السلاح النووي ... حلال على كوريا الشمالية وحرام على إيران الإسلامية

د. صبحي ناظم توفيق
خبير ستراتيجي وعسكري.. دكتوراه في التأريخ

19/8/2025

السلاح النووي... حلال على كوريا الشمالية وحرام على إيران الإسلامية

خريطة منشآت إيران النووية

"جونك-جين" مكان التجربة النووية الأولى لكوريا الشمالية سنة 2006
الولايات المتحدة الأمريكية وضليعتها "إسرائيل" في قلب الشرق الأوسط ومعظم حليفاتها في العالم الغربي غَضّت الطَرف عن جمهورية كوريا الشمالية حتى أتمّت مسيرتها النووية للأغراض العسكرية سنة 2006 وأضحت صاحبة 50 قنبلة تحملها صواريخ بالستية ذات مدى أقصاه 4.500 كلم، وقد تقفز لتغدو عابرة للقارات ذات مديات 8.000 - 11.500 كلم التي تحاول تحقيقها في قادم الأعوام.
فيما أقامت "واشنطن" ذاتها وإلى جانبها معظم عواصم الغرب الدنيا وأقعدتها أزاء جمهورية إيران الإسلامية لَـمّا إستشعرت بنشاطاتها النووية ومفاعلاتها المدنية التي لم تَرْقَ إلى المستويات العسكرية حسب المُعلَن، ووقفت بالضِد منها سياسياً ودبلوماسياً وإقتصادياً، بل حشّدت قوات جوية وبحرية وبرية لإيقافها وضربت مفاعلاتها وقدراتها بقاصفات شبحية عملاقة، وأمست تطالبها بتصفير قدراتها ومنع أي نشاط نووي في بقاعها... وما زال الحبل على الجرار نحو المجهول خلال أسابيع محدودة إذا لم تنفّذ "طهران" شروط واشنطن وتل آبيب"، إلى جانب "ترويكا" الآوروبية.
فما الذي جعلت أمريكا وحليفاتها أن تتخذ هكذا مواقف ستراتيجية حيال جمهورية إيران الإسلامية على عكس خطواتها أزاء "بيونغ يانغ"؟؟؟
هذا ما سنحاول إيجازه على شكل نقاط بهذه المقالة المختصرة:-
أولاً. الحدود البرية لكوريا الشمالية التي إستقرّت يوم وضعت حرب كوريا الضروس سنة 1953 أوزارها، فإنحسرت أرضها ضمن مساحة ضئيلة لا تزيد عن 120.000 كلم مربع في أقصى أقاصي شرق القارة الآسيوية وحدود تبلغ 1.400 كلم مع حليفتها المضمونة الممثلة بجمهورية الصين الشعبية منذ 1950، وحدود أخرى ضئيلة بواقع 19 كلم فقط مع روسيا الإتحادية... في حين تُعَدّ "إيران" دولة كبرى بمستوى الشرق الأوسط بل وفي العالم كلّه، وهي ذات مساحة شاسعة واقعها "مليون و650" كلم مربع، تمتليء باطنها بحاراً من النفط والغاز والمعادن الثمينة والنادرة وكذلك اليورانيوم.. وتتمتع بسواحل يبلغ مجموعها 5.800 كلم، يطلّ2.000 منها كلم على كل مياه الخليج العربي، مضيق هرمز، خليج عُمان، بحر العرب، إضافة لإطلالتها على المحيط الهندي... وهي ذات حدود برية مع 7 أقطار، أصغرها دولتا "آذربيجان وأرمينيا"، والخَمس الأُخرَيات "باكستان، آفغانستان، تُركمانستان، تركيا، العراق".. تُضاف إليها إطلالتها على الجزء الجنوبي من بحر قزوين المُتَقاسَم سواحله مع "تركمانستان، قازاخستان، روسيا الإتحادية، آذربيجان".. ناهيك عن تقابلها عبر مياه الخليج العربي مع "الكويت، السعودية، البحرين، قَطَر"، وعبر خليج عُمان مع "الإمارات العربية وسلطنة عُمان"... إذن فـ"إيران" دولةٌ كبرى ذات إمكانات وقدرات ومخزونات وموارد هائلة لا تُقارَن مع ضآلة كوريا الشمالية في كل شيء.
ثانياً. إيران ليست مجرد دولة ذات حضارات تعود إلى ما قبل التأريخ وإمبراطوريات عظيمة تتابعت على أرضها التي لم تنقطع سلسلتها طوال قرون متتالية، بل هي في مصاف الدول ذات الثراء والنفوذ والقدرات الهائلة على مستوى العالم، لما تتوفر لديها من موارد طبيعية وأنهار وأراضٍ زراعية شاسعة ومنتجات وصناعات متقدمة تحقق لها تجارة مع عشرات الدول القريبة والبعيدة في العالم... وذلك على عكس حال "كوريا الشمالية" التي تقتات على الإمكانات الذاتية والمساعدات الصينية والروسية.
ثالثاً. كوريا الشمالية دولة منطوية على ذاتها وشبه مقطوعة عن العالم، لا عداءَ ظاهر لها سوى مع "كوريا الجنوبية" المتاخمة بشكل خاص، وتجاه "اليابان" على مسافة 1.300 كلم عبر مياه بحر اليابان.... وذلك على عكس "إيران" ذات الخلافات المتنوعة والأطماع والطموحات الظاهرة والباطنة، وهي ليست على وئام تام مع كل من باكستان، آفغانستان، آذربيجان، تركيا، العراق، الكويت، السعودية، البحرين، قَطَر، دولة الإمارات المتحدة.. هذه الدول التي تعتبرها الولايات المتحدة الأمريكية جزءاً خطيراً من أمنها القومي منذ عام 1979 حين أعلن الرئيس "جيمي كارتر" ذلك وفقاً للمبدأ الذي سُمِّيَ بإسمه، وهو ساري المفعول لغاية يومنا الراهن كائناً من يكون الحزب الحاكم في "واشنطن" وشخص الرئيس الجالس في البيت الأبيض، ويبدو أن هذا المبدأ سيظلّ سارياً في المستقبل المنظور طالما تصر على أن يظل القرن 21 قرناً تطمح فيه التحكّم في أمور العالم.
رابعاً. "إيران" أعلنت بُعَيدَ إعلان جمهوريتها الإسلامية (1979) دستورها الثوري- العقائدي الجديد والقاضي على وجوب نشر ثورتها الدينية (المذهبية) في عموم العالم، ما يشير أن لا حدود جغرافية تفصلها مع جميع دول الجوار والأبعد منها، ويعني كذلك إلى عدم إعترافها بالمواثيق والإتفاقيات الدولية ما دامت تتعاكس مع عقيدتها... فيما لا طموح ولا أطماع لدى "كوريا الشمالية" في أية بقعة عبر حدودها، عدا حلم توحيد "كوريا الجنوبية" معها بغية إعادة إنشاء "جمهورية كوريا الكبرى"... ولكن هذا الحلم لم ولا ولن يتحقق بالمستقبل القريب والمنظور، كون حلف جنوب شرقي آسيا (سيتو SEATO) المنبثق منذ عام 1954 بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية لمنع إنتشار الشيوعية في عموم الشرق الأقصى ما زال يحتضن كوريا الجنوبية واليابان بكل الوسائل.
خامساً. يعتنق النظام السياسي الإيراني عقيدة دينية تؤمن بضرورة تربّع أتباع مذهب ديني محدد على قادة سلطات الدولة الأربع، والذين يتوجب عليهم نشر هذا المذهب تحت شعار الدين الإسلامي في عموم المنطقة وكل العالم بإستثمار القوة المسلحة تحت مسمّى الجهاد... ولتحقيق ذلك فقد شكّلت جماعات تابعة لها ومؤمنة بتوجّهاتها ومؤتمرة بأوامرها، ودعمتها بالمال الهائل والسلاح الثقيل والتدريب والمشورة والإشراف، ونشرتها في أقطار مجاورة لها كأسبقية أولى قبل أن تُعَبِّرَها نحو الأبعد فالأبعد، فيما إستثمرت هذه الفصائل السلاح والمال لفرض غايات النظام الإيراني وأهدافه وسيطرت على القرار السياسي لتلك الدول، بل على إقتصادها وقواتها المسلحة وثقافتها المجتمعية..... بينما نرى "كوريا الشمالية" دولة منكفئة داخل حدودها ولم تَخْطُ أي أسلوب مشابه لإيران، وحتى تجاه عدوّها المُمَثَّل بـ"كوريا الجنوبية" ومن دون أن تستهدف الدول الأبعد، رغم كون العقيدة الشيوعية التي تتبعها "بيونغ يانغ" تؤمن من حيث الأساس بتصدير الثورة الإشتراكية لعموم العالم لمناهضة الرأسمالية، وتبدو أنها آمَنَت بأن هذا النهج الثوري "اللينيني- الماركسي- الماوتسي تونغي" قد أكل الدهر عليه وشرب وأمسى من الماضي منذ الثمانينيات من القرن العشرين، رغم عدم إنقضاء أكثر من قرن واحد ونيّف من السنوات على تطبيقه للمرة الأولى بدءاً من الثورة البولشفية (1917).
سادساً. منذ نجاح الثورة الإسلامية الإيرانية (1979) أصبح مرشدها الأعلى بشخصه وفقاً للدستور بمثابة دكتاتور شمولي يأتمر كل رؤساء سلطات الدولة بأوامره وتوجيهاته وفتاواه من دون مناقشة أو إعتراض أو رأي مخالف، وله الكلمة الأخيرة بشأن جميع نهوج الدولة وقراراتها المصيرية السياسية والإقتصادية والعسكرية والأمنية والثقافية والإجتماعية، في وقت يعلن بكل صراحة ضرورة القضاء المُبرَم على الكيان الصهيوني وإزالته من الوجود كونُه محتلاً لأرض فلسطين، متناسياً أن 165 دولة من مجموع 193 دولة منضمّة للجمعية العامة للأمم المتحدة قد إعترفت بـ"إسرائيل" رسمياً بمثابة عضو في هذه المنظمة العالمية، وكوّنت معها علاقات دبلوماسية وأخرى متنوعة... أما "كوريا الشمالية" ورغم كونها تحت حكم دكتاتوري مناهض للولايات المتحدة والغرب فإن مسيرتها طيلة 72 سنة مضت، فإنها لم تسجّل تصرفاً عدائياً خطيراً وشبيهاً لما سارت عليه جمهورية إيران الإسلامية.
سابعاً. يصرخ القادة الإيرانيون الأعلَون في عشرات المناسبات أن بإمكانهم مسح الكيان الصهيوني من الوجود خلال ساعات، والبعض منهم خفّض المدة إلى عدة دقائق... ما يعني أنهم لو إمتلكوا قنابل نووية فإن المرشد الأعلى قد يتخذ قراراً ثورياً ويوعز بقذفها على "إسرائيل" ذات المساحة الجغرافية الضئيلة والكثافة السكانية الخطيرة، ولربما يأمر بتوجيهها نحو إلى دول أبعد تشتمل دولاً آوروبية أعضاء لدى حلف شمالي الأطلسي (NATO)... وإذا إمتلكت قدرات صاروخية بالستية أو فرط صوتية ذات مديات عابرة للقارات، فقد تستهدف الولايات المتحدة الأمريكية في عقر ولاياتها... وبذلك إستجلبت إيران عداء معظم دول العالم الغربي، فيما إنشغل بال روسيا الإتحادية إلى جانب قادة الدول الآسيوية المتاخمة في حدودها مع إيران إذا وقعت مشاكل كبيرة بين الطرفين.. في حين برهنت كوريا الشمالية -التي تمتلك في عاصمتها 32 بعثة دبلوماسية للدول التي تعترف بها- أن سلاحها النووي ليس سوى لأغراض الردع وليس الإستخدام الفعلي، ولم يهدد به جهاراً.
ثامناً. جميع الدول العظمى التي تتصدر إمتلاك الأسلحة الذرية تخشى أن ينبثق في أوساط دول الشرق الأوسط -ذات العلاقات البَينِية غير المستقرة في ما بينها طوال قرون التأريخ- سباق تسلّح نووي حميم حالما تمتلكه إيران، وبذلك يسير العالم كلّه إلى أخطار غير مسبوقة... لذا فإن تلك الدول مجتمعة تبذل قصارى جهودها للحيلولة دون أن تستحصل طهران على أي سلاح نووي حتى لو كان تكتيكياً، بينما لم تَقدِم أية دولة في الشرق الأقصى على منافسة كوريا الشمالية في هذا الشأن بعد إعلانها الرسمي إمتلاك هذا السلاح يوم 6/1/2007 لأسباب عديدة يطول تفصيلها.
تاسعاً. ينبغي أن لا ننسى تمتّع كوريا الشمالية بإتفاقيات ومعاهدات وتحالفات ستراتيجية رصينة مع كل من الصين الشعبية وروسيا الإتحادية، وهاتان الدولتان العُظمَيان ظهيران موثوقان تحميانها من أي عدوان أمريكي أو ياباني أو كوري جنوبي... وهذا على عكس جمهورية إيران الإسلامية التي تعتمد على قدراتها وإمكاناتها الذاتية في التصدي نحو الولايات المتحدة الأمريكية وعموم دول الغرب المقتدرة التي تقف ظهيراً لإسرائيل بلا حدود، ولا تنتظر موقفاً ستراتيجياً إيجابياً من لدن موسكو وبكين وتدخلاً ميدانياً منهما لدعمها إذا ما تعرّضت لأعظم الأخطار من أعدائها الكبار وخصومها.
خلاصة الحديث أن لا وجه مقارنة بين إمكانات جمهورية إيران الإسلامية الكبرى مع جمهورية كوريا الشمالية الشعبية المتواضعة وقدراتهما وطموحاتهما وأطماعهما... ولذلك لا نستغرب مواقف الولايات المتحدة ودولتا الغرب العظمى ودول العالم الكبرى إلى جانب الدولتين الشرقيتين العُظمَيين من غضّ الطَرف عن السلاح النووي الكوري الشمالي، مقابل الوقوف بالضد من السلاح النووي الإيراني المُزمَع.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الساعة حسب توقيت مدينة بغداد

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1251 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع