في كل معرض كان يقدم جرحاً من جراحه الكثيرة
ميدل ايست اونلاين/غريب ملا زلال: وأنا أبحث عن الفنانين التشكيليين في كركوك، إلتقطت عيناي إسم دلير محمد شريف، إسماً ليس غريباً على مسامعي، وحين حاولت ملامسة تجربته وجدت نفسي مبحراً في عوالمه، بين ألوانه وحكاياتها، ووجدت الحماس كله كي أقاربها قراءة، وبدأت بالغوص في أعماقها علني أكشف عن بعض كنوزه، ولكن الأمر الذي أذهلني لا تجربته المتميزة والتي سنقف عندها في قراءتنا هذه.
ولكن الذي أذهلني هو وقوفي على كنوز تشكيلية كركوكية وهذا الكم الهائل من الفنانين التشكيليين والفنانات التشكيليات فيها، فكركوك بحق يحتضن من الينابيع الفنية ما ينعش الروح والقلب معاً، فمن خلال تجوالي بين أعمال دلير، وتصفحي لأحد حساباته في وسائل التواصل الإجتماعي خطفني بوستاً بقلم الفنان التشكيلي حسين كاكائي يسرد فيه أكثر من مئة وأربعين إسماً تشكيلياً من أبناء كركوك، الحالة كانت لي أشبه بمن يبحث عن فلذ من الذهب فيقف على منجم منه، نعم منجماً حقيقياً لا يجف، وسبق ان نهلت منه بعضاً من شذراته على أمل أن نستمر حتى نخرج كل ما يخبئه لنا ذلك المنجم، فسبق ان كتبت عن تجارب لبعض الأسماء، فكتبت عن تجربة كل من مدحت كاكائي، وآميد شريف، وفلاح شوان، وحسين كاكائي، وبرهان صالح، وآري بابان، وآراس طالب، ونورالدين أمين، وصدرالدين أمين، وسعيد إسماعيل، وسامان أبو بكر، وتارا خليل، فاطمة العبيدي، روناك عزيز، هذا ما أسعفتني به الذاكرة الآن.
نعم حاولت أن أبحث عن أسماء أخرى علني أوفق في مقاربتها، أو لعلني سهوت إسماً مهماً وليس من العدل أن أتناساه، هالني هذا الكم، وأسعدني جداً، فكل واحد منهم هو ينبوع عذب، فكم من ينابيع عذبة تنبع من كركوك، وكم النهر الذي يصبون معاً فيه كبيراً وغزيراً، نعم الرقم ليس بسيطاً، وسيكون هناك من سقط إسمه سهواً، الرقم بقدر ما أسعدني أدهشني أيضاً ورفع من جرعة بحثي عنهم والكتابة عن تجارب كل منهم، شكراً صديقي حسين كاكائي على هذا التوثيق، وشكراً الأستاذ دلير محمد شريف الذي كنت سبباً في العثور عليهم، كنت أبحث عن أعمالك علني أوفق في قراءتها ومقاربة تجربتك بما يترتب عليها بحثياً ومعرفياً، وها إني أفعلها هنا في هذه المادة التي بين أيدينا، وتحولت إلى بوابة جميلة عبرها قد أدخل إلى عوالم الفنانين في كركوك واحداً أثر آخر، إذا تكرمت السموات علينا عمراً وبركة.
يزودنا دلير محمد شريف ( كركوك - 1972 ) بتجليات تفيض منها عالماً تبلور فيه الزمان والمكان، وصوراً تشير إلى مكامن الأفعال الإبداعية التي نبحث عنها، ويظهر هذا للخارج كما للداخل كحالة تمثل قيماً فنية تنبثق من إشاراته الداعمة لوجهة نظره بأن الفن لغة الآلهة، وثمرة من روحانياتها يوصل الإنسان إلى المكمن الباطني للحقائق التي تبقى موضوعاً تشغل الإنسان من مولده لمماته.
ويمتلك دلير إلى جانب ذلك تلك الخلفية الإجتماعية والإنسانية التي ستزوده بدورها بمواقف وفضائل نابعة من صميم تجربته الفنية، لا كمرشد لها، بل كإيجاد منابع تلك الحقائق التي ستحدد علاقته مع الآخر/المتلقي، العلاقة التي تكون محجوبة في حالاتها الإعتيادية، العلاقة التي ستدرك لاحقاً كجسر غير مرئي بينه وبحواسه العشرة وبين تلك الحقائق ووقائعها المثالية، مصاغاً بالخصائص الجزئية الموجودة في وعاء عمله الفني، وهذه الصِّلة لا تقلل من قيمة عمله، بل ترفع من رؤيته وقدرتها على توجيه وسائله بوفرتها نحو تمايزها وفرادتها، نحو التوكيد بأن الفنان مهما قارب العام، ومهما أصغى له، فهي إبداعات وإلهامات فردية وهذا ما يوصله أقصد الفنان إلى المكمن الباطني للفن وما يرتكز عليه، لخلق مناخ متوازن ينسجم مع ما يبثه من رسائل، لإيجاد محيط قادر أن يزوده بما يمكن أن نسميها الحقيقة الناقصة والمفقودة في الآن ذاته، أو الوجه الحكمي لها، الوجه الذي ينبع من ذاته، تلك الذات المقدسة في نظرية الخلق، فبقدر ما يهتم الفنان بالحقائق الباطنية بقدر ما كانت لها مرآة خارجية ترى على السطوح، وبفضل تلك الخزائن التي منها يتناول الفنان خمره المعتق ليبدأ في شربها وهو يصاحب ثمار تجربته، كنعمة تفيض منها، كأنغام أبدية بها تنتشي نفس الفنان ومتلقيه معاً في رحلتهما الإبداعية والقرائية الموجزة.
نرى أن الشخصيات التي يشتغل عليها دلير تسمح له بالإنحراف عن المعايير المعتادة، بل يخلق معاييره الخاصة به، فهذا التغيير، وهذا الإجتهاد من صلب العملية الإبداعية التي يجب أن يتحلى بها كل فنان يبحث عن التمايز، فهو يظهر شخصياته برقاب طويلة مثلاً، وهذه من الإشارات التي به يوخز متلقيه ويخبره بهمس بأن إنساننا الكردي، الرجل على نحو خاص، والمرأة على نحو أخص يملكون من الشموخ كشموخ جبالهم التي تحميهم من غدر الزمن ووحوشه، يملكون من الكبرياء التي قد تناطح السحاب، فمهما جارت الظروف عليهم، ومهما خانتهم التاريخ فلا يتميزون، وتبقى نفوسهم عزيزة عليهم، فبهذه الشفاعة المقدسة التي يرتكز عليها دلير وبما تحمله تلك الشخصيات من دلالات إنسانية وجمالية يصوغ طقوسها وما يدخل عليها من عناصر عاطفية.
تمثله وتظهر بشكل مباشر كمشاعر حزن أو ألم أو أمل، وتتجلى كذلك حين يخترق بها وبإنتظام أحلام اليقظة، والليل والنهار وهذا يسمح له بنوع من التمرد على عوامل داخلة في التشكيل ولها صلة خاصة بنفوس شخصياته وبمنابع القوة لديها، والتي تجد إلهامها في إحتياجات تلك النفوس لروح الإرتباط بينها وبين صانعها، وهذا يوصلها بمدد روحي بكل تجلياتها، وفي سياق ذلك يحتفي دلير بتأصيل بعض المواقف وبعض الإمكانيات الفنية في نفوس تلك الشخصيات وهي تبتكر بصمتها في حضور ما هو متعلق بوجودها الجمالي، فدلير يقوم بإحداث الحال وفي موقف من هم أقرب إلى قلب مشهديته التي هي نتاج عوامل إبداعية ولهذا تحتاج إلى التأمل في مجمل مقطوعاتها حتى تصل إلى النشوة المطلوبة، ولكي نصور بشكل أوضح يكفي الإشارة بأن الفن نعمة من السماء رغم أنه من صنع البشر، ومن الحكمة أن يوصلنا ذلك إلى الحياة التي ينشدها الجميع دون ضغائن ودون قلق وخوف.
من الممكن الآن أن ننظر إلى تلك المقاييس التي بها نقيس تجربة دلير، التي قد تختلف جزئياً عن تلك المقاييس التي بها نقيس تجارب الآخرين، فقيمة ولاء عمله وبقيمها المختلفة لا يتعين عليها إلا أن تكون مصباحاً يضيء كل جديد فيها، فهو يبذل جهداً مضاعفاً ليمضي في سرد قائمة مفرداته، ويجد من ذلك أمراً حسناً، فلديه سوية تخييلية مرتفعة من الثقة بالنفس تجعله نشطاً طيلة الوقت، بعيداً عن الإرهاق رغم إنشغاله الدائم في أشياء ما، باحثاً عن مفتاح ما لصنع نوع فعال من أعمال بمهارات حقيقية مقارنة مع الآخرين، بمهارات قابلة أن تحقق ذاتها وما ينبعث منها من لحظات إدراكية بسيطة تحكم بكيفية إستجابتنا لها، وفي الوقت ذاته تتزاحم الأفكار لديه حين يبدأ العمل بطريقته الخاصة، ويستولي عليه قلق من نوع ما يمكن وصفه بالقلق الذي لا بد أن يحضر حين يبدأ المخاض.
أقول يستولي عليه ذلك القلق حين يواجه فضاءاته البيضاء، وتحضر كل مسؤولياته تجاه نتائج ما سيتمخض عنها تلك المواجهة، فكل محركات اللوحة تجره وفق حاجات البحث الفعلية، إضافة إلى كم من الموضوعات التي تقع على عاتقه والتي تضج في داخله تستيقظ على تلك المساحات الممدودة أمام نظراته الغارقة في مسافاتها، ومهما تجنب بدء العمل، لا بد أن يفعلها وحين تشن عليه الصور والأفكار والحكايات وكأن الصندوق الأسود فيه إنفتح على مصاريعها وتبدأ بالتدفق، فلا صعوبات الآن، ولا خوف من النتائج، فالمولود قادم لا محال، ومحاولات الإنطلاق بدأت بحصد الثمار وجمعها، يجد نفسه أمام عمل إستيقظ فيه روحه، وإستيقظت فيه أقصد في الفنان روحه أيضاً، كل منها تتحدث للأخرى عن لحظات حياتها المجنونة.
دلير محمد شريف هو محامي ورجل قانون، من خريجي كلية الحقوق، جامعة صلاح الدين، لكن الألوان والريش سرقته من ذلك العالم ليمضي به إلى عالم آخر، عالم الفن والإبداع والخلق، فقدم الكثير من المعارض الفردية، وشارك في العديد من المعارض الجماعية في معظم مدن كردستان العراق، بدءاً من كركوك ومروراً بأربيل وشقلاوة، والسليمانية، وفي كل معرض كان يقدم جرحاً من جراحه الكثيرة، مبرزاً فيها آلامه وآماله، وبإختلاف الفضاءات فهو في كل مرة يقدم ما يتكامل مع ما سبقه وينفعل فيها ومعها، فهو إزاء رؤى خاصة وتصورات خاصة بعيداً عن المألوف، قريباً من المختلف، وهذا هو الطريق الذي يبحث عنه كل فنان يريد أن تكون له بصمته الخاصة، في ألوانه وأشكاله وآهاته، وفي كل دائرة يعوم فيها.
1384 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع