في ضيافة نوبل
بانت تباشير الصيف سويدياً، صار الهواء منعشاً، مغرياً لتفقد الذكريات وتبادل الزيارات، وزادت الخضرة عن حدود ضلالها التقليدية، وتفتحت أزهار الحقول الوارفة بكثرة، حتى راح الشباب يزيحون عن أجسادهم ثقل ملابس الشتاء الداكنة، كي يعطوا لأنفسهم والمارة نفح البهجة والمسرة، وراح كبار السن السائرون والجالسون على الأرائك يردون الجميل ابتسامة تشجيع، وعودة بالذكرى لأيام ساروا بها على النهج، وذات الطريق، يوم كانوا يمتعون أنفسهم بأشعة شمس خجلة تظهر من بين غيوم مسرعة، وقد خلعوا نصف ملابسهم مستبشرين بصيف ندي، لم يعتب أحد منهم وإن خانه البصر على ابنة الثامنة عشر في استقبالها الشمس بخصر أخرجته من مكمن الشتاء، وذراع شذ عن باقي الجسد، ولا عن زميلها حافي القدمين مفتول العضل، هم جميعاً يؤمنون بالحرية، يقدسونها، يستثمرون الصيف طاقة مرح تكفيهم مداد سنة.
كان اليوم الذي حدده فؤاد لهذه الزيارة، قد بدأ جولة في ربوع أوربرو، المدينة السويدية الوسط في المملكة، تميزها قلعة بنيت في القرن الثاني عشر الميلادي، واستمرت شامخة كأنها النخلة، مر قريب منها شخص بملامح عربية، والى جواره أفريقي بشعره المجعد، وصومالية تسير بجلبابها الفضفاض، وسطهما شابة غطى القسم العلوي من سيقانها شورت، وغطى نصف جسدها الأعلى قميص مخملي، وأخرى ارتدت ملابس العمل الفسفورية، وخوذة تتدلى من أسفلها خصل شعر أزرق، كأنها تمردت على إجراءات المكوث تحت الخوذة، كانت مستعجلة لإنجاز مهمة، سبقها شيخ يحث الخطى الى الجامع القريب التزاماً بصلاة الظهر، علق فؤاد المنتمي الى حضارتها من عشر سنين مضتْ، هكذا هي المدينة بتركيبتها القائمة، ستة عشر بالمائة من سكانها ذوي أصول أجنبية، وعن إحصاء للبلدية قال:
لقد أشار الإحصاء الى رجوع سكان هذه المدينة لأصول تعود الى مائة وخمسين جنسية، يعبدون أكثر من اله، وبعضهم لا يعبد، ومع هذا لا يختلفون في النقاش عن موضوع العبادة، بل يتجنبونه احتراماً لخصوصية المعتقد، نجح بعضهم في سياقات التطبع على حياة السويد الاجتماعية وصار لا يناقش في المعتقد، وبعضهم لم ينجح، ومن جانبها الحكومة هنا، لا تعوّل عليهم آباءً لم ينجحوا، ولا على من يغرد منهم خارج السرب الناجح، هدفها الأبناء، أمل المستقبل، وتعويض النقص الحاصل في أعداد السكان، وقد حققت نجاحات ملموسة في الاستثمار بعقولهم، حتى صار عديد منهم كفاءات يشار لها ناجحة.
في نهاية الجولة اقترحت الابنة الأصغر لفؤاد، تلك التي سجلت نجاحاً بالمنافسة الهندسية، وحصلت على التقدير والوظيفة، وأعادت الاقتراح غداءً على حسابها في مطعم صيني، يعرض وجباته في أوان تجاور الممر، يستثير البخار الصاعد منها، وروائح الشواء لعاب الماشي، ويسهل الاختيار بشكل أدق.
في طريق العودة نظر أسعد في هاتفه الجوال، والى ملف الطقس، أكد وجود الشمس نافذة لما بعد ظهر الغد، أقترح استثمارها، جولة بمدينة (كارلس كوغا Karlskog)، لزيارة متحف نوبل، صاحب الجائزة الأشهر في العالم.
لم يدع الوقت يمر سدىً، حضر منذ الصباح الباكر، تناول معنا الفطور على طاولة فؤاد، صحن باقلاء على الطريقة البابلية، مدعوم برأس بصل سويدي باهت لا يلذع، سار من بعدها بسيارته التويوتا في طريق بممرين عامرين لأربعين كيلومتراً، لم يتجاوز السرعة القصوى مائة كيلومتر في الساعة،
تخلل الطريق غابات، ومزارع قمح، وحقول أبقار، وبحيرات تسكنها طيور البط الأبيض، تحيط بها أكواخ من الخشب، يؤمها الأصحاب صيفاً، بانت بعد قليل منها علامات لمدخل المدينة، واشارات الى المتحف، طريق خاص، وسكة قطار، ومحطة، وسط مزرعة اختارها نوبل مكاناً لتجربة اكتشافاته، ومصنعاً لإنتاجه الحربي. توسعت المزرعة لتكون قرية جوار المدينة، يتوسطها نصب للرجل نوبل، وبيت يزيد عمره عن المائة والخمسين سنة على الطراز القديم حافظ على وضعه، ومعامل متفرقة، تجاورها بيوت للعمال، وأبنية للمختبرات حافظت هي الأخرى على حالها، وقسم تم تحويره لاستيعاب المعروضات:
مفجرٌ هنا وكبسولة، وهناك مدفع ساهم في حرب القرم من يوم انتاجه، وفي الجوار محرك تم تطويره، ورفاس باخرة توربيني،
وفي الغرف الباقية شاهداً ملابس الرجل، وقبعات له استمرت معلقة في أماكنها الأصلية،
وعربة كان يتنقل بها، حافظت عليها البلدية، وكأنها صنعت في الأمس، وقصاصات ورق وضعت على رفوف مكتبة تشرح بعض اكتشافاته، وأشعار كان يكتبها ساعات الهروب من سلطان التفكير بمآل نظرياته، جميعها وكل زاوية منها، وترعة مياه وسطها، وأشجار ما زالت شاهدة تقدم هذا الإنسان العالِم
والمكتشف نوبل على انه ولد في العاصمة السويدية ستوكهولم عام (١٨٣٣م) عاش حياة تنقل غير مستقرة، طفولة قضاها مع العائلة روسياً (سانت بطرسبرغ)، وجامعة درس الكيمياء فيها أمريكياً، وعمر عاش غالبه فرنسياً، وموت بالذبحة الصدرية مفاجئ في الجزيرة التي اشتراها مستقراً لآخر العمر إيطالياً، لم يكن فقيراً ولا متسكعاً، فالوالد صناعي، والأخوين الأكبر يعينان في أعمال الصناعة، ذكي، عصبي، يتكلم خمس لغات عالمية غير لغته السويدية، أول اختراعاته مقياس غاز وجهاز تفجير يوم كان البارود أعظم اختراعات العصر، وأبدع من بعد ذاك في اختراع الديناميت، لتتوالى من بعده الاختراعات في هذا المجال، ومجال الأسلحة حتى سجل قبل مماته (٣٥٠) براءة اختراع دولية، بنى لتحقيقها تسعون مصنعاً للأسلحة والميكانيك، واستثمر أموالاً وقدرات تفجير في النفط، استثمارات زادت من عدم استقراره، فحاجة المتابعة، والاشراف تقتضي السفر بين أمريكا ودول أوربا التي تتوزع بين بلدانها وبلدان أخرى شركاته.
كانت المحطة الأهم في هذه الجولة، مكتبة يجلس على كرسي في رواقها رجل مسن يرتدي ملابس شعبية قديمة من تلك الحقبة الزمنية، أشار الى كتبٍ ألفها نوبل، والى أخرى كتبت عنه وآراء لأهل السيرة، اتفقوا على وصف له مكتئباً، واتفقوا أن حبه الأول فتاة روسية، رفضته عند تقدمه لزواجها، فوطدَ علاقته بسكرتيرته الكونتيسة النمساوية بيرثا، الا أنها تركته هي الأخرى وعادت لتتزوج عشيقها، فتعرف على هيس ثالثة من فينا، استمرت معه الى يوم وفاته عام (١٨٩٦)، واتفقوا أيضاً أنه وقبل موته مات شقيقه الأكبر، فتوهمت صحيفة فرنسية بالاسم حامل اللقب ذاته نوبل، فاستعجلت تقديم نعي له وهو حي، كتبت فيه:
(تاجر الموت ميت) وكتبت أيضاً (نوبل الذي أصبح غنياً من خلال إيجاد طرق لقتل الناس أسرع من أي وقت مضى، توفي بالأمس).
شعر بقراءة النعي خيبة أمل قوية، وارتياب بشأن الذكرى التي ستبقى بعد موته وسماً للإسم قاتلاً وهو العالم، فأوصى بغالب ثروته دون معرفة من العائلة، لمؤسسة تمنح بإسمه خمس جوائز سنوية عالمية (العلوم الطبيعية، والكيمياء، والطب، والأدب، وخامسة لأشخاص، ومشارع تخدم السلام) أرادها نوعاً من التكفير عن تلك الحياة التي قضاها باختراعات تمحورت حول التفجير والمتفجرات، والأسلحة، التي فتكت عقوداً في البشرية، وقد حقق مرامه، وابقيت الذكرى متلازمة معانيها مع الجوائز والسلام.
توقف أسعد عن الشرح والكلام، عندما غيرت الشمس رايها في الاستمرار بالظهور، ولاذت بالفرار خلف غيوم هاجمت فجأة هذه المدينة والمنطقة، وبدل عن الاستمرار اقترح ختام الجولة غداءً في مطعم السليمانية، مشهور في المدينة، لشاب كردي، برع وأبناء قومه في إدارة المطاعم الشرقية بنكهة الكباب العراقي، بل وتفوقوا على بعض أقرانهم من أهل العراق، وتقدموا خطوات لمنافسة السوريون، الذين تمكنوا من المهنة، حال دخولهم أوربا في السنوات الأخيرة.
لم ينته اليوم بعد، ويوم السويد الصيفي طويل، تغيب فيه الشمس متأخرة، جلب فؤاد فراش من الاسفنج مغطى بقماش وردي، ولفائف تشبع الرغبة الى التدخين ساعتين، وجلب جاره أبو سلام كرسياً يطوى، وعلبة سجائر لا تفارقه، وضع الكرسي في مكانه المعهود، قال فرصة التمتع بهواء ما قبل المغيب، لا تعوض في هذا الحي (ڤيڤالا) الراقد على أطراف أوربرو الجميلة.
جلسنا الثلاثة على ناصية الطريق عند بقعة أرض يغطيها العشب الأخضر، مكان اعتادوا الجلوس عنده أيام الصيف، بدأ الحديث عن ماضٍ مدفون وحروب عبثية، وذاك المجهول من السياسة العراقية، أخذ أبو سلام نفساً عميقاً من سيجارته الثالثة، أعادت ذاكرته الطوعية الى أيام النضال كفاحاً مسلحاً، وبداية الحياة موظفاً في محافظة بغداد، وأيام الديوانية مدينته العريقة، وبعض من ارهاصات الشباب، كان الحديث طويلاً، قال نكمله في الشقة التي يسكنها وحده، على مائدة عشاء خفيف، امتد سهراً توافقياً الى ما بعد الساعة الحادية عشرة، حيث المغيب قد حل حسب التوقيت المحلي لمملكة السويد.
أوربرو – السويد
حزيران ٢٠٢٢
433 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع