في أدب الأماكن وسيرة وذكريات محلة بغدادية ذكريات مرابع النشأة الأولى كتاب (ذرات من بيدر العمر: العطيفيـة.. عروس الشطآن)
للكاتبة/ نزيهة ابراهيم شهاب
عرض وتعليق: د. أكرم عبدالرزاق المشهداني
صدر مؤخرا في بغداد كتاب جديد للكاتبة (نزيهة ابراهيم شهاب) بعنوان ((ذرات من بيدر العمر: العطيفية.. عروس الشطآن)) وهو يمكن ان يُعدّ ضمن سياق "أدب الاماكن" وأدب مرابع النشأة الأولى، على غرار "ادب الرحلات" أو "سيرة المدن". وهو سيرة محلة بغدادية حديثة النشاة تأسست في بداية واواسط خمسينات القرن العشرين واغلب ساكنيها من الكرخيين الذين استملكت دورهم في الكرخ اواسط الخمسينات ضمن مشاريع مجلس الإعمار.
وصفت الكاتبة في صدر كتابها العطيفية بأنها "عروس الشُطآن"، حيث كنبت: "العطيفية مسقط الرأس ومهوى القلب والوجدان.. يبقى حبها يسري مع نسغ الحياة بشراييننا وفاءاً لما قدمته لنا من خير سُقيا وانفع زاد٠ تتلمذنا في آفاقها الرحبة وتعايشنا مع اهلها بخالص الود وتعلمنا منهم لغة الوفاء والمحبة ... العطيفية كنت اسكنها وباتت هي من يسكنني"..
وتأبى إلا أن تودع من عايشتهم بمحلتها الاثيرة وغادرونا لدار البقاء فكتبت تقول " سلام لمن ودَّعوا الدنيا وتركوا لنا جميل الاثر وسلام ومحبة لساكنيها وسلاما لأمثالنا الساكنة في قلوبنا ونحن مرغمون على العيش بدونها في منافينا الاختيارية إلى أن يشاء الله بعودتنا."
ومن وصفها الهندسي لمحلة العطيفية: "عروستنا الحلوة التي نعدها من اجمل مناطق الكرخ واكثرها روعة وهدوءً٠ مرتسمها الهندسي يتمثل بمثلث حاد الزوايا ظلعه الاول نهر دجلة وشاطئ الكورنيش والضلع الثاني بستان الحاج طعمه اما ضلعه الثالث فيتمثل بجسر الصرافية الحديدي وامتداد سكة الحديد فيه"٠
وأضفت الكاتبة من ضمن منظورها الشخصي لوصفها حيث ترى العطيفيه بشكل "غادة حسناء مُدلّلة تستلقي على شاطئ نهر دجلة وتغسل كفوف قدميها المحناة بلون الطين الحري الاحمر والمعطر برائحة السِعِد وشذى بخور النذور الطافية فوق كرب النخيل المتجهة صوب مقام خضر الياس في الكرخ، محملة بالامنيات والاحلام.. هذه الحسناء تتكىء بظهرها على أعمدة نخيل بساتين طعمة، وترسل أطراف جدائلها منسدلة على كتفيها٠ تتماهى مع سعف النخيل الباسقة، هفهافة مع الريح، وبيدها اليمنى تحتضن احياء الرحمانيه والجعيفر وتمد يدها اليسرى لتحتضن الشالجية والكاظمية"..
تطرقت الكاتبة لأصل تسمية "العطيفية" نسبة للسيد "عطيفة الحسيني" المتوفى عام 924 هجرية. كذلك يقال انها سمیت بالعطیفیة بسبب الانعطافة الحادة لنھر دجلة عند مروره من خلال ضفافھا٠
ولم يفت الكاتبة ان تتطرق لأبرز معالم العطيفية المهمة واولها (جامع المدلل) الذي شيد وافتتح عام 1958، ثم (كورنيش العطيفية) افتتح 1959، وهو المتميز بالكازينوات فيه بدءاً بكازينو البيروتي الحديثة، ثم كازينو القبطان.. وشاطيء دجلة المار بالعطيفية والمتميز برماله.. كما تحدثت عن (جسر الصرافية) وتاريخه وعن الحادثة الأليمة بقصف الجسر عام 2007 ثم اعادة اعماره.
وعن ساكني العطيفية فقد وصفتهم الكاتبة باجمل وصف في تحليل اجتماعي جميل، اذ قالت: (یتمیز التلاحم الاجتماعي بین مكونات سكان العطیفیة بالتآلف والتآخي واغلب العوائل ترتبط بوشائج النَسَب المشتركة والجیرة السابقة وتعم روح الطیبة والسماحة والمحبة وحسن الجوار بین سكانھا)٠ وفي العطیفیة الأولى بالخصوص تجد أسماء بعض الشوارع دلالة على توحید الأصول والفروع، مثل شارع السوامرة، او شارع الجبور، شارع بیت سلوم، وشارع بیت طعمة وبيت الكرادي وشارع المشاھدة وغیرھا, حیث تتوزع العائلة الواحدة من الأصول إلى الفروع في عدة منازل متجاورة).
كما تطرقت الكاتبة الى ابرز الشخصيات الشهيرة التي سكنت العطيفية فذكرت من المسؤولين الراحلين وزير الدفاع حماد شهاب، ووزير التربية احمد عبدالستار الجواري، ووزير الخارجية طالب شبيب، وعضو القيادة محيي عبدالحسبن مشهدي والقاضي عبدالامير العكيلي والوزير سعدون غيدان.. ووزير الداخلية رشيد مصلح، ووزير الصحة عزة مصطفى وغيرهم، والكتاب طافح بالذكريات والمواقف والمشاهد التي تثير الاهتمام.
ومن الشخوص الاحياء الذين ذكرتهم الكاتبة وأدانت لهم بالفضل في انجاز مادة هذا الكتاب ذكرت كل من الاعلامي المعروف د كاظم المقدادي والاستاذ طه حمودي علوان الجميلي وكاتب هذه المقالة أكرم المشهداني والاستاذ جمال الكبيسي.
كما ذكرت الكاتبة من الراحلين السيد/ مهدي طعمة الخزعلي وهو صاحب البساتين التي كانت اصل العطيفية ومنشاها وذكرت الحاج عبداللطيف المدلل الذي بنى على نفقته جامع المدلل العتيد في قلب محلة العطيفية الاولى، وذكرت شيخ جامع المدلل المرحوم عبدالودود رشيد المشهداني، المرحوم احمد عبدالستار الجواري، الاستاذ عبدالواحد شنون المقدادي، والمرحوم ضابط الشرطة الشاب (عبدالرحمن الشعلان) الذي استشهد بوقت مبكر بعد تخرجه وعددت العديد من شهداء محلة العطيفية من الضباط الذين شيعتهم المدينة تشييعا مهيبا يليق بهم.
أما من شیوخ العشائر التي سكنت العطیفیة فقد ذكرت الكاتبة منھم السادة الأشراف منزل الشیخ محسن النجم الظاھر من شیوخ عشائر المشاھدة الكرام، ومنزل الشیخ عبد المجید الشعلان من شیوخ عشائر آل الشعلان الكرام، ثم منزل الشیخ مھدي الطعمة الخزعلي من شیوخ عشائرالخزاعل الكرام، ثم عدد كبير من شیوخ البو عامر، والجميلات، والدليم، والسوامرة، والكبيسات، والعانيين. وسكنتها مجموعة من العوائل الكردیة والتركمانیة ومجموعة من العوائل الغفیرة من مختلف المحافظات العراقیة العامرة٠
السدة الترابية التي تحولت الى أجمل كورنيش في بغداد:
بما ان العطیفیة ھي الابنة الشرعیة لنھر دجلة الخالد وامھا بغداد العریقة حیث تتمتع تلك الابنة المدللة بشاطئ جمیل له حافات طویلة، تم استغلالھا كشارع جمیل للترویح والنزھة، فقد تم ووفق ھذا المسار انشاء شارع الكورنیش 1959 وافتتحه رئيس الوزراء الزعيم عبدالكريم قاسم، من القرن الماضي وكان في بدایة عھده عبارة عن سدة ترابیة بدائیة اعيد تصميمها وتحويرها لتكون مرفق سياحي يتمتع به سكنة العطيفية والمحلات المجاورة لها للتمتع بمنظره الأخاذ حیث تم إنشاء أرصفة عالیة واعادة تبلیطه بطریقة حدیثة.
وشارع الكورنیش یحتوي جانبه المعمور على قصور فارھة لأغنیاء بغداد وبعض الشخصیات الممیزة في المجتمع البغدادي، ولتلك القصور میزة عمرانیة فریدة حیث انھا تتموضع على شارعین احدھما امامي والثاني خلفي، وبمساحة تزيد على الـ 600 متر مربع، یرتفع الطابق الأول فیھا بطابق عن البناء الخلفي ویحتوي الطابق الأرضي على مداخل للسیارات وحدائق واسعة وما تبقى من البناء فھو عبارة عن غرف متنوعة الاستعمال ومداخل وسلالم تتصل بالطابق العلوي المطل على شارع الكورنیش ومن الشخصیات الممیزة التي سكنت شارع الكورنیش عائلة التاجر المعروف (عیسى ابو الطحین) وعائلة (بیت دراغ ) و(بیت القاضي عبدالامير العكیلي) و(عائلة الظاھر) وعائلة (جرجيس) وعوائل كریمة أخرى٠
ویتذكر سكان العطیفیة أول مرفق سیاحي في بداية الكورنيش ھو(كازینو القبطان) المقام على حافة النھر ویحتوي البناء على مسقف مستطیل الشكل عبارة عن كازینو یحتوي على نوافذ زجاجیة مطلة على نھر دجلة الخلاب ، یرتاد ھذا الكازینو جمع غفیر من الشباب الباحثین عن الھدوء والتمتع بأجواء النھر الشاعریة الساحرة فضلا عن انه اصبح ملاذ للطلبة لاستذكار دروسهم والتحضير للامتحانات٠
وقد ازداد الاھتمام بكورنیش العطیفیة وتم بناء المقاھي والكازینوھات الثابته والعائمة التي تقدم مختلف النشاطات الترفیھیة وربط تلك النشاطات بوسائل النقل النھري٠ویرتاد المتنزھون كورنیش العطیفیة بكثرة حیث لا تخلو اجوائه من وسائل الانس والموسیقى التي تبعث البھجة في النفوس ٠كما كان المقهى مكانا لتقديم السمك البغدادي المسكوف لعشاقه. وعلى مقربة من كازينو القبطان الشهير شيدت كازينو البيروتي التي استعارت اسمها من اسم المقهى الكرخي البغدادي الشهير وصارت معلما سياحيا جديدا.
واشتهر شاطيء دجلة في العطيفية بـ (الجراديغ) الصيفية كل عام، وھي عبارة عن أكواخ مصنوعة من حصران البردي والمسورة بعیدان القصب٠وتقیم تلك الجرادیغ العدید من النوادي لموظفي الدولة مع عوائلھم واصدقائھم لتتمتع ببرودة نسیم النھر وممارسة السباحة في میاه نھردجلة العذبة٠وحق التمتع بجمال النھر وشطآنه حق مشروع مشاع للجمیع والجلوس على مساطب الكورنیش وقضاء أوقات ممتعة ھناك بینما تتجول عربات بیع المشروبات الغازیة وعربات بيع العنبة والبيض المسلوق والفلافل، وعربات بيع الحلویات والفواكه٠
كما تمثل شطآن العطیفیة مكانا ممیزا لممارسة ریاضة السباحة المجانیة حیث یرتادها اغلب الصبیان الفارین من حرارة الصیف اللاھبة والتمتع بفعالیة ریاضة السباحة في میاه دجلة وعبورھم للشط المقابل وبوسائل بدائیة حیث یستعملون كرب النخیل طوافات لتساعدھم على التمتع بالسباحة بكل أمان وحینھا تتعالى أصواتھم المرحة بین سابح ومشجع وبین ھیّاب من دخول الماء، وتردد صدى أصواتھم جوانب النھر بكل عذوبة وجمال٠ ولن ینصرف السباحون إلا بحلول الظلام وعندھا تودع شمس الاصیل الأجواء منسحبة بھدوء وتطبع على خد الأفق قبلتھا الأخیرة بشفاه بھت بھا اللون القرمزي واستحال لصفرة كالحة وھي تقبل قبلتھا الأخیره قبلة مودع علیل آن علیه الرحیل مرغما٠
جسر الصرافیة (الجسر الحدیدي)
یعتبر جسر الصرافیة العلامة الممیزة والفارقة لمنطقة العطیفیة وھو ثالث جسر انشئ في مدینة بغداد بعد جسري الشھداء و الاحرار یبلغ طوله (٢١٦٦) مترا ویعتبر في وقته عام (١٩٥٠) اطول جسر حدیدي في العالم ٠ وھو عبارة عن جسر حدیدي بریطاني قدیم تم تفكیكه وبیعه للعراق ونفذت بناء الجسر ونصبه شركة بریطانیة تدعى شركة (ھولواخوان ) ثم تم نصبه لیكون رابطا بین جانبي نھر دجلة المتمثلة بمنطقتي العیواضیة أو(العلوازیة) ومنطقة العطیفیة التي لم تكن في زمن إنشاء ھذا الجسر قد تحولت الى منطقة سكنیة عامرة مثلما ھي علیه الآن, بل كانت عبارة عن بساتین للنخیل وبعض المزروعات الفصلیة وتحتوي على بعض المساكن البسیطة لفلاحي البساتین٠لكن العلامة الفارقة كان البیت العامر والممیز لرجل معروف یعمل في الصرافة ویعرف (ببیت الصراف) والذي أخذ الجسر منه اسمه (جسر الصرافیة)٠
وعندما تم إنشاء جسر الصرافیة تغیر وجه المنطقة كلیا وانشطرت العطيفية الى محلتين يفصلهما الجسر هما العطيفية الاولى والعطيفية الثانيةو٠یمثل جسر الصرافیة شاھدا على تاریخ العراق السیاسي والاجتماعي فمن خلاله عبرت أجیال وأجتازته قوات عسكریة وعبرته جحافل المتظاھرین الغاضبة او المبتھجة بكافة المناسبات الوطنیة والقومیة المختلفة على مر الحقب والأزمان٠ كما عبرته مواكب أعراس ومواكب عزاء وتشییع للمغادرین للدنیا وكذلك عبرته جموع الزوار المتجهة صوب المراكز الدینیة في مدینة الكاظمیة المقدسة٠
أتمنى أن نقرأ كتبا أكثر تتحدث عن سيرة وذكريات محلات بغدادية، بأنفاس أهلها ومن عايشوها.. شكرا للاستاذة نزيهة ابراهيم شهاب هذا الانجاز الذي ترقبناه طويلا والحمد لله جاء بشكل طيب. محاولة تستحق التقدير.
جسر الصرافية ونهر دجلة وذكريات السباحة تحته
جني الخضروات المنزلية من بستان ال طعمة بالعطيفية
1250 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع