حوار حقيقي ومتخيل مع هوغو حول بيتهوفن وروح الموسيقى (اندبندنت عربية)
الأندبيندت عربية/إبراهيم العريس:منذ البداية لا بد من التأكيد أن الكاتب الفرنسي الكبير فكتور هوغو لم يدل أبداً بالتصريحات الصحافية المنسوبة إليه هنا.
كل ما في الأمر أن واحدة من أفضل المطبوعات الموسيقية الفرنسية وأكثرها جدية وهي "عالم الموسيقى" الصادرة عن صحيفة "لوموند" المعتبرة الأكثر رصانة بين الصحف الأوروبية، دأبت خلال ثمانينيات القرن العشرين على "تخيل" حوارات حول الموسيقى "أجريت" مع مبدعين كبار، فرنسيين وغير فرنسيين، تتناول نظرتهم إلى أساطين الموسيقى. وكما جرت العادة في هذا النوع من "الحوارات" التي لم تجر في الحقيقة كما نشرت، لم تكن أجوبة المبدعين عن أسئلة يطرحها كاتب الموضوع، متخيلة تماماً، بل كانت في حذافيرها مستقاة من مقالات وتصريحات وأقوال أدلى بها المبدع المعني مما يجعل آراءه المنشورة في الموسيقى التي يجري الحديث عنها، صحيحة تماماً وموثقة. ولقد كان الحوار الذي نشرته المجلة متخيلة أنه أجري مع هوغو قبل قرن ونيف على نشره، واحداً من النماذج الأكثر طرافة وقرباً من الواقع، إذ إنه جمع وللمرة الأولى تأملات لصاحب "أحدب نوتردام" و"البؤساء" لا تتعلق ببيتهوفن وحده، بل بكثير من الشؤون المرتبطة بالموسيقى وضروب الإبداع الأوروبية. ولا سيما بالمقارنة بين بيتهوفن كمبدع أوروبي من طراز رفيع، وزملاء له من المبدعين سواء كانت الموسيقى أو لم تكن مجالهم، وسواء كانوا معاصرين لبيتهوفن أو غير معاصرين له.
خلق شموس كثيرة
منذ مفتتح ذلك الحوار إذاً "تنقل" المجلة الموسيقية الفرنسية عن هوغو تأكيده الشاعري أن بيتهوفن إنما هو "إله أعمى عرف كيف يخلق عدداً كبيراً من الشموس". أما دانيال لوفيرس، كاتب المقال الذي نعرف أنه لم يعش على أية حال في زمن هوغو ولا طبعاً في زمن بيتهوفن، فإنه يخبرنا أنه "التقى" الكاتب الكبير حين كان هذا يعيش في منفاه في جزيرة غيرنيسي متمتعاً بالإصغاء إلى موسيقى الكون متأملاً في أحوال العالم. ومن هنا كان السؤال الأول الذي طرح على هوغو يتعلق بما إذا كان قد خطر له يوماً أن يخوض الإبداع الموسيقي. فكان جوابه حاسماً ومفاجئاً إذ قال على الفور "أبداً فالموسيقى فضيلة من فضائل الألمان. فالشعب الألماني المضغوط تاريخياً وجغرافياً والذي يتمتع مفكروه بأرفع درجات الممارسة الفكرية الحرة، يعرف كيف ينشد الحب الغامض. وما إنشاد هذا الحب سوى نوع من أنواع الوصول إلى خلاص الذات. وأنتم تعرفون طبعاً أن ما لا يمكن قوله ولا يمكن السكوت عنه هو وحده ما يمكن التعبير عنه بالموسيقى. ومن هنا تغمر الموسيقى ألمانيا كلها في انتظار حصولها على الحرية. الغناء بالنسبة إلى الألمان نوع من التنفس. إنهم يتنفسون غناءً، ويتآمرون وهم يغنون...". وإذ يقول له محدثه إنه يفهم من كلامه أنه يعتبر ألمانيا أرض الموسيقى يسأله عما إذا كان ذلك يعني أنه يحب كل الموسيقى الألمانية؟ فيأتي جواب هوغو قاطعاً بـ"أن هناك موسيقى ألمانية وموسيقى ألمانية. والعارفون بشؤون الموسيقى لا يخلطون أبداً، على سبيل المثال، بين موسيقى بيتهوفن، هذا الليل المشع ملء العالم والكون، وموسيقى مندلسون التي هي أشبه بضباب يغطي العدم...".
بيتهوفن كبير المبدعين
هنا يسأل الصحافي هوغو عما إذا كان يعتبر بيتهوفن بالتالي الأكبر بين الملحنين، فيأتيه الجواب "بالتأكيد فهو من أسمى المبدعين. إنه الروح الألمانية نفسها". وإذ يدهش هذا الجواب الحماسي الصحافي الذي يستغرب لجوء بيتهوفن إلى تعبير "الروح" يفتح عينيه دهشة وهو يقول "روح؟!" فيقول هوغو على الفور "أجل الروح. إذا كنت تشك بوجود الروح... اسمع موسيقى بيتهوفن. فهذه الموسيقى إنما هي إشعاع روح الأصم، ذلك الكائن الذي حين لا يمكنه أن يصغي إلى الكلام، لا يتوانى عن ابتكار الغناء. وبهذا فإن روحه، وحتى بشكل لا علاقة له بإرادته، تطلع بالموسيقى من العدم. فما همه والحال كذلك أن يكون فاقداً حاسة السمع؟! اللفظ هنا... ودائماً هنا وبيتهوفن يعرف كيف يتغلغل فيه بروحه أكثر مما بأي جهاز مادي في جسده. بروحه يصغي إلى النغم ويجمع السيمفونية بأصواتها غير المحدودة. أتراك لا ترى أن سيمفونيات بيتهوفن ليست سوى أصوات تضاف إلى كينونة الإنسان. أفلا ترى أن هذه الموسيقى ليست سوى ذوبان الروح في ما لا يمكن التعبير عنه بشكل آخر؟ من المؤكد أن بيتهوفن دليل قاطع على وجود الروح. فإذا حدث مرة أن تفجرت لا إمكانية التمازج المطلق بين الروح والجسد، لا شك أنها تتفجر لدى بيتهوفن جامعة شلله المادي بحراك روحه المحلقة...".
وماذا عن موتسارت؟
هنا يلفت نظر الصحافي كون بيتهوفن يفضل سيمفونيات بيتهوفن على أية موسيقى أخرى فيسارع هوغو بالتعليق قائلاً "نعم فسيمفونيات هذا المبدع تعبير عن أعلى مستويات بهاء النغم. ولا يهم بعد ذلك أن تكون هذه السيمفونيات المبهرة، البهية، الحنون والعميقة، إنما تطلع من رأس فقد فيه الأذنان وظيفتهما. في النهاية يخيل إلى أن وراء ذلك كله إلهاً أعمى يمضي وقته في خلق شموس لا تنتهي. فكر هنا بالسيمفونية الخامسة الرائعة. إنها أشبه بواجهة كاتدرائية عائمة عظيمة البناء معلقة في فضاء من ضباب مشع...". وهنا إذ يشعر الصحافي بغتة بأن عليه أن يحد من حماس محدثه يقول له: "يستهويني شغفك ببيتهوفن، ولكن ما رأيك بموسيقي كموتسارت؟". ويخبرنا الصحافي هنا بأن بيتهوفن تردد بعض الشيء قبل أن يجيب "بالتأكيد موتسارت موسيقي جيد لكنه يأتي بعد غلوك... ثمة جو ينتمي إلى زمن لويس السادس عشر في موتسارت، يزيد على اللازم!". وهنا يسأله الصحافي عن رأيه في الموسيقى الإيطالية فيكون رد هوغو "بالتأكيد الموسيقى الإيطالية جيدة... لكن الموسيقى الألمانية تصل إلى السمو. وربما يعود هذا إلى كون الإيطاليين يفكرون باللذة فيما الألمان يفكرون بالحب". فيعلق الصحافي قائلاً إنه فيما سمع دائماً، يعود الفضل إلى الإيطالي باغانيني في اكتشاف هوغو للموسيقى. وهنا يبتسم هوغو برفق مؤكداً "هذا صحيح فباغانيني ومنذ عام 1831 كان هو أول من كشف لي عن جوهر الموسيقى التي لم تكن لديَّ عنها حتى ذلك الحين أكثر من فكرة غامضة. يومها وكان ذلك خلال تمارين على عزف أوبرا (أوريانت)، ما إن لعب باغانيني أول نوطة على كمانه حتى جمد بقية عازفي الفرقة مذهولين وغير قادرين على مجاراته سواء كانوا يعزفون على الكمان أو الفيولونسيل أو النايات أو الآلتو... بالكاد تمكنوا من إطلاق صرخة واحدة: يا للروعة! أما باغانيني فإنه لم يشاركهم حماسهم بل وقف قليلاً ليقول لم يكن هذا هو المطلوب! ثم استأنف معجزاته طوال ساعات من التمرين. وفي تلك اللحظة فهمت أخيراً روح الموسيقى التي لم أكن أعرف عنها شيئاً بعد...".
ماذا عن الموسيقى الفرنسية؟
فهل معنى هذا أن الموسيقى قد بدت منذ ذلك الحين بالنسبة إلى المعلم عالماً يختلف كل الاختلاف عن عالم الأدب؟ "بالتأكيد، قال هوغو، فالموسيقى هي بعد كل شيء فن التموج. وهي بهذا تستجيب لعديد من مطالب طبيعتنا الحقيقية. تستجيب للمشاعر اللانهائية التي تغمرنا. وتبدع إلى الحدود القصوى بعد أن يسكت العقل والمنطق"؟ ولكن ماذا يا مسيو هوغو عن الموسيقى الفرنسية؟ "أطرح عليك هذا السؤال يا أستاذي وأنا أفكر بالعمل الأوبرالي الذي حضرته بنفسك عام 1836 بعنوان (إزميرالدا) وموسقه الفنان لوي بيرتان فيما وزعه أوركسترالياً هكتور برليوز. هل أرضتك تلك التجربة؟". ويخبرنا الصحافي هنا أن هوغو بدا وكأنه يتملص من أي جواب مكتفياً بالقول إن "عملاً واحداً وشديد الخصوصية كهذا لا يمكنه أن يساعدنا على إصدار حكم عام...". وأمام هذه الإجابة فهم الصحافي تماماً "رأي" هوغو في الموسيقى الفرنسية فتوقف عن الإلحاح لمعرفة رأي الموسيقي الكبير فيها.
616 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع