بدأ عندما مرّ النبي الكريم بنسوةٍ في المدينة المنورة كُن يمدحنه ويغنون:
نحنُ جواري من بني النجارِ ... يا حبّذا محمّدٌ من جارِ
لقد كان للشباب العربي الدور الفاعل في ظهور الحركة القومية العربية في القرن التاسع عشر. وأول إرهاصات القومية العربية كانت في الموصل وبلاد الشام، وكانت من مطالب القوميين العرب استخدام أوسع للغة العربية في التعليم والإدارات المحلية. وكان من نتائج ذلك انتشار الأفكار القومية في بلدان المشرق العربي وبدأت تطلعات الأجيال المثقفة نحو تفعيل الحس القومي العربي على نحو متصاعد.
تُعد الأناشيد بأنواعها المختلفة: الدينية والحماسية والوطنية، من الأدوات الفاعلة في تحفيز المشاعر الذاتية لما تتضمنه من طاقة كامنة تشحن النفوس بتيارات من التفاعلات والأحاسيس الداخلية العميقة.
لقد تزامنت الأناشيد الحماسية مع ظهور الحركة القومية العربية. يقول الأستاذ الدكتور سيار الجميل: "ان الموصل قد فاقت ليس بغداد وحدها، بل تقدمت على مصر وغيرها من البلدان العربية في فن النشيد وبرز العديد من الشعراء الذين نظموا الأناشيد". ويذكر الدكتور الجميل أن الشاعر الموصلي عبد الله راقم أفندي (1853-1891) وهو من المجددين النهضويين وله حظوة عند السلطان عبد الحميد الثاني، كان أول من نظم الأناشيد النهضوية في العراق، بل ويعدّ الأول عربيا في هذا الميدان وله أناشيد نهضوية يستنهض الهِمم ضد الجهل للخروج من الظلام.
ويذكر الدكتور الجميل أن راقم أفندي هو مؤلف أغنية "عالروزانا عالروزانا" (التي غناها كل من الفنانين صباح فخري وفيروز) وأغنية "يا خشوف على المجرية" (التي غناها ناظم الغزالي) وكلتيهما من الحان الموسيقار الملا عثمان الموصلي الذي كان صديقا للشاعر راقم أفندي ويحي له السهرات في بيته بالموصل.
من أشهر أناشيد الشاعر راقم أفندي:
أشرقت شمس الفلاحْ ... وظلام الجهل زاحْ
وانزوى ليل الرقاد ... وضياء الجد لاحْ
فأصبنا من حميا ... كرمة العلم انشراحْ
وتقاضي كل حيّ ... ونأى عنا وراحْ
وتحلى كل فرد ... من رشاد بوشاحْ
ومن الرواد الأوائل للأناشيد في العراق الأديب الموصلي محمد سعيد الجليلي (1896-1963) الذي كان من المؤسسين لعدد من المؤسسات الثقافية التي أسهمت في ترسيخ الفكرة القومية والنزعة الوطنية أيام الدولة العثمانية ثم الاحتلال البريطاني. لقد ارتبط اسم محمد سعيد الجليلي بفكرة العمل على بث الوعي القومي العربي، وقد قام هذا الرائد القومي مع عدد من رفاقه امثال داؤود الملاح آل زيادة ومحمد توفيق آل حسين أغا أفغان وإسماعيل حقي فرج وقاسم الشعّار بتأليف كتاب بعنوان: "الأناشيد الموصلية للمدارس العربية" يتضمن أناشيد عربية حماسية قومية (تحل محل الأناشيد التركية التي كان مقررا انشادها في المدارس آنذاك). وقد استفاد هؤلاء الرواد، من فرصة رضوخ السلطة العثمانية الحاكمة لمطالب المؤتمر العربي الاول الذي انعقد في باريس سنة 1913، ومنها جعل التعليم في المدارس الابتدائية باللغة العربية لتنفيذ فكرتهم. فقاموا بوضع الأناشيد العربية وتولى محمد سعيد الجليلي مهمة جمع هذه الأناشيد وترتيبها وشرح الفاظها وطبعها على حسابه الخاص، ثم توزيعها على مدارس الموصل سنة 1915م.
ومن الأناشيد التي وردت في كتاب محمد سعيد الجليلي نشيد (حطموا يا نشئ) وقد ألَّفه المُدرس والخطاط والشاعر إسماعيل حقي فرج (1892-1948) ومما جاء فيه:
حطموا يا ننشئ عنكم ... واكسروا هذي القيودْ
وأعيدوا المجد فيكم ... إنه إرث الجدودْ
نحن أحرار خُلقنا ... كلنا في ذا الوجودْ
ما خُلقنا لانقياد ... دائم مثل العبيدْ
أما أنشودة الأديب (داؤود الملاح آل زيادة) والذي كان يُلقب (بلبل الحدباء) فقد جاءت على لحن (الروزنة .. الروزنة) ونغمها من مقام ديوان جاء فيها:
يا أمة فخرتْ أم العلى فيها ... أما لأيامنا يرجى تلافيها
أليس نحن الألى كنا دعاة الضيف ... لنا ملوك الورى دانت بحد السيف
فكيف نغضي على هذا الرد والحيف ... أبت بهذا أمة جلَّت معاليها
ثم يقول:
هبوا بني وطني واستلفتوا الأنظار ... واحيوا لما خلفوا أجدادنا الاخبار
واسترجعوا ما مضى واستطلبوا للثأر ... فتلك أمصارنا حل العدو فيها
■ رواد الأناشيد في العالم العربي:
من الرواد الأوائل للأناشيد في مصر الفنان سيد درويش (1892-1923) ملحن نشيد (بلادي.. بلادي.. بلادي) الذي أصبح فيما بعد النشيد الوطني المصري. وفي سوريا برز في هذا المجال الحلبيان بكري الكردي (1909-1978) وعمر إبراهيم البطش (مواليد سنة 1885م).
وفي لبنان برز الأخوين محمد وأحمد سليم فليفل في النصف الأول من القرن العشرين ولحنا أكثر من ألف قصيدة في موضوعات وطنيّة وقوميّة واجتماعيّة وتربويّة لشعراء وأدباء من مختلف أرجاء الوطن العربي، مثل الأخطل الصغير (بشارة الخوري) وعمر فروخ وفخري البارودي وجورج غريب وإبراهيم طوقان ومحمد يوسف حمود وشبلي الملاط وعمر أبو ريشة وسعيد عقل وعبد الرحيم قليلات وغيرهم. ولم يفرقا بين دين وآخر، بل كانا رسل سلام ومحبة وخير للمجتمع، لحنا قصائد بمدح النبي محمد عليه الصلاة والسلام والمسيح والعذراء مريم عليهما السلام.
ومن الأناشيد التي لحنها الأخوين فليفل من شعر الأخطل الصغير:
نحنُ الشـبابْ لنا الغـدُ ومـجـدُهُ المُـخَـلَّـدُ
شـعارُنا على الزّمَـنْ عاشَ الوطنْ
بِعنا لـهُ يـومَ المِحَـنْ أرواحَـنـا بِـلا ثـمـنْ
أما في فلسطين فقد برز إبراهيم طوقان (1905–1941) وكتب قصيدة نشيد (موطني) خلال دراسته الجامعية في مدينة بيروت، وهي تتطلع إلى فجر يوم جديد. وقد لحن الأخوين فليفل هذا النشيد الذي يغنيه الفلسطينيون كنشيد وطني والذي أصبح النشيد الوطني العراقي لاحقاً.
وخلال العدوان الثلاثي على مصر سنة 1956 اشتهرت أنشودة (الله أكبر .. الله أكبر)، وهي من أشعار عبد الله شمس الدين (1921-1977) وتلحين محمود الشريف (1912-1990) الذي تزوج لفترة قصيرة من المطربة أم كلثوم. وقد اتخذته ليبيا نشيدا وطنيا لها من 1969 وحتى 2011.
■ قصة نشيد (لاحت رؤوسُ الحرابِ):
يعد نشيد (لاحت رؤوسُ الحرابِ) من الأناشيد الوطنية الشائعة في عموم الوطن العربي وظل هذا النشيد يُردد في تحية العلم في المدارس سنين عديدة وكاد أن يصبح النشيد الوطني للعراق.
ملحن هذا النشيد هو الأستاذ سعيد شابو الذي عمل في بداية حياته معلما للنشيد في مدرسة شمعون الصفا، وهي من المدارس العريقة للإخوة المسيحيين في الموصل وتقع بمنطقة الساعة قرب السرجخانة.
انتقل سعيد شابو الى بغداد ثم أصبح مشرفاً تربويّا هناك. وجاء في سيرته عن هذا النشيد: "ولهذا النشيد قصة، لا أحد يعرف من هو الكاتب الحقيقي لمفرداته، حتى مُلحّنه الفنان الكبير الراحل سعيد شابو، الذي روى حكايته مستغرباً سطوره: في العام 1939 عندما كان سعيد شابو مشرفاً تربويّا زار إحدى مدارس بغداد، وبينما كان في طريقه إلى مغادرة تلك المدرسة، ناداه أحد المعلمين من كبار السنّ وسلّمه ورقة وضعها شابو في جيب سترته ونسيها، وبعد فترة وجد الورقة في جيبه، فإذا هي كلمات نشيد (لاحت رؤوس الحراب)، وقد أعجب بها وسرعان ما لحنها، وحين أراد تسجيل النشيد لم يعثر على اسم الشاعر في الورقة، ولم يتذكر اسم المدرسة التي استلم الورقة منها". وتقول رواية أخرى أن مؤلف النشيد هو المعلم الفلسطيني نور الدين محمد في مدرسة التفيض الاهلية ببغداد.
لاحت رؤوس الحرابِ ... تلمع بين الروابي
هاكم وفود الشباب ... هيا فتوة للجهادِ
هيا .. هيا هيا هيا .. هي .. هيا فتوة للجهادِ
المصادر:
- "سيّار الجميل يكشف معلومات تاريخية مهمة في محاضرة بلندن عن شاعر عراقي مغمور"، جريدة الزمان اللندنية، 11 ايار 2019.
- مدونة الدكتور ابراهيم العلاف.
- مجلة الكاردينيا.
- الموسوعة الحرة ويكيبيديا.
461 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع