ذاكرة /جسر على نهر العشار، تعددت التسميات والجسر واحد !
جسر وايتلي او الأميرغازي او جسر الهنود .. ثلاثة اسماء لواحد من اهم جسور البصرة حيوية ، فقد كان يفضي بالعابرين من الجهة الجنوبية لنهر العشار الى الشمالية منه حيث السوق الذي بسوق المغايز او الصيادلة لكثرة مخازنه التجارية التي كانت تعرض شتى اصناف السلع ، او سوق الهنود لارتباطه بالوجود الهندي العسكري والتجاري قبل وبعد الحرب العالمية الاولى .
كان نهر العشار واحدا من ثلاثة او اربعة انهارعدّت ، بمثابة الشرايين الرئيسة للشبكة المائية التي تغطي مساحات واسعة من مركز المدينة عبر إسهاماتها في ري بساتين النخيل وما تنتجه من خضروات وانواع الفاكهة . كما كان وسيلة من وسائل المواصلات سواء كان عن طريق نقل السلع التجارية من والى سيف البصرة القديمة ام وسيلة من وسائل النقل النهري لأهالي المدينة في بدايات القرن العشرين .
وعلى امتداد تاريخه عرف نهر العشار بصفاء مائه مثلما عرف بجسوره المقامة عليه منذ ابتداء رحلته وحتى نهايتها غربي المدينة . لكن جسر المغايز كان وما زال قنطرته الذهبية التي تفضي بالاقدام المرهقة الى قلب سوق المغايز التجاري حيث المقاهي والمخازن والبسطات وحيت تطوف روائح البهارات والبخور واصناف التوابل التي غالبا ما كانت المراكب العملاقة تستوردها ترسو في ( الداكير ) قبل ان تطلق صفارات الرحيل الى موانئ الدنيا !
بحثا عن موطئ قدم
في اواخر العهد العثماني ، انتعشت الحياة التجارية في منطقة العشار شمالي النهر ، ففي الوقت الذي كانت البواخر الراسية تفرغ حمولاتها من موانئ الهند وشرقي آسيا والقرن الافريقي ؛ كانت اعداد من المسافرين الهنود يغادرونها الى خانات المدينة ابتغاء للرزق او لزيارة الأماكن المقدسة . وما ان أوشك القرن التاسع عشر على الانتهاء حتى وجدت الدولة العثمانية نفسها أمام أكثر من تحد تمثل بمقدم البرتغاليين تلاهم الهولنديون الذين تمكن البريطانيون من ازاحتهم عن طريق اقناع العثمانيين بان القائم بالاعمال الهولندي كان ذا صلة شائنة بإحدى البغايا ! لقد تمثلت القوة المنافسة الأكثر حماسا وتسابقا على النفوذين التجاري والسياسي في بريطانيا الدولة البحرية التي كانت لها السيادة المطلقة على اعالي البحار منذ انتصارها الحاسم على اسبانيا . بريطانيا ، ومنذ عهد ليس بالقريب ، كانت تبحث بضراوة عن موطئ قدم في بلاد ما بين النهرين انطلاقا من البصرة ميناء الخليج المزدهر حينذاك . وقد نجحت بالفعل في التسلسل الى السوق العراقية عبر شركات مثل شركة ( لنج و كري مكنزي وستريك واندرويت) وغيرهما وراحت بواخرها التجارية العملاقة تمخر عباب شط العرب ودجلة . وعلى الرغم من ان وجودها كان في البداية (دون مستوى الطموح ) ، الا ان احتلالها للبصرة عام 1914 كان بمثابة الفرصة الذهبية كيما تهيمن على بلاد ما بين النهرين وعلى البصرة بالذات لأهميتها التجارية واللوجستية بحكم كونها همزة الوصل بين الهند شرقا وأوربا غربا . يقول سليمان فيضي في كتابه ( البصرة العظمى ) : " في زمن هدايت باشا تم انشاء جسر العشار وذلك في عام 1884 كما انشئت قشلة العشار العسكرية في زمن مخلص باشا عام 1901 " .
قشلة العشار
لم يكن نهر العشار ذا اهمية في بدايات الحكم العثماني للبلاد فقد كان اعتماد اهل المدينة في التنقل على المواصلات النهرية من ابلام وزوارق ومهيلات . ولكن مع ارتفاع وتيرة التنافس الدولي على البصرة وازدهار حركة التجارة من وإلى ميناء البصرة انشيء جسر من الخشب على النهر ليستبدل ابان فترة الاحتلال البريطاني بجسر أكثر متانة أطلقت عليه تسمية ( جسر وايتلي Whiteley Bridge ) نسبة الى المهندس البريطاني C.B Whiteley الذي كان يحمل رتبة عقيد من اسرة عرفت باقامة الجسور في يوركشايٍر بانكلترا .
اذن فقشلة العشار كانت مبنى حكومة الدولة العثمانية في ولاية البصرة في منطقة العشار ويوجد فيها مبنى ساعة القشلة، وتسمى السراي أي مقر الحكومة في البصرة وهي مقر والي البصرة العثماني، حيث ان مدينة البصرة دخلت في حكم الدولة العثمانية في عام 1546م، وظلت حتى احتلتها القوات البريطانية في عام 1914م، أثناء الحرب العالمية الأولى، وفي عهد الدولة العثمانية كانت قشلة البصرة تعتبر القاعدة البحرية الثانية بعد منطقة السويس في مصر التي استخدمت لمواجهة سفن المستعمرين في الخليج.
وكلمة القشلة مشتقة من اللغة التركية وتعني المكان الذي يمكث فيه الجنود بالشتاء، وهي قد تعني المشتى أي المكان الذي يقي الإنسان من تقلّبات الجوّ، ثم خصّصت لإقامة الجنود وقت السلم، أي ما معناه الثكنة العسكرية أو المعسكر كما يطلق عليه الآن.وهذه الثكنة احتضنت في داخلها آنذاك الجنود والإداريين والمسؤولين عنهم ومخازنهم ومستودعاتهم، حيث كان المبنى عبارة عن دائرة مدنية وعسكرية في الدولة العثمانية.
كانت أعين البريطانيين ( الوافدين الجدد ) على منطقة الخليج وقتذاك منصبة على هذه الثكنة لأهميتها القصوى على الصعيدين العسكري والتجاري . يلاحظ العلم البريطاني على المبنى المقابل للقلعة ما عكس تعطش الانكليز لايجاد موطئ قدم لهم . ومع الايام جرى ازالة القشلة لتحل محلها علاوي الخضروات واسواق الجملة والمفرد بهيئتها الحالية .
مع نشوء الدولة العراقية وفي اواخر العشرينات تغيّر اسم الجسر الى تسمية ( جسر الأمير غازي ) ولغاية تحوله الى جسر من الطابوق ايام الاربعينات من القرن الماضي . ولكن تسمية ( جسر الهنود ) او جسر المغايز اكتسحت التسميتين الأوليين على الصعيد الشعبي وذلك بسبب التواجد الهندي الكثيف للهنود الذين قدموا للبصرة غزاة وتجارا ، كما سبق وأن ذكرنا .اما في السنوات الأخيرة ،وضمن حملات الأعمار السريعة فقد شيد الجسر من الحديد .
تومان عازف الناي
ارتبط جسر المغايز بذاكرة ابناء المدينة لاسيما كبار السن منهم بما كان يكتنفه من شواخص تقف ساعة سورين في مقدمتها . يقول الكاتب احسان وفيق السامرائي في كتابه التوثيقي ( عبير التوابل والموانئ البعيدة ): " لقد بقي سوق الهنود وجسر سوق الهنود مثل باقة نرجس تفوح لما يقرب من قرن من الزمان وظلت ساعة سورين شاهدا وعلامة للبصرة فكانت دقاتها تسمع لمسافات بعيدة " .
وفي الخمسينات والستينات كان الجسر خشبة مسرح تمارس عليها شخصيات المدينة أدوارا شتى فكان هنالك الشحاذ والبائع المتجول ، مثلما كان هناك اللوحات الاعلانية الدعائية للأفلام السينمائية التي كانت تعرضها دور السينما يتصدرهم تومان وهو يرغِّب المارة بجودة الافلام بجمل مفخمة او عن طريق نايه ( ماصوله ) الشهير حتى اذا ما اراد ان يمارس نزوة بريئة أوهمَ سربا من الفتيات بأنه قافز عليه ليتشظى السرب هنا وهناك بين موجات من الضحك والارتعاب ! وما هي لحظات حتى يبصر الجمهور العابر صبية على سياج الجسر يتهيأون للقفز الى النهر الذي اشتهر بنقاوة مياهه ونظافة سطحه . وفي الركن من الجسر وعلى مبعدة امتار يمكن للمار ان يقتني او يستعير مجلة او جريدة من بائع الجرائد قبل ان يتوجه الى بائع الشربت الشهير كيما يطفئ ظمآه !
جسر وايتلي او الامير غازي او الهنود جزء لا يتجزأ من تاريخ مدينة تحدت العقبات والمحن والتي قال عنها الرحالة غورينو1661 :
" البصرة سوق من أعظم الأسواق التجارية " !
=========
صور وتعليقات لصفحات ذاكرة
--------------
صورة (1) قلعة العشار : أو قشلة العشار وكانت مبنى حكومة الدولة العثمانية في ولاية البصرة في منطقة العشار ويوجد فيها مبنى ساعة القشلة، وتسمى السراي أي مقر الحكومة في البصرة وهي مقر والي البصرة العثماني، حيث ان مدينة البصرة دخلت في حكم الدولة العثمانية في عام 1546م، وظلت حتى احتلتها القوات البريطانية في عام 1914م، أثناء الحرب العالمية الأولى، وفي عهد الدولة العثمانية كانت قشلة البصرة تعتبر القاعدة البحرية الثانية بعد منطقة السويس في مصر التي استخدمت لمواجهة سفن المستعمرين في الخليج.
وكلمة القشلة هي كلمة من اللغة التركية تعني المكان الذي يمكث فيه الجنود بالشتاء، وهي قد تعني المشتى أي المكان الذي يقي الإنسان من تقلّبات الجوّ، ثم خصّصت لاقامة الجنود وقت السلم، أي ما معناه الثكنة العسكرية أو المعسكر كما يطلق عليه الآن.
صورة رقم2 : يعود تاريخ الصورة الى عام 1915 في اثر هزيمة القوات العثمانية في معركة الشعيبة حيث جئ بالأسرى العثمانية توطئة لايداعهم في سجون قشلة العشار .
صورة رقم 3: عسكري بريطاني برفقة شخص عربي غير متضح الهوية قد يبدو زعيما لقبيلة محلية .ومن الواضح عبر الصورة ان المارة كانوا من أهل المدينة البسطاء ممن كان اغلبهم يرتدي الملابس العربية .
صورة رقم 4 :منظر جانبي لجسر وايتلي الخشبي ما بين عامي 1918 ــ 1925من شركة Tuck الانكليزية وعدسة المصور البصري المسيحي عبد الكريم تبوني الذي درس علم التصوير في الهند وأصبح معتمدا لدى شركة حسو اخوان للتصويرالمتعاونة مع شركة تك .
صورة رقم 5 : اعتاد البريطانيون نساء ورجالا التنزه في نهر العشار والصورة لمشهد لهم قبالة احد المقاهي المطلة على النهر .
صورة رقم 6 : لسيارة عسكرية قادمة من قشلة او ثكنة العشار ايام كان الجسر من خشب . غير ان الجسر لم يعد متاحا لعبور السيارات في سنواته اللاحقة .
صورة رقم 7 : الجسر بعد استحداث (تمديدة ) جنوبا لكي تعمل كمرسى او مسناة للزوارق والابلام والمهيلات المنطلقة باتجاه شتى بقاع المدينة . تاريخ الصورة بين عامي 1918 ــ 1925 على وجه التقريب . لاحظ الرجل الذي يرتدي السدارة والتي اعتاد الملك فيصل الاول ارتداءها ما يعكس تنامي طبقة ( الأفندية ) مع الظهور الأول للدولة العراقية .
صورة رقم 8 : نهر العشار في اوج ايام النقل النهري . لاحظ النسق الجميل لاصطفاف الابلام . كما يمكن مشاهدة جسر المغايز يتصدره برج ساعة سورين شمالا .
صورة رقم 9 : صورة ملتقطة للجسر من شارع الساحل الجنوبي . الجسر مشاد من الطابوق . وتشاهد بناية البنك العربي شمالا وخلفها زقاق الطاق المؤدي الى قلب حي البجاري العتيد .
صورة رقم 10 : مشهد لنهر العشار يرجع تاريخه الى ايام العشرينات والمكان ضفة النهر الشمالية مقابل البريد القديم .
صورة رقم 11 : مشهد خمسيني من جهة مصرف الرافدين لنهر العشار حيت يبدو واضحا برج ساعة سورين والجزء الاوسط لسقيفة التجار التي تنتهي عند جسر المقام اول جسور نهر العشار .
صورة 12 : شارع الساحل بمحاذاة جسر وايتلي حيث يشاهد احد العاملين الهنود ممن قدموا مع الجيش البريطاني ومجموعة من المواطنين ممن ظلوا ، رغم الاحتلال البريطاني يرتدون الطربوش العثماني .
صورة رقم 13 : يمينا بداية شارع الساحل الذي يضم عمارة النقيب ومعرض حافظ القاضي للسيارات الأمريكية وسينما شط العرب ومبنى البريد القديم .
صورة رقم 14 : نزهات بالبلم العشاري الزورق الذي يشكل بصمة
للبصرة التي كثيرا ما أطلقت عليها تسمية بندقية الشرق .
صورة رقم 15 : جسر المقام او أول الجسور المشادة على نهر العشار جنبا الى جنب وايتلي والمتصرفية اوجسر المحافظة حديثا وسر النور وجسر الجزائر وجسر المحكمة القديمة وجسر الغربان في البصرة القديمة عدا جسور اخرى صغيرة . ويبدو ان هذا الجسر اعتمده العثمانيون للذهاب الى منطقة الداكير القريبة من نهر شط العرب والى ثكنتهم السماة بالقشلة .
308 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع