تشيخوف يرسم روائيا دروب انعتاق المجتمع الروسي

الحياة الروسية أواخر القرن الـ19 (موسوعة الفن الروسي)

الاندبيندت عربية:إبراهيم العريس باحث وكاتب

ملخص
كتاب "حياتي" للروسي أنطون تشيخوف لا علاقة له بحياته، لكنه لم يكن رواية بالمعنى الحقيقي للكلمة، إذ لك يكن صاحب "الشقيقات الثلاث" و"طائر النورس"، بخاصة "الخال فانيا"، يبتغي من "حياتي" سوى إيصال أفكاره الاجتماعية والسياسية إلى قرائه بطريقة لطيفة

كانت سنوات صعبة تعيشها روسيا في ذلك الحين، أي خلال السنوات الأخيرة من القرن الـ19. كانت كل الاحتمالات مفتوحة، وكان كل روسي يجد نفسه حائراً ومرتبكاً أمام جملة خيارات سياسية واجتماعية، بل حتى فكرية يجد نفسه يجابهها كدوامة وعصف ريح. وكان المثقفون بخاصة يشعرون أن لكل اختيار صعوباته وعقباته، بل حتى أخطاره. ومن هنا راحت السجالات تتتابع، وراح كل واحد يدلي بدلوه وسط تكاثر للأحزاب وتضارب للأفكار، وما شابه ذلك. حينها، ومن خلال مسرحياته الكبرى التي غالباً ما كانت تقدم من على خشبة مسرح الفن برفقة ستانسلافسكي وغيره من كبار مسرحيي روسيا وفنانيها في شتى المجالات، كان الكاتب أنطون تشيخوف يعد نوعاً من الضمير الروسي الحي، بالتالي كان المطلوب من كل مسرحية من إنتاجه أن تعبر عن ذلك الضمير، وأن تبتكر للروس أفكاراً وحلولاً توفر على صغارهم عبء التفكير العميق في الأجوبة وحول المصائر. كانت التطلعات إليه تتكاثر إلى درجة أن مسرحياته نفسها لم تعد كافية للاستجابة لتلك التطلعات، ومن هنا لم يكن غريباً أن نجده يكثر من كتابات نظرية بات من الصعب تصنيفها. ولعل خير مثال على ذلك كتابه الصادر في عام 1896 بعنوان "حياتي". فللوهلة الأولى وبعد أن تبين أنه ليس في الأمر مسرحية، خيل لكثر، وانطلاقاً من العنوان نفسه، أن الكتاب يتابع حياة ذلك الكاتب الكبير الذي كان حينها في الـ36، ومن المعتقد أنه سيعيش عقوداً أخرى عدة (لكنه طبعاً لن يعيش سوى سنوات قليلة حتى عام 1904)، وسيتبين للقراء، سواء سارعوا لقراءة ذلك الكتاب لدى صدوره أو اشتروه حين وصل إليهم نبأ رحيل صاحبه، أنه لا علاقة له بحياته، لكنه لم يكن رواية بالمعنى الحقيقي للكلمة. هكذا تبين أن صاحب "الشقيقات الثلاث" و"طائر النورس"، بخاصة "الخال فانيا"، لم يكن يبتغي من "حياتي" سوى إيصال أفكاره الاجتماعية والسياسية إلى قرائه بطريقة لطيفة.

ما وراء الحكاية

ومع ذلك، وكما هي الحال في الروايات ثمة في هذا النص التشيخوفي الطويل، شخصيات روائية وأحداث ولقاءات ومواقف، لكنها لا يمكنها في مجموعها أن تكون رواية ضمن إطار بلد كان أدبه ينتج طوال العقود السابقة من ذلك القرن أعظم روايات في العالم، وفي زمن كانت الرواية نفسها تعيش فيه عصرها الذهبي، وليس في روسيا وحدها بالطبع. والحقيقة أنه كان لدى تشيخوف من قوة المخيلة والحس الروائي والقدرة على كتابة الحوارات والسهولة المطلقة في رسم المواقف والصراعات، مما جعله إلى كتابته المسرحيات العظيمة، واحداً من كبار الناثرين بين أبناء جيله. ومع ذلك ها هو ذا تحت عنوان قد يكون اختياره نوعاً من خديعة تجارية، ها هو يقدم نصاً يحمل فيه أفكاره لعدة شخصية تنتمي إلى عالمي الريف والمدينة في الوقت نفسه دون أن يتمكن من تكوين حبكة روائية حقيقية. وبما أن للكاتب، ولا سيما إن كان من طينة تشيخوف ملء الحرية في اختيار أسلوبه، قد يتعين علينا هنا ترك الأمر له وعدم اعتبار ذلك مأخذاً عليه، مكتفين من ناحيتنا بالتعامل مع النص نفسه، وليس فقط لأنه يحمل لغة تشيخوف البديعة وقدرته على رسم شخصياته، بل لأنه يكاد في منطقه الواضح أن يعبر عما كان كاتبنا يفكر فيه في تلك المرحلة من عمره أسوةً بما كان المواطنون الروس الواعون يفعلون. بالتالي ننظر إلى "حياتي" كشهادة متقدمة على نمط التفكير الروسي الأكثر وعياً في تلك الأزمنة العاصفة.

أنطون تشيخوف (1860ـ 1904) (غيتي)

تنويريان بين الفلاحين

وللوصول إلى ذلك يتعين علينا بالطبع أن نعود إلى الكتاب نفسه ليلفت نظرنا فيه قبل أي شيء آخر ما اعتبره واحد من نقاد تلك المرحلة في روسيا نفسها نوعاً من "فضح" تشيخوف كونه خلال تلك المرحلة من حياته لم يعد مهتماً بالكشف عن كونه ينتمي فكرياً إلى سلفيه الكبيرين معاً: دوستويفسكي وتولستوي. فتشيخوف ينكشف في هذا الكتاب جامعاً بين مسيحية الثاني الإنسانية كخطوة على طريق اشتراكية عقلية، وتشنجات القلب الإنساني، كما عبر الأول عنها بوصفها خصوصية روسية لا يمكن تناسيها في أي تحليل للشخصية الروسية، بل للمجتمع الروسي بصورة عامة. ولما كان إيصال مثل هذين البعدين يتطلب بيئة واضحة وشخصيات تتحرك وسط تلك البيئة، ها هو الكاتب يعود بالأمر إلى شخصية المدعو بولوجني الشاب المنتمي إلى النبالة الريفية متسماً بطابعها، بحساسيته المفرطة وضعف شخصيته إضافة إلى طيبته المطلقة، ولكن بولوجني قادر على أية حال على أن يرفض ما اختاره له أبوه من عمل فالأب يريد لابنه أن يكون موظفاً في الدولة، أما هو فقد قرر أن يمتهن تصميم الديكورات. ولقد اعتبر اختياره هذا في وسطه العائلي فضيحة ما بعدها من فضيحة. غير أن الأمور تهدأ بعض الشيء حين يتعرف الشاب على فتاة ثرية وحكيمة وجميلة من سانت بطرسبورغ تغرم به بدورها، فيتزوجها، وقد أحب فيها أيضاً رجاحة عقلها. وينتقلان بالتالي للعيش في عزبة تملكها الفتاة، وتدعي دولجيكوفا. وفي المنطقة التي يعيش فيها الزوجان التقدميان المتحابان ينصرفان من فورهما، بالتالي مع فكرهما النخبوي التنويري، إلى بناء مدرسة حديثة الإدارة والمناهج ليتعلم فيها أبناء فلاحي المنطقة في الوقت نفسه الذي يغوص فيه الزوجان في بعض الأعمال الزراعية، ولكن الفلاحين لا يستسيغون لا عمل الزوجين في الزراعة ولا حماستهما للمدرسة.

بين النخبة والشعب

بالنسبة إلى الفلاحين ليس ذلك كله سوى أمور لا طائل من ورائها. صحيح أنهم أحبوا الزوجين ويحترمونهما، ولكن ليس ثمة مجال للتقارب معهما أكثر من ذلك. وهكذا تدريجياً يحل اليأس مكان كل الآمال التي كانت معقودة، ويتلو اليأس تحول حياة الزوجين وسط الفلاحين إلى حياة مملة تبدأ بالتفريق بينهما... بل إن الزوجة تتخذ ذات لحظة قراراً بالهجرة إلى أميركا، ولو وحدها من دون زوجها، الذي يجد نفسه فجأةً وقد استعاد حرية كان قد بدأ يشعر بالحنين إليها، ولا يكون منه إلا أن يستعيد رغبته القديمة بأن يعمل مهندس ديكور. والحال أن هذه النهاية التي ستلوح على الفور نهاية كئيبة تنم عن يأس ما، كان يعتري تشيخوف إزاء التمكن من إحداث أي تغيير في بلد كان يتطلع طوال حياته لتغييرها، غير أن هذا الاستنتاج لا يمكنه إلا أن يكون ظاهرياً، ينقضه المفعول الذي يمكن أن ينتج، كما رأى كثر من النقاد حين ظهور الكتاب، عن مجموع الحوارات التي أجراها الزوج الشاب على طول مجرى الرواية، ولا سيما مع صديق له طبيب لعله يمثل المؤلف نفسه، الذي كان طبيباً بدوره قبل انصرافه إلى الكتابة المسرحية. ففي نهاية المطاف يمكن القول إن الحلول الحقيقية التي يتطلع تشيخوف إليها، توجد في تلك الحوارات كما في اتباع بولوجني اختياره الأول بأن يكون مهندس ديكور. إذ هنا، وكما يقول له الطبيب ذات لحظة، يكمن الإيمان الحقيقي بمستقبل الشعب الروسي. الإيمان الذي سيهيمن على العقول ما إن يختفي الجهل المعمم وغياب الوعي لدى هذا الشعب. فعندما يختفي هذا الجهل، سيكون لكل واحد أن يعمل بحسب إمكاناته، ومن ثم سيكون لكل عمل مهما صغر شأنه قيمته ومكافأته.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

865 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع