جراح الغابة: الجزء التاسع/ د.سعد العبيدي
هذا القادم عبر الزمن البعيد منفعلاً، يمل الانتظار، لا يجرؤ على الاستمرار بوضع الاستراحة، لشدة الغضب الطافح من داخله، ولا مغادرة المكان هرباً إلى الأمام، قبل إفراغ وعاء البوح في داخله، بات يتحرك حول محوره في وضع قلق، يبذل جهداً في أن ينهي وقفة الصمت التي حصلت تواً، فتسقط منه الكلمات مثقلة بالهموم متناثرة غير مفهومة.
تشبث بجذع الشجرة المتهالك، كأنه غير قادر على النهوض، لحظة اليأس المارة جعلته أشبه بالمشلول، يرى ضعفه وأساه في نوبات الصمت التي تعاوده في مواقف المواجهة، اتكئ على يديه المتوترة حتى نهايات أصابعها، لكنه فشل من جديد، فدار حول نفسه دورة أخرى، وأخرى تطلع منها إلى الغابة التي تبهر الناظر إليها، كأن انكسارات ضوء الشمس، وارتفاع الظلال وأعشاش الطيور، مجسات وأشكال هندسية، لا تمل عند النظر إليها من قريب، لكنه ملها، رآها مقفرة مليئة بالأحزان، ورأى نفسه حاملاً كل هموم الدنيا، وحيداً يتجول في هذا العالم، حائراً بين الاستمرار بالتجوال هرباً من قاتل أسرته، وبين الاستقرار ورفض التفكير بالعودة إلى العراق، ونسیان موضوع الانتقام من قاتل لعين.
رفع وجهه إلى السماء، مال بجسمه النحيل قليلاً إلى الخلف، مستمراً في الاستناد على الجذع الممدود. (الهي أرحمني، لقد مللت التفكير، كرهت نفسي، ضعفي، حاضري المنحوس)، ومن وضع التداعي القريب من الغيبوبة، همس بصوت يرتفع قليلاً عن الهمس (هل هناك في الدنيا أقسى، وأتعس من أحد يتخيل ظل أسرته المذبوحة بسيف الصديق القديم إلى جانب ظله المعتم في المنام، وفي المسير؟).
التعاسة وحدها لا تكفي، ولا النواح لما يأتي من عمر تبقى فيه مهموماً، متنقلاً، حائراً، شاعراً بالتقصير، الموت أرحم من العيش مع النواح، وذکریات تطفح منها رائحة الموت المجنون، والشعور بوخز الضمير، وجسد الأم العاري يأخذ مكانه بين جثتي الأختين مقطعتي الأوصال، ورأس أب مذبوح من الوريد إلى الوريد، ولوم الذات على عجزها عن التدخل في موقف الذبح المشهود، البوح بالمكبوت من الماضي القريب مؤلم، لا مفر منه لمن يعيش ناره الحارقة ليل نهار.
حاول القفز على مخاوفه، والبوح بقليل مما يطفو على سطح ذاكرته المصبوغة بالسواد، فانتابته نوبة صمت أخرى، قام بحركة من كلتا يديه الباردتين، تغيب عن النفسانيين العارفين دوافعها الحقيقية، لهث خلالها بصوت مسموع، ضغط على أصابعه النحيلة بقوة، حتى برزت عظمتا وجنتيه إلى الأمام، وانتفخ شريان رقبته على الجنبين بشكل مخيف.
مرارة الذكريات شتت تركيزه، وهذيانات الماضي بشقيه البعيد، والقريب تجاهد أن تخرج بلا تحكم من عقله المصاب بالدوار، فجعلت الوقت من حوله يمر بوقع ثقيل، وكذلك الحيرة بين البوح بمكبوت يحرر النفس من سجنها، وبين صمت مخنوق تقف فيه الحروف على عتبات اللسان المشلول.
الخيار مازال صعباً، وفرص البوح لا تنتهي عند الجلوس على عشب الغابة النابت على حافات الطريق.
ضغط بكلتا يديه على قلبه المهموم، لتجنب الاختناق تحت وطأة الألم الذي سببه سيل الأفكار، الساعي إلى خرق جدار الذاكرة المثقوب، بدّلَ مجرى الحديث، تنقل فيه من موضوع إلى آخر، بعضه بعيد عن الزمان والمكان الذي هو فيه، وبعضه الآخر في صلب الموضوع، راوغ واستسهل حصره في القرية التي اتخذت قاعدة لترتيب الأفكار، وإعادة التنظيم المطلوب للتفكير، استهوته غرابة أهلها الذين يعودون بتاريخ وجودهم مهاجرين هاربين إلى عدة قرون من الزمان، وتقاليدهم التي لا يمكن أن يفهمها من لم يعش بينهم، أو قريباً منهم، وأثار انتباهه موقعها الذي يتوسط المسافة بين قمة الجبل، وسفحه المطل على البحر، والممر الوحيد المحفور بين الصخور، صممه الأوائل متاهة يسلكونها، بخيولهم القوية، ويحمون قريتهم بغلقها عندما يريدون.
فكر لحظة في أن ينهي صراع الهيام في داخله، ويستقر بين أهلها، يعيش مثلهم محباً للطبيعة، عسى أن يعوض عنها حب البشر المفقود، فأنتهى به الحال بعد لحظة إلى قناعة من أن الاستقرار في مكان محدد، قيد لا يقدر على تحمل تبعات أقلها التوقف عن فكرة يعيش من أجلها، تسكن عقله ليل نهار.
استمع وعلق قليلاً على اشراقتها، وخضرة المكان من حولها، ونقاوة هوائها، وزرقة سمائها التي تحسب من نوع خاص، وكذلك رائحة أعشابها، وأزهارها البرية التي تعد هي الأخرى من نوع خاص، قارنها بحسرة الخسران الباهت، لحاضر ديار بلا خضرة، ولا ماء، ولا أزهار تنبت من جديد، فتوصل إلى أن الخضرة من عدمها للتائه في حياته، أمران متشابهان.
ترك التعليق على السيد أندرو، عاشق الطبيعة، والعيش الناسك بالقرية، وأهمل انتهاء أهلها إلى طائفة دينية مسيحية استوطنتها ملاذاً آمناً من قبل، كمن لا تعنيه العبادة في هذا الزمان، ولا أصل الأديان، وهو الغارق بهموم الانتقام من شخص، هارب منه، راغب بملاقاته، لا يفكر بالكيف وبرفض العودة إلى العراق التي لا تحقق منطقياً فكرة الانتقام.
دار دورة ثالثة في المكان الذي لم يسعف مساعيه لتقليل التوتر الشديد، نظر إلى سرب أوز عاد من هجرته، طائر الى أعلى قمة الشجر المرصوف، تخيله قد مر بالعراق، ولم يحط به احتجاجاً على ما يجري في داخله من انتشار الأوبئة وأنواع السرطانات، وتغير المناخ ونضوب المياه، والصيد المعتوه بالقنابل الصوتية ومختلف المتفجرات، أغمض عينيه تماماً، لم يعد يرى من حوله، ولم يسمع سوى همس الرياح في مداعبتها الأشجار، انتعش بتيار هوائها البارد بلا غبار، ورطوبة تسربت إلى داخل ملابسه دونما استئذان، دفعته إلى معاودة الرغبة في البوح، بعد أن عدل شعر رأسه الطويل، وهو يتدلى خصلاً غير منتظمة على كتفه من كلا الجانبين، فجاء صوته مكتوماً بنبرة حزن كئيب، لهجته البغدادية بسيطة تبرز من خلالها الحروف الثقيلة، وكان بمجمله أشبه بالعتاب، عن بؤس الطبيعة، وعهر الأقدار التي وضعته هنا تائهاً، مهزوماً، يتشبث بمكان ليس مكانه، يعيش بين أقوام غريبة، ودفعت بمن تبقى من أهله، هناك إلى أن يستمروا في مواقف التناحر الهمجي المتخلف بين الطوائف والأقوام، وملأت عقله بكوابيس، أقلها رعباً:
جلوس عابر على حافة بيت هدمه صاروخ آت من بعيد، يحاول منه الفرار، فيجد أرجله مسمرة بالمكان.
والمشي من فوق جثث بعثر أعضاءها انفجار عبوة ناسفة، يجهد نفسه أن لا تنغرس قدماه في إحداها، فيحس أنها لا تطاوعه.
وكذلك الاقتراب من سياف صديق، يحاول منه الهرب، فيتعثر في خطوته الأولى، ويبقى مشلولاً، عاجزاً عن درء توالي الضربات.
كوابيس، تغلفت عمداً بمشاهد الموتى، المرمية جثثهم مقطوعة الرأس، متناثرة لقى على مزابل لم تصل اليها فرق التنظيف، والذباحون بسيوف المجاهدين الميسورين يضعونها على الرقاب، وهاتكو الأعراض المتوحشون، يستعدون لصولة جديدة، ورصاص الغادرين لا يتوقف عن الانطلاق، وفرق التهجير الطائفي تعمل ليل نهار، ومسلحو المليشيات ينصفون ضحاياهم بقتل مستور، وسائله متعددة، أشهرها كاتم صوت، ونقاط السيطرة الوهمية المنصوبة في شوارع بغداد تتحدى السلطة الفعلية، وحفر القنابل والمتاريس تعجز أمانة العاصمة عن تغطيتها بالإسفلت المغشوش، حتى ملأت الذاكرة بخزين لا ينضب من المقت، والحقد اللئيم.
أي بؤس هذا وأية حياة في بغداد، يغلف أجواءها رماد الحروب، وتزكم أنوف أهلها من غير السياسيين رائحة البارود، وبقاء جمرها موقداً للغل والحقد اللعين.
أي بغداد هذه التي عاد أهلها إلى الماضي البعيد، إلى خيمة العشيرة، يستمتعون بلغة شيخ جاهل.
يرفعون رايات الثأر والسلب والانتقام.
يرفضون لمجرد الرفض.
يعارضون كل شيء.
يؤيدون كل شيء.
يصفقون لكل شي.
يهدمون معابدهم على رؤوسهم.
يصرون على إقامة ولائمهم من لحوم أخوتهم.
يعلقون رؤوس من يعطون رأيا بالضد من آرائهم على الرماح، موصدة قلوبهم بأقفال الغل.
يتفاخرون بالمروءة والشهامة والشجاعة والنخوة، بعد أن قتلوها في أنفسهم بأنفسهم.
يتعلقون بماض، يعرفون كتبته جبابرة متسلطين.
يظنون مقتنعين أن من لم يقو بعشيرة، لن يكون عراقياً أصيلاً، لا يحق له البقاء بينهم، عليه أن يجلى عن مرابعهم.
وأي بغداد هذه التي عاد أهلها كذلك إلى الماضي القريب.
يخلعون لباس الخاكي المشهور زمن الديكتاتور، ليضعوا العمة والعقال في الزمن الجديد.
يكتبون التقارير الى سلطات الحكم الجديدة، نسخاً عن تلك التي كانوا يكتبونها إلى حزب البعث وأجهزة الأمن، يقدمون الوشاية بالمجان، يضنون أنها فقط تضمن لهم الوقوف في الصفوف الأولى، مع قادة العهد الجديد.
يعتقدون أن لحية ناعمة، ومسبحة طويلة، وخاتم شذر، ينقلهم سريعاً من نفاق الحزب الكافر أيام صدام، إلى إيمان الرأي الواحد هذه الأيام.
مقتنعين تماماً أن مداهنة بسيطة ينقلبون فيها من عازفين عن حضور التعازي الحسينية ناقدين طقوسها، زمن صدام، إلى تائبين، يسيرون بمقدمة الجموع السائرة إلى كربلاء مشياً على اقدام حافية في عاشوراء ستمحي تاريخاً سابقاً كانوا فيه يمشون على جثث ضحاياهم، وتنشئ آخرين يكونون فيه أصلاء.
أي بغداد هذه التي عفنت جروحها من كثرة الدماء، واستبدلت فيها مجالس أبي نواس على دجلة، بحلقات التكفير في جوامعها التي فاق عددها بيوت الساكنين، وأي بغداد هذه التي تجمعك صدفها المتعثرة بصديق الدراسة الابتدائية، والمتوسطة في لقاء غريب، لقاء رعب خال من العناق بعد عشر سنين من الفراق، يقيم فيه حد السيف على صديق كان عزيزاً، والصديق طريدته، غارقاً في الأفكار، هارباً من حد السيف.
أي زمن هذا الذي أنست فيه سنوات الغربة قبل السقوط، ذلك الصديق الشرس، ساعات اللعب في ساحة المدرسة، وأمام بابها بعد انتهاء الدوام، ومَحَت من ذاكرته الجلوس على طاولة الدراسة ذاتها، وتقاسم الغرفة في البيت، الذي وضع قدمه فيه على جثث أكلها الموت، وازالت منها لمحات المشي في شارع العمل الشعبي بالعامرية، وتبادل القصص الباهتة والتحرش الساذج بالبنات، وتلك الأشعار التي كان يقرأها مع الموسيقى التي تعزف في البيت ذاته الذي أغرقه بدماء من استقبلوه، وسمعوا أشعاره بإمعان.
ما الذي دفعه لارتكاب فعلة الذبح الشنيع على مائدة الإفطار؟.
عشر سنين مسافة الفراق كانت مليئة بالأحداث المتتالية بعضها لذاك الصديق الذي تسكع في شوارع العامرية نهاراً، والاستماع إلى محاضرات دينية تحريضية في الليل، وبعضها تشاجر شبه يومي مع الأب المنشغل بهموم العيش أيام الحصار، وبعضها الآخر انتماء تطوعي إلى فدائيي صدام لتعلم فنون القتال.
جميع تفاصيلها لم تنسه اختلافات المراهقة، وانفعالاتها التي تحولت في زمن التناحر الطائفي إلى دوامة انتقام، دفعته لأن يعيش في أنبوبة محكمة الاغلاق، ضاعفت عدوانيته الموجودة في الأصل، وزادت غضبه، وهواجس خوف كانت تسكنه طوال الوقت، وعززت إصراره على قتل الأسرة الصديقة، تحت يافطة الجهاد بسيوف الاسلام.
بغداد الحاضرة سيدي، لم أعد أعرفها، لقد ماتت في داخلي وفي نفوس أهلها، وبالأحرى أماتها أصحاب الذبّاح، الذين وفدوا لإماتتها من بلاد العرب والاسلام، بعد أن ضيقوا على الجميع الخناق، وحصروهم سنوات بسجن داخل النفس، فيه عذاب لم يخبره سجين سياسي زمن القذافي وصدام، حتى أصبح المشي في شوارعها ليلاً من الممنوعات، ونهاراً يشعر الماشي وكأنه يتجول في قبر مظلم مثل أفعى البيوت.
إنها لم تعد بغداد هارون الرشيد، ولا بغداد الرصافي، ولم يعد أهلها الناجون من ويلاتها بغداديين.
اللعثمة مع بداية العودة إلى الكلام عن الماضي المدفون، مشكلة تعاوده من جديد، واختناق الصوت في الحنجرة يصبح واضحاً من جديد.
الاسترسال في جمل متقطعة، ينبش الماضي المؤلم ويثير الأحزان، التوقف في حالتها جَنَبْهُ الدخول في نوبة بكاء، لا يرغب حصولها في هذا اللقاء.
افتعل حركة في مكان جلوسه المحدود، فتح الحقيبة التي كان يحملها على ظهره عند القدوم، أخرج بساطاً من القماش السميك وعلبة سجائر، من مستلزمات الجلوس الطويل، وتبادل الحديث، أشعل واحدة وعرض أخرى، عادة ألفها من أهل بغداد قبل الخراب، نفث دخانها إلى أعلى مثل كل المهمومين، وعاود نفثه من واحدة أعقبتها، لم تنفعا في إخراج الخوف من عروقه المتورمة، ولا بتغيير الشكل الذي بدا أكثر توتراً، ووهنا حتى استلقى على البساط، يعض السيجارة بأسنانه التي ترك النيكوتين بقعاً سوداء قريباً من جذورها، واضعاً يديه تحت رأسه، وعيناه تنظران إلى شجرة في أعلاها يحط طائر أبو المنقار المهيمن على المنطقة سيداً لباقي الطيور.
فكر في أخذ استراحة من فرط الآهات التي أطلقها منذ وصوله هذا المكان، أو ربما السكوت اكتفاء بما قيل قبل قليل، لا يمكن التنبؤ بما سيستجيب في خطوته القادمة، حالته مثيرة للاهتمام، ترتجف فيها جفونه، وكذلك شفتاه، وأكثر منها أسنانه التي كاد يفقد بارتجافها السيطرة على السيجارة، وكأنه أصيب بنوبة صرع عاودته من فرط الشد العصبي، وكثرة التفكير.
عدل جسمه من وضع الاستلقاء بصعوبة، ليستند إلى جذع الشجرة في نية مسبقة للجلوس، استقر في حالته، أن بوجع وألم شديدين، كمن طعن تواً بسكين، واستمر ناقداً هذه المرة:
لماذا الناس هنا من طائفة الآميش المسيحية، وغيرها مسالمون، ليسوا مثل الناس هناك من الطائفتين المسلمتين متصارعين؟
لماذا متدينوهم من هذه الطائفة هنا صوفيون، لا يشبهون الذين هناك في تسابقهم على فتات الدنيا بطريقة تشمئز لها النفوس؟
لماذا أهل القرية هنا قانعون بعلاقتهم الوطيدة بالطبيعة، يتأملون المستقبل الأفضل للجميع، وسكان القرية، والمدينة هناك مشغولون بأنفسهم، يتناحرون مع بعضهم على رغيف خبز وقطرة ماء؟
ولماذا هم هنا متعاونون فيما بينهم، يعيشون بلا حقد على غيرهم من باقي الأقوام، ويتقاتل أبناء القوم الواحد هناك على تاريخ، يعرفون معاً، أنه غير صحيح؟
يمكن أن تكون الطبيعة التي أحبوها، ويريدون العودة إليها قد شكلتهم أناساً راضين، لا يتدافعون مع غيرهم ولا يغشون، وقد يكون الأجداد، الذين تخلصوا من بطش الملاحقة الدينية للكنيسة الكاثوليكية في القرون الوسطى، قد صنعوا البيئة التي أعطتهم، وحفظت بقاء أحفادهم
حتى القرن الواحد والعشرين، بقاء سيستمر حتى ظهور المسيح المخلص كما يعتقدون.
لقد أعقبت السيجارة التي انتهت، أخرى ثم أخرى، وسعت فتحة الثقوب الموزعة على الذاكرة بغير إنتظام، وبدأ المكبوت ينساب منها كذلك بغير انتظام، عن بغداد التي قذفت به محتاراً في هذه البلاد، وتفاصيل الطعنات التي تلقتها أجساد الخمسة المذبوحين في الصالة بسيف الصديق القديم، وأيام الأسرة الأخيرة في العامرية، وبعض تنبؤات الأم بسوء المصير عندما كانت تكرر مع نفسها عبارة (الله الساتر) في غير موقعها، وعن المجاهدين الموهومين ببناء دولة الاسلام على طريقتهم السلفية.... مأساة، أخذ وقتاً لترتيب بدايتها، وعودة الاسترسال في الكلام بإنتظام، حول والده الدكتور عامر، ذلك الأستاذ الجامعي المعروف بين زملائه والطلاب، رئيس قسم، أو هكذا يقول، ويكرر القول فخراً بمكانته، ودرجته العلمية عند التطرق إلى الموضوع في العشاء الذي يجمع الأسرة على مائدته باستمرار، لكنه فخراً ورضاً عن العيش بدأ يتصدع بالتدريج بداية تسعينات القرن الماضي، وبالتحديد بعد حرب الكويت، وتطبيق الحصار، ليتحول إلى انتقاد مبطن، ومن ثم احتجاج على الوضع العام لإدارة الدولة والمجتمع كذلك مبطن، لا تذكر خلاله الأسماء، إشارات واضحة إلى تجاوزات تحصل عمداً داخل الجامعة التي يدرس فيها وخارجها، وإلى الحط شبه المقصود لكرامة الاستاذ، واستشراء الغش، وعدم كفاية الراتب للعيش، وتنويه إلى اتساع محاولات ترك الخدمة الجامعية من الأساتذة بالجملة، وهروب العسكريين وعلماء التصنيع والوطنيين الذين ينتقدون في السر، وتواري التجار من غير العاملين في سوق السجائر، وتهريب النفط الذي يسيطر عليه عدي صدام حسين، والمتنفذون من عائلة الرئيس، وتنحي سماسرة الليل، وبائعات الهوى في الليل والنهار، وقراء الكف، والمنجمون، إلا من يتنبأ بالنصر المبين.
.......
للراغبين الأطلاع على الجزء السابق:
https://www.algardenia.com/2014-04-04-19-52-20/thaqafawaadab/54974-2022-08-01-13-45-59.html
1392 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع