جراح الغابة - الجزء الثاني

        

                  جراح الغابة - الجزء الثاني

    

في هذا المخزن العتيق أسلاك توصيل كثيرة، متشابكة أطرافها بطريقة فوضوية مثل وشيعة غزل تاه رأسها، کما يرد في الأمثال، تحتاج فك تشابكها، واختيار الأطول منها لعمل التوصيل المطلوب بغرفة الطعام، مع التحويلة الخاصة بالخط القادم من المولدة الى البيت.

سامر في الأصل لا يجيد فك الاشتباك، لا يبرع في قضايا الكهرباء. كما إن صفة الاستعجال تغلب على سلوكه المعتاد، وبما لا يتناسب والموقف الذي يتطلب السرعة في إحضار التوصيلة وربط الكهرباء، والعد التنازلي للفطور قد بدأ ماضياً في طريقه الى النهاية، وأي تأخير سيغضب الوالد، وسيعيد الاتهام بالكسل والتراخي. لكن الاستعجال ومحاولة تجنب الغضب يضاعفان الوقت المطلوب لفك الاشتباك، ويزيدان من فسحة التأخير.
حاول جاهداً استباق الاحتمالات الواردة، والتخفيف من أثر التأخير، بتوجيه اللوم إلى منى التي وضعت التوصيلة في المخزن اللعين آخر مرة، وبصوت سمعه الجالسون بالصالة. توقف عن اطلاق اللوم بعد حصوله المطلوب، موجهاً الكلام إلى نفسه دون سماع الآخرين الجالسين في الأسفل:
(الحمد لله لم يتكلم الوالد إلى الآن).
هم بالخروج فرحاً بالإنجاز العظيم. أوقفه في المكان وسط المخزن صوت مطرقة ضخم، يضرب باب الصالة بقوة، كأنه صوت انفجار قنبلة يدوية هجومية، أعقبه صوت تكسر زجاج الشباك المطل على الحديقة الأمامية.
ارتعب وإن لم يميز الأسباب.
وقبل الاستفاقة من نوبة رعبه، نفذَ شخص ملثم من الفتحة التي أحدثها الكسر. طويل القامة، كأنه محارب من الفايكنغ، يحمل بندقية كلاشنكوف بأخمص يطوى بدلاً من السيف المعهود حمله في تلك الأيام لتنفيذ الهجمات الطائفية.
وجه فوهتها إلى الحضور. ومن ثم دخل آخر بالتوقيت ذاته من الباب التي فتحت من أول ضربة مطرقة:
متوسط القامة، نحيف مثل عدائي المسافات الطويلة، يحمل سيفاً بدلاً من الشعلة الأولمبية، لوح به مثلما يفعل المسلمون الأوائل في معاركهم مع الكفار، خلع لثاماً كان يغطي وجهه المحمر بلون الدماء التي تدفقت إليه من فرط الشعور بالغبطة.
التمعت عيناه ببريق غریب، كعيني قطة محبوسة في قفص حديد محکم الأقفال، وقد تجسدت في داخلها كل مثيرات الغل والكراهية. يتبعه إثنان يحملان مسدسات وذخيرة محزمة بها خصورهم.
خلعا اللثام هم أيضاً بعد شروعه سيافاً بالخلع في أول خطوة له في اجتياز الباب. أحدهما ممتلئ، أسمر داكن البشرة، أجعد الشعر، سوداني الأصل على الأغلب، والآخر شاب أبيض بسمرة خفيفة، لم يكتمل نمو جسمه بعد، ولا شعر لحيته التي ظهرت على ذقنه شعيرات متفرقة، لا يزيد عمره بأي حال من الأحوال عن السادسة عشرة عاماً. هيئته العامة توحي عراقي من بغداد.
تفرق الثلاثة على الزوايا الحاكمة في الصالة والمطبخ فور دخولهم، بإشارات من أميرهم الرابع حامل السيف، الواقف بمواجهة الأب الدكتور المذهول، وهو يحاول النهوض من مكانه کرد فعل غريزي أولي، فيحصل من السياف على أمر فوري حازم بالجلوس في نفس المكان، وهو ينتقل بعينيه من مكان إلى آخر في البيت، بتركيز كمن يعرف خباياه، أو يتوقع رد فعل غير محسوب.
تقدم خطوة إلى الأمام نعت الموجودون في خطبة قصيرة بالكفار، الزنادقة، عملاء الأمريكان، توعدهم في نهاية الخطبة بمجيئ يومهم، بوتيرة صوت زادت حدته، ورخامة حروفه مع كل كلمة تقال، كمن يتصور نفسه عند نطقها قائداً للميمنة في جيش خالد بن الوليد إبان صدر الإسلام، أو الميسرة مع طارق بن زياد في عبوره البحر، متجهاً صوب الأرض الاندلسية.
بدأ المخزن يحسه وكأنه يصغر ويتقلص ويضيق، وبدأت الجدران وكأنها تقترب من الجسد المسجى حتى تكاد تطبق عليه، أو إن جسمه الناصح قد تضخم، حتى لم يعد يسعه المكان.
أحس الرأس قد تورم لكثر الدم الذي تدفق إليه فجأة من شدة الخوف، وأحس أيضاً ضربات القلب قد تسارعت وتضاعفت أعدادها تكاد تخرجه من بين الأضلاع.
أهكذا هو الموت؟.
إحساس بالضيق من المكان.
عتمة شديدة.
عرق يتصبب.
وحشة فراق.
طيش يرفع الجسم في الهواء.
لم يفكر من قبل بشكل الموت الذي أحس دنوه الآن، ولا عطل القدرة على التفكير، والخدر الذي يسري في الجسم بادئاً بالرأس متجهاً إلى أسفل القدمين.
الساقان الطويلتان غير قادرتين على حمل هذا الجسم الواقف قريباً من الباب.
غصة في الحلق لا تخرج خوفاً من افتضاح الأمر.
دوار وألم وعدم قدرة على الثبات تقرب من الموت المرعب بالتدريج. تمنع مسك الفأس المركونة على الرف القريب، والهجوم بها على الارهابين المنتشرين في الصالة كما هي الامنيات التي سادت في تلك الأثناء.
فأس مقابل مسدس، وجسم يقترب منه الموت مقابل بندقية، غير معقول، وإغماءة قد تجنب الموت خوفاً، لكنها ستوقع في الفخ المنصوب للموت عمداً.
ناجت النفس الخائرة أناها الواعية (لابد من الصمود، بل والهروب، حتى لو تبين ما يحصل غير حقيقي، أو ضرباً من الجنون، کما تنبئ مجسات الشعور المضطربة).
لا شيء يستعان به لتفادي السقوط على أرضية المخزن التي تتبعثر عليها الأشياء، سوى الاتكاء على الحائط، وتحسسه باليد التي لا تمسك فأساً ولا تقوى على رد الباب. عمل سريع يمكن أن يعيد الوعي، وينهي حالة التشوش الحاصلة في الادراك البصري والسمعي.
نتيجة التفكر الملي، كان الهروب هو العمل الأسلم:
لابد منه تحدياً لهؤلاء الداخلين عنوة إلى البيت في وقت الافطار.
فشلت المحاولة الأولى لعدم مطاوعة الساقين، اللتين بقيتا مسمرتين في المكان، إلا من ارتجاف كاد يسقط الأدوات الموجودة على الرفوف ويفشل أمر الهروب.
موقف خذلان صعب أعاد الجسد خائباً إلى الطفولة..... نكوص إلى مراحلها المتأخرة، مفيد في حسم الصراع الحاصل بين الرغبتين المتناقضتين:
(موت بالهجوم على الداخلين بفأس، مقابل النجاة بالهرب من الموقف مثل قط يلاحقه كلب مسعور).
تيقن أن العقل الطفولي يحسم كثيراً من الاشكالات في كثير من المواقف، وإن كانت بعض توجهات الحسم نوعاً من الجنون، دفع هذه المرة إلى التفتيش في المخزن عن مكان يمكن فيه الاختباء، كما كان يجري في اللعب مع الوالد، والبنات قبل أكثر من خمسة عشر عاماً. لكن المخزن اليوم قد أمتلأ بالقديم من الأدوات والجديد من المعدات، وضاق كثيراً عما كان عليه أيام اللعب. والزمن هو الآخر قد تغير، لم يعد فيه مجال للعب في مواقف الاغتيال، وحجم الجسم قد تضخم بما لا يساعد على الاختباء.
مر الوقت حرجاً، لا مجال فيه الى التدقيق في الأفكار، وبدلاً من الغوص في غياهب التدقيق إتجه العقل الطفولي نحو الشباك الصغير في الركن المقابل لباب المخزن، المؤدي إلى الممر الخلفي للدار، سبق وأن أستخدم في لعبة الإختباء، أيام الطفولة، لكن كتيبة حديدية وضعت لتغطيته من الخارج بدافع الحيلولة دون تسلل السراق منه إلى داخل البيت، تزيد من التعقيد، وقد تفشل خطة الهروب.
زادت العتمة، وإقتربت الجدران من بعضها البعض، أكثر فأكثر، حتى تكونت في العقل خشية انغلاقها تابوتاً على الجسد الغض رافقته رعشة خوف سرت وكأنها تيار كهربائي سار دفعة واحدة في المسامات.
سمع أثناء السريان بملأ الأذنين المفتوحتين، أوامر التفتيش الدقيق لكل شبر من البيت.
لا يدري كيف قفز حافيا؟.
كيف وصل إلى الشباك؟.
وكيف دفع الحديد الذي صديء من ملامسته مياه الأمطار؟.
كل ما يعيه، تقلص جسمه قليل الشحم، كإسفنجة مشبعة بالماء، أحس لحظتها خلو بدنه تماماً من العظام. قوة غريبة فعلت كل هذا بلحظة زمن لا تقاس. لم يعرف مصدرها حتى الآن، فاستسهل عزوها إلى الله، والقسمة المحتومة بالنجاة.
ثوان لا يتذكر في أثنائها تفاصيل مئات الحركات، والمحاولات المتعاقبة، حتى أصبح، خارج الشباك، خطوة هي الأهم باتجاه الخلاص، بضمنها رد الشباك قريباً من وضعه السابق، وسحب علبة کارتون فارغة لفرن كهربائي تم شراؤه قبل شهور من الآن، لتغطي الواجهة من الأمام.
مرت اللحظات وكأنها السنون، صراخ علا أجواء الصالة، وصمت أب مذهول، دفع إلى الاستعجال في عملية الهروب دون الدخول بالتفاصيل. صعوبة الموقف حالت دون الدخول بالتفاصيل والخطورة من جانبها حالت دون إكمال فكرة الهروب إلى خارج البيت الذي قد يكون مطوقاً من آخرین، عادة ما يضعهم أصحاب هكذا أعمال لأغراض إحكام التطويق والحماية، وللحصول على نوع من التنبيه، ولا أمل كذلك في النزول على بيت الجيران، الذين أقاموا جداراً يفصلهم عن البيت وزادوا من ارتفاعه حتى لا يمكن تسلقه أو القفز من فوقه. ثم إن الهروب بعيداً عن البيت سيكون أكثر إيلاماً من البقاء فيه، قريباً من أحداثه، للمشاركة بالألم على أقل تقدير.
هكذا كانت الأفكار التي توالت سلسلة متواصلة في لحظات عابرة، أوصلت سريعاً الى قرار التوجه الى سطح الدار خياراً يؤمن المطلوب:
هروب في غير هروب، أو نجاة من الموت، وموت منقوص طوال الحياة، حالة يمكن للمرأ بلوغ مطلبها بالقفز من على الحافة الاسمنتية العليا للشباك إلى حائطه الذي يعزل السطح، كما كان يحصل تماماً أيام المراهقة.
جرى التنفيذ سريعاً كما حصل في الخروج من الشباك، وانتهى الحال استلقاء على بلاط السطح الاسمنتي الذي يحتفظ حتى هذه الساعة بحرارة النهار.

للراغبين الأطلاع على الجزء الأول:

https://algardenia.com/2014-04-04-19-52-20/thaqafawaadab/50894-2021-09-28-21-03-50.html

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

672 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع