الخيزُران.. قصة المرأة التي حكمت دولة العباسيين من وراء ستار
الجزيرة/محمد شعبان أيوب:لم يكن التاريخ يوما مثاليا أو طوباويا، وينطبق ذلك أول ما ينطبق على التاريخ الإسلامي، فالتاريخ هو نسخة مُعدلة من الواقع الذي نعيشه بشخوص مختلفة وأحداث متباينة. وفي حين أن لكل زمان طابعه الخاص، فإن الإنسان واحد من حيث النوازع الداخلية والعواطف، لا سيما عواطف حبّ السلطة والتملك، ولا يختلف في هذا الرجال عن النساء، فمنذ فترة مبكرة من تاريخ الإسلام لعبت المرأة أدوارا مهمة في آليات اتخاذ القرار، بل وفي محاولة تدبير شؤون الحكم والسياسة، والتحكم في أعناق الرجال ومصائرهم.
وإذا كان العصر العباسي الأول، الذي بدأ مع أبي العباس السفّاح مرورا بأبي جعفر المنصور وأبنائه وأحفاده مثل الهادي والرشيد والأمين والمأمون والمعتصم والواثق والمتوكل على مدار مئة عام ونيّف، عُرف بأنه عصر القوة والانتصارات وتطور العلوم والمعارف وتوحيد الدولة بعد فترة الانهيار الأموي الأخيرة، فقد لعبت بعض نساء القصور أدوارا مؤثرة في هذه الفترة الذهبية من عصر العباسيين (132-247هـ)، وتأتي على الرأس من هؤلاء "الخيزران بنت عطاء" اليمنية، زوجة الخليفة العباسي المهدي بن أبي جعفر المنصور (ت169هـ)، وأم الخليفتين موسى الهادي (ت170هـ) وهارون الرشيد (ت193هـ).
ظلت الخيزران تتدخل طيلة عقود في شؤون السياسة ودهاليز القصور في عصر زوجها المهدي وأبنائها، حتى وقع الصدام الشهير بينها وبين ابنها موسى الهادي الذي سئم تدخلها في الشؤون السياسية، بل وفي الفصل بين الناس، وقضاء الحوائج، حتى أضحت صورته أمام العامة والخاصّة هي صورة الخليفة الضعيف الذي لا يملك من أمره شيئا، فمن هي الخيزران اليمنية؟ وكيف أصبحت زوجة الخليفة المهدي بن أبي جعفر المنصور؟ ثم كيف أمسى نفوذها السياسي عظيما لدرجة وقوف الناس صفوفا أمام قصرها لقضاء حوائجهم؟
جارية تتسلط على الرقاب
لم تلد امرأة خليفتين عباسيينِ سوى الخيزران بنت عطاء الجرشية اليمنية، وكانت في الأصل أمَة عُرضت على الخليفة المهدي محمد بن أبي جعفر المنصور (158-169هـ)، فقال لها: "والله يا جارية، إنّكِ لعلى غاية التمنّي، ولكنّك خمْشَة الساقين (أي ضعيفة الساقين). فقالت: يا مولانا، إنك أحوجُ ما تكون إليهما لا تراهما. فقال: اشتروها. فحظيت عنده، فأولدها موسى وهارون"[1].
ومن هذه الحظوة ارتفعت مكانة الخيزران عند زوجها الخليفة المهدي، وأصبح لها بمرور الوقت دور سياسي متنامٍ، حتى صار إليها الأمر والنهي، وكانت الوفود تأتي إلى قصرها في بعض الأحيان قبل أن تذهب إلى الخليفة نفسه، وفي هذا يقول بعض المؤرخين: "إنّ الخيزران كانت متبسّطة (متحكّمة) في دولة المهديّ تأمر وتنهي، وتشفع وتُبرم وتُنقض، والمواكب تروح وتغدو إلى بابها"[2].
بل إن الخيزران استطاعت أخيرا أن تُقنع المهدي بأن يولي هارون الرشيد ولاية العهد بدلا من أخيه الكبير موسى الهادي؛ لحبّها لهارون، وطاعته التامة لها، لكن وفاة المهدي حالت دون تحقيق هذه الرغبة، وكان ولي العهد آنذاك في منطقة جرجان شمال إيران يحارب بعض الثائرين على الدولة.
على أن أزمة كادت تشتعل بعد وفاة المهدي بفعل ثورة الجنود الذين سعوا إلى استغلال الفراغ السياسي في بغداد، وهي الأزمة التي أدارتها الخيزران ببراعة، فقد أرسلت إلى كبار رجال الدولة، وعلى رأسهم الوزير الربيع ويحيى بن خالد البرمكي "مدبر دواوين هارون الرشيد قبل أن يلي الخلافة ووزيره بعدها" وغيرهم؛ ليجتمعوا معا للبحث في هذه الأزمة والوصول إلى حلّ فيها، فجاءها الوزير الربيع. بيد أن يحيى بن خالد رفض الدخول إلى قصرها خوفا من غيرة ابنها الخليفة الجديد موسى الهادي، "وجمعت الخيزران الأموال حتى أُعطي الجند لسنتين؛ فسكتوا"، كما يقول الطبري في تاريخه، أي إنها هدّأت من ثائرة الجند بإعطائهم راتب عامين قادمين[3].
صراع دموي
ولئن لعبت الخيزران دورا محوريا في تمرير انتقال السلطة لابنها الأكبر موسى الهادي، فإن فعلتها تلك كانت بداية صراع مكتوم بينها وبين ابنها الذي أصابه الحنق والغيرة على اجتماع أمّه بكبار رجالات الدولة والتدخل في شؤونها السياسية. لكن رغم ذلك، كان الهادي بارا بأمه، كثير الطاعة لها، وظل على طاعته لها حتى مضت أربعة أشهر على خلافته، فكان طمعُ الناس يزداد في شفاعة الخيزران ونفوذ كلمتها في الدولة العباسية، حتى قال المؤرخ المسعودي في كتابه "مروج الذهب"[4]: "كانت المواكبُ لا تنفض عن بابها، ففي ذلك يقول الشاعر: يا خيزُرانَ هَناك ثم هَنَاك ** إنّ العباد يسُوسُهم ابناكِ".
رويدا رويدا انتقل نفوذ الخيزران من قضاء حوائج العامة إلى قضاء حوائج كبار رجالات الدولة من القادة والوزراء والموظفين وغيرهم، مثل قائد الشرطة عبد الله بن مالك الذي أرادها أن تستشفع لدى الخليفة لقضاء حاجة، عند هذه المرحلة انفجر غضب الهادي، وقد روى المؤرخون لنا هذا الموقف العصيب بين الخليفة والسيدة الخيزران المتنفذة في القصور والدواوين، فيقول المسعودي في "مروج الذهب": "قالت (أي الخيزران): لا بد من إجابتي، قال: لا أفعلُ، قالت: فإني قد ضمنتُ هذه الحاجة لعبد الله بن مالك (قائد الشرطة)، فغضبَ الهادي، وقال: ويلٌ لابن الفاعلة، قد علمتُ أنه صاحبها، والله لا قضيتُها لكِ، قالت: إذن والله لا أسألُك حاجة أبدا، قال: إذن والله لا أُبالي. وحمي، وقامت وهي مُغضبة"[5].
لكن الهادي استوقفها وزاد من تعنيفه لها قائلا: "مكانك، فاستوعبي كلامي، والله، وإلا نُفيتُ من قرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لئن بلغني أنه وقف ببابك أحد مِن قُوادي، أو مِن خاصّتي، أو مِن خدمي، لأضربنَّ عنقه، ولأقبضنَّ ماله، فمَن شاء فليلزم ذلك، ما هذه المواكب التي تغدو إلى بابِك كل يوم؟ أما لك مِغزل يشغلك، أو مُصحف يذكرك، أو بيت يصونك؟ إياك ثم إياك أن تفتحي فاكِ في حاجة لمسلم ولا ذمّي. فانصرَفَت وما تعقلُ ما تطأ، فلم تنطق عنده بحلو ولا مُر بعدها"[6].
جارية تتسلط على الرقاب
لم يتوقف الهادي عند هذا الحد، بل جمع حاشيته وقادته وكبار رجال دولته ممن اعتادوا على وساطات السيدة الخيزران وقضائها لحوائجهم، يقول الطبري في تاريخه: "فلما كثُر عليه مصير مَن يصيرُ إليها مِن قُوادِه، قَالَ يوما وقد جَمَعهم: أيما خير، أنا أو أنتم؟ قالوا: بل أنت يا أمير المؤمنين، قَالَ: فأيما خير، أمي أو أمهاتكم؟ قالوا: بل أمك يا أمير المؤمنين، قَالَ: فأيكم يحب أن يتحدث الرجال بخبر أمه، فيقولوا: فعلَت أم فلان، وصنعت أم فلان، وقالت أم فلان؟ قالوا: ما أحد منا يحب ذلك، قَالَ: فما بال الرجال يأتون أمي فيتحدثون بحديثها؟! فلما سمعوا ذلك انقطعوا عنها البتة، فشقّ ذلك عليها فاعتزلته، وحلَفت ألا تُكلّمه، فما دخلت عليه حتى حضرته الوفاة"[7].
وقد تناول بعض المؤرخين أن حنق الهادي قابلته الخيزران بغضب أشد، وحقد أعمى قلبها حتى دبرت الحيل للتخلص منه، "فيقال: إن أمّه (الخيزران) أمرت جواريها بقتله، فجلسوا على وجهه حتّى مات" كما يقول ابن الطقطقي في "الفخري في الآداب السلطانية"، وقيل إنها سمّمته لأنه أراد أن يخلع أخاه هارون الرشيد من ولاية العهد ويجعلها في ابنه الصغير جعفر، بل وأراد قتل هارون كما يقول الذهبي في سير أعلام النبلاء.
بلغت العلاقة بين الأم وابنها إذن حدا فاصلا، إذ عمل كل منهما على التخلص من الآخر منذ ذلك الوقت، فيقول الطبري: "بعث موسى إلى أمه الخيزران بأرزة (نوع من الطعام)، وقال: استطبتُها فأكلتُ منها، فكلي منها. قالت خالصة (جارية الخيزران): فقلتُ لها: أمسكي حتى تنظري، فإني أخاف أن يكون فيها شيء تكرهينه، فجاؤوا بكلبٍ فأكلَ منها؛ فتساقط لحمه، فأرسل إليها بعد ذلك: كيف رأيت الأرزة؟ فقالت: وجدتها طيبة، فقال: لم تأكلي، ولو أكلتِ لكنتُ قد استرحتُ منكِ، متى أفلح خليفة له أم؟!"[8].
لهذا السبب أو لغيره اعتلّ الهادي، ونزلت به سكرات الموت وهو لا يزال شابا في الخامسة والعشرين من عُمره، وبسبب القطيعة مع أمه الخيزران أرسل لها وهو في سكرات موته قائلا: "أنا هالكٌ في هذه الليلة، وفيها يَلي أخي هارون، وقد كنتُ أمرتُك بأشياء ونهيتُك عن أخرى، مما أوجبته سياسة الملك، لا مُوجبات الشرع من بِرّك، ولم أكُن بِك عاقّا، بل كنتُ لك صائنا وبَرّا واصلا، ثم قضى قابضا على يدها، واضعا لها على صدره"[9].
عودة إلى سيرتها الأولى.. ونهايتها
https://www.youtube.com/watch?v=_3GabF7iZnM
عندما توفي الهادي، استدعت الخيزران قائد الجيش "هرثمة بن أعين"، فأخبرته أن يأخذ البيعة لابنها هارون الرشيد، كما استدعت يحيى بن خالد البرمكي الذي أصبح وزير هارون الرشيد والمتصرف في الأمور، وعادت الخيزران إلى سيرتها الأولى من القوة والعظمة وتدبير شؤون الدولة طوال السنوات الثلاث الأولى من خلافة هارون، وهي ذاتها السنوات الثلاث الأخيرة من حياة الخيزران، يقول الطبري: "وكانت الخيزران هي الناظرة في الأمور، وكان يحيى [البرمكي] يعرض عليها ويصدر عن رأيها"[10].
أصبح كبار رجالات الدولة، من الخليفة رأسا مرورا بالوزراء ومن دونهم، يأتمرون بأمر الخيزران سيدة القصر العباسي على مدار عقدين من الزمان، وقد اعترف هارون الرشيد بهذه الحقيقة لوزيره الفضل بن الربيع بعد وفاتها قائلا: "إني لأهمّ لك من الليل بالشيء من التولية وغيرها، فتمنعني أمي؛ فأطيع أمرها"[11].
وفي عام 173هـ/718م توفيت الخيزران، أم الخلفاء العباسيين وجدّتهم الكبرى، وأول امرأة تتدخل في شؤون السياسة العباسية بلا خوف ولا هوادة، وقد عملت كل ما أمكنها فعله للحفاظ على القوة والسطوة إلى درجة أن بعض المؤرخين يتهمونها بالتورط في قتل ابنها كما رأينا، كي تستمر فقط السيدة الأولى، والمتحكمة من وراء الستار، حتى في بدايات عصر أعظم خلفاء العباسيين هارون الرشيد الذي لم يكن يجرؤ على مخالفة أمرها.
——————
المصادر
[1] ابن الجوزي: المنتظم 8/346.
1398 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع