محلة الفضل نموذجا صادقا عن المجتمع البغدادي..

       

محلة الفضل نموذجا صادقا عن المجتمع البغدادي في النصف الأول من القرن العشرين

                          

  

                

التراث هو ما خلفه الأجداد لكي يكون عبرة منه الماضي ونهج يستقي من الأبناء الدروس ليعبروا بها من الحاضر إلى المستقبل.

وهو بمفهومه البسيط ما خلَفته (ورثته)الأجيال السالفة للأجيال الحالية . والتراث في الحضارة بمثابة الجذور في الشجرة، فكلما غاصت وتفرعت الجذور كانت الشجرة أقوى وأثبت وأقدر على مواجهة تقلبات الزمان. ومن الناحية العلمية هو علم ثقافي قائم بذاته يختص بقطاع معين من الثقافة(الثقافة التقليدية أوالشعبية) ويلقي الضوء عليها من زوايا تاريخية وجغرافية واجتماعية ونفسية. ليشمل  عادات الناس وتقاليدهم وما يعبرون عنه من آراء وأفكار ومشاعر يتناقلونها جيلاً عن جيل.
وتستعمل مواد التراث والحياة الشعبية في إعادة بناء الفترات التاريخية للأمم والشعوب والتي لا يوجد لها إلا شواهد ضئيلة متفرقة وتستخدم أيضا لإبراز الهوية الوطنية والقومية والكشف عن ملامحها.
ومن أراد أن يساهم في تدوين التأريخ الاجتماعي لمدينة السلام(بغداد) سيجد نفسه امام موروث شعبي اصيل انحدر اليه من الاجيال السالفة بكل ما حملت صدورهم.
 ومما يثير الدهشة والاستغراب ان معظم الذين دونوا المأثورات البغدادية خلال القرن الماضي كانوا من العلماء،امثال شيخ العصرمحمود شكري الآلوسي ( 1856-1924م) كان من الرواد الاوائل ،في هذا المضمار، بعده تأتي جهود الشيخ عبد الحميد عبادة (1891-1930م).

                           


وقد جمع لنا الاول الامثال العامية من افواه اهلها،وعكفا الاثنين سنوات على جمع مادة كتابيهما الذين يؤرخان لمدينة السلام ومساجدها ومعاهد العلم فيها ،كما ان الاب انستاس الكرملي(1866-1948م) هو الآخر من رجالات سلك الكهانة ولعل اهتماماته وما خلفه في التأريخ البغدادي قد اكسب الاجيال ثروة رائعة بما نشره وحققه واستقصاه.،

                 

ولعل جهود الشيخ جلال الحنفي(1912-2006م) في مضمار المأثور البغدادي كان اغزر هؤلاء الباحثين انتاجا. ويعتبر كتابه (معجم اللغة العامية البغدادية)، من امهات المصادر التراثية النادرة التي تزهو بها بغداد لما انطوى عليه من نفائس في الامثال والمواقع والشخصيات والاستطرادات. لكنا لم نجد بينهم باحثا اجتماعيا افرد جهده لرصد الحياة الاجتماعية بكل تفاصيلها، ياستثناء المرحوم عزيز الحجية.
لنخلص الى ان تراث كل قوم هو نتاج حياتهم وبيئتهم وعلى اساسه تدرس السيرة اليومية للفرد او المجتمع ،ولقد انحدرت الينا بجهود اولائك العلماء والمؤرخين بقية من تلك العهود الخوالي ما يستحق الحصر والتسجيل ليكون من وراء ذلك تأريخ اجتماعي ادبي لهذه المدينة الخالدة في جبين الزمان.
والمؤلم إن هناك محلات ونجوما لمعت وخبت ولم يرد ذكرها على لسان او على صفحة متواضعة من جريدة او كتاب إلا القليل النادر. فالواجب علينا البحث والاستقصاء لنسجل ماكان موجودا في بغداد في تلك الحقبة غثا كان او سمينا فليس للمؤرخ أن يلتقط من المجتمع مايلذ له.

  

محلات بغداد
لاتنفك الحيرة تنتاب كل من يكتب عن بغداد ومحلاتها، فيتيه في دروبها من اين يبدا وعمن يكتب. بجغرافية المكان أم بتاريخها الساحر ,ام بعصرها العباسي الذهبي ام ما قبله او بعده، ام عن شخوصها التي ملأت سيرهم فصولا من كتب التاريخ بالعالم اجمعه، لا اعرف سوى أن بغداد مدينة ساحرة انارت دروبا في تاريخ البشرية وكانت قبلة للعالم. سحرت الكثيرين فباتت مدينه يمتزج بها الخيال بالواقع خيالات الف ليلتها التي لازالت تترجم قصصها في كل ارجاء المعمورة وسندبادها البحري ورحلاته المشهورة.
مدينة وطأت اعتابها اقدام كل العلماء والفنانين في ذلك العصر ولم ُيُبدعوا او يُعرفو الا فيها،كانت من أهم مراكز العلم على تنوعه وملتقى للعلماء والدارسين
و قد اجاد الخطيب البغدادي وصفها بقوله : " لم يكن لبغداد في الدنيا نظير, في جلالة قدرها وسعة أطرافها وكثرة دورها ومنازلها ودروبها وشوارعها ومحالها وسككها وخاناتها وطيب هوائها وعذوبة مائها وبرد ظلالها وأفيائها واعتدال صيفها وشتائها وصحة ربيعها وخريفها، فحق لها ان تكون مدينه ساحرة عامرة، بتناقضها او بتجانسها هي بغداد".
بغداد بجانبيها الغربي والشرقي التي شطرها نهر دجلة الخالد وعلى جسرها انشد علي بن الجهم،لعيون المها الجميله حينما عبرت من الرصافة الى الكرخ.

  

بغداد بعلو منائرها الذهبية وهي تشق سماءها الزرقاء الجميله،باجراس كنائسها واديرتها القديمة.
بغداد التي احتوت جميع اجناس الدنيا ودمجتهم في مجتمعها حتى اصبحو جزء منها. دار السلام التي سلم كل من دخل اليها وابدع فحين جاءها الموصلي طار صيته الى كل الدنيا.
بغداد مدينه لاتتكرر فقد حباها الله منذ تكوينها لتصبح اسطورة على مدى التاريخ.
 بغداد التي يحتار الزائر بها ويسال نفسه أهذه نفسها التي تخيلتها لانها تفتح للخيال ابوابا لا تنتهي والذي يسير في دروبها وعقودها ،لابد له ان يشم عطر ذاك الزمان الجميل هنا او هناك فلطالما تفاجأ وارتبك الداخل اليها وحن الخارج منها اليها. ومن المفارقة ان لااثر لقبر من بناها ولا لقبور خلفاؤها او من حكمها.
وطُـفْ  ببغدادَ وابحثْ في مقابرها ** عـلَّ امـرأً مـن بني العباس تلقاهُ
أيـنَ  الـرشيدُ وقد طافَ الغمامَ بهِ ** فـحـيـنَ  جـاوزَ بـغداداً تحدّاهُ
اللهُ  يـعـلـمُ مـا قـلبتُ سيرتَهُم ** يـومـاً، وأخـطأ دمعُ العينِ مَجراهُ
نعم بغداد اليوم هي غير تلك الزاهرة العامرة التي احتضنت كل علماء وشعراء وفناني الارض هي اليوم لفظت علماءها وشعرائها وفنانيها ،فانها اليوم حزينة يائسة, بقيت متارجحة بين طرفي هذه المعادلة المتناقضة.
فمعالم المدن تتغير باستمرار فهي تكتهل وتغبر في عهود الظلم والطغيان، وتستعيد شبابها وجمالها في العهود الزاهرة.

   

رصافة بغداد:
ضمت بغداد برُصافَتُها وكرخها الكثير من المحلات منذ العصر العباسي حتى اليوم ، فقد أوضح الدكتور حسين أمين (ت2013) في كتابه : بغداد صور من تراثها ." أن بغداد اشتهرت بمحلاتها الكبيرة في اول تأسيسها وتطورها  ولعل اشهر محلات بغداد الغربية محلة الكرخ. اما اشهر محلات الجانب الشرقي من بغداد  فهي محلة (الرُصافَةُ)  ".
ويقول ياقوت الحموي في معجم البلدان : ( الرُصافَةُ: بضم اوله، مشهور ان لم يكن اشتقاقه من الرَصف وهو ضم الشيء الى الشيء كما يُرصَف البناء فلا ادري ما اشتقاقه) .. وهناك عدة رُصافات منها:
رصافة هشام بن عبدالملك الاموي،(105-125ﻫ/724-743م)، غربي الرقة، ورُصافة قرطبة الني بناها صقر قريش عبدالرحمن بن معاوية اول من ملك الاندلس من الامويين(138-172ﻫ)، وهناك رُصافة الكوفة التي ابتناها المصور العباسي (136-158ﻫ/754-775م)..الخ.اما رُصافة بغداد يقول الحموي:
(لما بنى المنصور مدينته بالجانب الغربي(145ﻫ) واستتم بناءها امرابنه المهدي(158-169ﻫ/775-785م) ان يعسكر في الجانب الشرقي وان يبني فيه دوراوجعلها معسكرا فالتحق بها الناس وعمروها فصارت مقدار مدينة المنصور).
ويقول المستشرق البريطاني كي لسترنج :"كان قصر الخليفة المهدي في الرُصافَةُ النواة التي نشأت منها بغداد الشرقية وازدهرت، وضمت ثلاث محلات مهمة هي: الرُصافَةُ والشماسية (الصليخ) شمالها والمخرم جنوبها وهي تشمل الآن محلة (الصرافية والعيواضية) وهي منسوبة الى المخرم بن يزيد ".
وتعد الرصافة اقدم محلة في الجانب الشرقي لاهميتها السياسية والعسكرية.
وفي محلة المخرم انشأ الخليفة المعتصم(179-227ﻫ) قصرا فيها اثناء اقامته في بغداد، والبويهيون(334-447ﻫ/946-1055م) انشأوا دار المملكة في هذه المنطقة ، اما السلاجقة فأنشأوا جامعا عرف بجامع السلطان ،وفي جنوب الجامع كان باب( المعظم) يسمى باب السلطان وهو الباب الشمالي والسلطان هو طغرل بك محمد بن ميكائيل ابن سلجوق الذي حكم بغداد من (1055-1063م).
اما تسميته بباب المعظم انما سمي باسم الامام الاعظم النعمان بن ثابت مؤسس المذهب الحنفي المتوفي سنة(150ﻫ/767م) ونسبت تسمية الباب اليه لأنه يقع في بداية شارع الامام الاعظم الذاهب الى الاعظمية من بغداد، وهي مستحدثة.
وباب السلطان كان احد ابواب السور الذي بوشر بإنشائه في مستهل حكم الخليفة المستظهر(سنة488/1095م).
فَحَيّوا بَني العَبّاسِ مِنّي تَحِيَّةً    ** تَسيرُ عَلى الأَيّامِ طَيِّبَةَ النَشرِ
سعى العباسيون عند تاسيسهم بغداد الى وضع منهجية علمية منتظمة في التخطيط والعمران والبناء وما عرف عن البغداديين من حبهم لمدينتهم واهتمامهم بها على مر الزمان كان له الاثر الكبير في استمرار وتطور المدينة عبر العصور رغم وقوعها تحت سلطة المحتلين والغزاة قرون طويلة ابتداء من البويهين والسلاجقة والمغول والاقوام الاخرى الطامعة بخيرات بغداد ثم تلاها الاحتلال البريطاني ،وقاوم البغداديون الاحتلال بمختلف اشكاله واطماعه وحصلوا على السيادة واقاموا نظام الحكم الملكي في اوائل القرن الماضي.
 كانت بغداد انذاك تنقسم إلى قسمين من الناحية العمرانية القسم الاول هو المركز او مايسمى (بغداد القديمة) والقسم الثاني يسمى اطراف بغداد ويضم في وقتها قضاء الكاظمية والكرادة الشرقية والاعظمية وكرادة مريم والدورة.

وكانت بغداد في اوائل القرن العشرين مدينة صغيرة من حيث السكان والمساحة فهي محدودة من الشمال بما يسمى باب المعظم ومن الجنوب بما يسمى الباب الشرقي ومن الشرق السدة (سدة ناظم باشا) ومن الغرب أي جانب الكرخ سكة قطار الموصل ولم يكن العمران انذاك قد تجاوز هذه الحدود بل انه لم يصل اليها في امكنة كثيرة من بغداد وفي خلال منتصف القرن الماضي جرت تغيرات واسعة داخل المدينة فضاعت الحدود الاصلية للمحلات القديمة.

  

يقول المرحوم زهير احمد القيسي: اما الاباء والاجداد من ابناء بغداد الاصليين فلم يكن بوسعهم حتى عام1920 تجاوز منطقة السيد سلطان علي الحالية شرقا، ومنطقة باب المعظم غربا،اذ ان الامكنة الاهلة بالسكان،المحيطة بسراي الحكومة كانت محصورة بين هاتين المنطقتين فما ان تغيب الشمس حتى ينسحب الناس الى بيوتهم تاركين الازقة الضيقة المضاءة بالفوانيس النفطية الضئيلة؟ والقناديل الخامدة، خالية ولايجسر على السهر خارج البيوت الا اصحاب الرجولة والبأس.

          

فكانت بغداد في تلك الايام..والى سنوات خلت مجموعة ازقة (ودرابين) ضيقة والدربونة ( تصغير وتأنيث الدرب) الذي جمعه الدروب ،تضم مجموعه من الدور المتلاصقة والصغيرة والتي تعد بالعشرات حتى تصل المئة دار ومن عدة درابين تتكون المحلة الواحدة يتصل بعضها بالبعض بطريقة حلزونية متداخلة متلاصقة لاتنفك ولا تنفذ الى غيرها وكأن شبكة هذه الطرق الخلية المحكمة الصنع، تجتمع في احياء مختلفة بحيث يكون كل حي وحدة مستقلة، يقطنها غالبا ابناء العشيرة الواحدة وتسمى المحلة بأسمها .لها مسجدها وحمامها ومختارها وحلاقها.
وكانت محلات بغداد – كما يروي المرحوم عبد الكريم العلاف في كتابه (بغداد القديمة) موحده على شكل وحدات تضم مجموعة من (المحاليل) الصغيرة.
فمحلة الفضل تضم العزة ، وخان لاوند التي سميت(النائبية) ، ومحلة السيد عبد الله وحمام المالح والقراغول ، وكان رئيس هذه المحلات العلامة المرحوم الشيخ عبد الوهاب النائب..
ومحلة الميدان وما جاورها يرأسها العلامة المرحوم الشيخ داود النقشبندي، ومحلة قنبر علي وما جاورها يرأسها آل جميل ، ومحلة القشل وما جاورها يرأسها آل كبة ، ومحلة باب الشيخ وما جاورها يرأسها آل النقيب، ومحلة راس القرية وما جاورها يرأسها آل الباجه جي.
ومن المعلوم ان الاسماء لاتستقر على حالها في احيان كثيرة، فهي تتغير تبعا للظروف وخاصة السياسية منها، مثلما تتغير اسماؤنا تبعا لظروف اجتماعية ناشئة..اسماء المدن والاماكن ايضا يلحقها تغيير في فترات زمنية معينة، الا ان الفارق بينها وبين الاسماء الشخصية ان الاولى تخضع للتوثيق التاريخي وتتناقلها الاجيال فيما بينها، والثانية تندثر ويطويها النسيان بعد رحيل اصحابها، الا مايتبقى منها في الذاكرة للاشخاص المقربين من اصحاب تلك الاسماء، حتى يحين رحيل اصحاب تلك الذاكرة ايضا..
فقد اولى الباحثون الاهتمام لتسميات الاماكن التي تطلق عليها، واصبح ذلك علما يختص بها، عرف باسم(الطبونيميا) وهوعلم أصول الكلمات وأشكالها. والمصطلح «طبونيميا» معرب عن اليونانية ومنحوت من كلمتين: توبوس ومعناها المكان، و أونيما ومعناها الاسم أو اللقب. تهتم الطبونيميا بدراسة أسماء الأماكن، وتشتمل في مفهومها العام على دراسة التسميات الجغرافية، معناها ومبناها وأصلها وانتشارها في مختلف المناطق.
فليس من السهل تحديد محلة من محلات بغداد ورسم خرائطها وربط اسمائها منذ بنائها ولحد الآن، وليس هو بالامر المستحيل ،لكنه لايسلم من الوقوع في التباسات وتحريفات واخطاء،ذلك  ان الكثير من محلاتها طمست معالمها وآثارها فضلا عن تغييراسماءها التي ترمز اليها ومنها أيضا تغير الحكم وتبدل العمارة وتنقل الناس واختلاف الاسماء وكثرة النكبات والحوادث التي مرت ببغداد بحيث يصعب على غير المورخ استقصاء المعلومات وتحقيق الاخبار عنها بدقة.
وقلما وجدت مدينة اسلامية عربية غير دارسة قدتغيرت مواضعها وتبدلت اسمائها مثل بغداد .. فقد اتجهت بغداد في تحول عمرانها من الشمال الى الجنوب وانتقلت الخلافة العباسية من الجانب الغربي الى الجانب الشرقي،وبعد برهة لاتتجاوز نصف قرن استقرت الخلافة بها بسامراء .
قليل هم اولئك الباحثون الذين حققوا في المحلات البغدادية القديمة وكتبوا في تحليلاتها وقليل جدا من هؤلاء الباحثين سلموا من الوقوع في التباسات وتحريفات واخطاء راحوا فيها ضحية من سبقهم من المؤلفين والرحالة و( المستشرقين) الذين صحف بعضهم أوحرف وشوه عن سوء نية أو طيبة قلب كثيرا من الاسماء والمسميات ،ولاينكر ان البعض الآخر سود صحائف مشرفة من تاريخ تلك المحلات.

  

لا يعرف أغلب الشباب البغدادي حاليا منطقته الأصلية التي سكنها أجداده، قبل أن ينتقلوا إلى أحياء بغداد المستحدثة،  ففي العقود الأخيرة اندثرت وتغيرت ملامحُ اغلب المحلات البغدادية في الرصافة كمحلة(قمرالدين) و(الطوب)لأنها شهدت بناية المكتبة الوطنية تقوم على ارضها مقابل وزارة الدفاع في الباب المعظم. فضلا عن محلات اخرى وشوارع قد انطمست معالم اسمائها لطغيان اسماء جديدة عليها،بعد مجيء مغول العصر الجدد. ، فما كانت للأمس البعيد او الامس القريب مدارس وسينمات ومحلات اصبحت اليوم مخازن وخرائب ومكب للنفايات.. فالتاريخ الاجتماعي لمدينة بغداد يشهد اليوم انحطاطا في ظل الحكومة المعاصرة،مما يستدعي توثيق فكر السلف.
وبقدر أهمية هذا البحث او المقال المُقِل في إعادة رسم(محلة) ما خلال مرحلة محددة، ينعطف موضوعنا عن محلة عريقة أتسمت بالوجاهة والكبرياء، بحيث يمكن على ضوء المعلومات التفصيلية الواردة فيه استعادة ملامح تلك المنطقة، بحيث يعيد الذاكرة للمعاصرين ويُطرِبهم، فانه بالقدر نفسه بالغ الشأن للأجيال الحالية والآتية ،لأن اكثر ما ورد فيه بمثابة ذاكرة إضافية تستند وتقدم العون لقراءة الحاضر على ضوء المقدمات والأسباب التي ذكرت.
لقد حاولت أن أقدم هذا الموضوع بشكل متكامل ، جامعا فيه خلاصة ما اطلعت عليه مما كتبه الآخرون،محللا لبعض آرائهم ،ولا أزعم أنني أعطيت الموضوع حقه كاملا ،ولكنني حاولت وبجهد المقل أن يكون البحث شاملا،بقدر الاستطاعة
ربما يقال ان وسائل البحث والتدوين الحديثة في قراءة التاريخ الاجتماعي لبغداد او محلاتها لمرحلة مضت، جعلتنا على معرفة أوسع، وربما أدق، لهذه المنطقة او المحلة وتلك المرحلة، خاصة من خلال اعتماد دراسة الموروث الاجتماعي وأسباب المعاش، فضلا عن كتب التاريخ، وما إلى ذلك، لكن هذه الوسائل، بما فيها شبكة المعلومات العنكبوتية، رغم أهميتها، غير كافية، وقد يحصل تعسف في قراءتها أو تحليلها، وقد تقود بالتالي إلى نتائج غير دقيقة التحليل أكثر مما تعكس الواقع الذي كان قائماً فعلاً. والسبب في ذلك غياب الشاهد،أي غياب الإنسان الذي عاش وعاين وعانى، ومضى دون أن يدلي بشهادته، اويقول كلمته.
واستميح القاريء عذرا للدخول الى موقع دار الكتب والوثائق الوطنية ليتأكد مما قلنا.

http://www.iraqnla-iq.com/baghdad%20memory/thakrat12.htm  

يحمل الموقع عنوان(ذاكرة العدسة) ادرجت العناونين الاتية وهي مغايرة للذاكرة التاريخية:
1.صورة ادرج تحتها عنوان شارع غازي الكفاح عام 1919؟
للعلم كانت اولى المحاولات الجادة ، ذات الأهمية في تخطيط مدينة بغداد ، قد جرت في بداية سنة1936.عندما استدعت الحكومة العراقية ،البروفسور الالماني المشهـور بتخطيط المدن بريكس ومعاونه برونو وينفر وقد أوكلت اليه أمانة العاصمة مهمة اعداد تصميم حديث لمدينة بغداد. فكتب تقريراً أوصى بموجبه بأهمية فتح شوارع جديدة كان  من أهمها الشارع الذي عرف بـ(شارع الملك غازي) .
2. صورة ادرج تحتها عنوان كنيسة الارمن في بغداد؟ وهي صورة لمكتبة الاوقاف التي انشأت عام 1936في الباب المعظم مقابل وزارة الصحة حاليا ، وتم ازالتها عام 1961تعسفا.
3. صورة ادرج تحتها عنوان (حديقة في بغداد عام1930)؟ وهي بالحقيقة تمثل مقبرة الانكليز في الكرنتينة مقابل السفارة التركية حاليا.
فاذا كانت دار الكتب والوثائق هكذا ناهيك عن المواقع الالكترونية التي تعتمد على النقل غير الموثق،فوجدت في بعضها قد اطلق على الصورة في الفقرة(2) اعلاه عنوان القصر الابيض او محلة الفضل على ساحة حافظ القاضي........الخ

 
                     


محلة الفضل:
وموضوعنا تاريخ محلة بغدادية عزيزة على انفسنا وكذلك هي محلات بغداد. في كل مرة كنت اذهب اليها احس بشعور (ابن جبير) وغيره من الرحالة حين زاروا بغداد. ووصفوا ناسها ومعالمها وشوارعها، فكان لهم الفضل كل الفضل في انني ما زلت في بغداد اتمنى ان اعيش داخلها حباً وامناً وحلماً وليلة حب شرقية. بألف ليله وليله ..
لها ماضي ينعش سحر الحكايا بل تجدها حاضره قبل جميع الحكايا لانها مصدرها وحضن ولادتها فلا يستمتع التاريخ ألا بجلسات السمر وحكايات ألف ليلة وليلة وشهرزاد التي لاتنام مثلما لاتنام بغداد عبر التاريخ.
يحتم على المار فيها خوض رحلة في عمق التأريخ القريب لهذه المنطقة التي كانت تعد قلب بغداد البهي حتى منتصف القرن الماضي قبل أن تعبث بها يد الانواء. ليتوقف عند أهوالها الشعراء والمؤرخون ، ويدونوا سيرة مدينة ، ظلت تصر على الحياة ولم تعرف الاستسلام، لأن الإصرار على الحياة والإبداع يبقى فيها وفي عروقها أزلياً .لم تكن بغداد ومحلاتها محطة في رحلة حضارة ، وإنما محور ومنطلق ورسالة تشربت معانيها جذورها الضاربة في أعماق الأرض .
حين تسير في محلاتها اليوم ، لابد ان تستذكر عصورا مختلفة ، تركت بصماتها على أكثر من مكان فيها ،ماثلة حتى اليوم من العصر العباسي بشواخصه الماثلة للعيان وكإنها تعيدك الى أكثر من ألف عام ، فتعيش تلك الأجواء وتتلمس آثارها الحية ، التي تركتها لنا أيامها الطويلة الحافلة بالأحداث والمآثر الكبيرة التي سجلها أبناؤها وهم يكتبون حكايتهم وحكاية مدينتهم الباسلة للتأريخ .
بغداد كانت وستبقى قبلة الباحثين والمهتمين،لأنها منجم الحكايات التي مازالت تترك آثارها على العالم حتى اليوم .
فضلا عن ما  تقدم أن المقالة او البحث لايتحدث عن منطقة عادية، وأنما عن اصل من اصول بغداد، التي تعني الكثير في الذاكرة والواقع، والتي بمجرد أن تذكر يضج التاريخ، وتمتلئ المخيلة بالصور والحنين. عدا عن أن الفترة الزمنية التي يتناولها البحث لها أهمية استثنائية:
اولا- لانها تمثل نموذجا صادقا عن المجتمع البغدادي في النصف الأول من القرن العشرين وصورة صادقة عن رجالاتها ومحلاتها وعاداتها وتقاليدها.
ثانيا- ليس لانه نتيجة بحث بالدراسة والتقصي ،لكنه بالدرجة الأولى، مقال صادر عن العقل والقلب معاً، وهو بمثابة شهادة،لاستعادة تاريخ منطقة من مناطق  بغداد.
انها بقايا ذكريات معاشة حكاياتها حتى وقت قريب عشنا اجوءها ووعينا تفاصيل ناسها في ساعة صحو قصيرة قبل الاحتضار..بعد ان بدأت تلوكها أفواه الصعاليك التي تحتقر مفاخر الوطن، لم تخص فقط ميراثنا القديم، بل كذلك شملت برحمتها مفاخرنا الحديثة.
بعد ان اغلقت منافذها بحواجز كونكريتية لتعبر عن التضييق الذي يمارس بحق ابناء المنطقة ،لانهم من مكون اصيل وعريق ابى ان يعيش وسط الاهانة والذل، فقدم التضحيات والشهداء من اجل تحرير الوطن ،بعد معارك عديدة وعنيفة بين قوات الاحتلال والمليشيات الحكومية ،ومهما حاولت المليشيات التي تساندها قوات المحتل انتزاع المنطقة من اهلها ولكنها لم تنجح بفضل الله.
لقد شوه المحتلون الغزاة وعملاؤهم وجه بغداد ، لكنهم فشلوا في الوصول الى روحها.. نجحوا بتشويه جسمها الخارجي غير انهم انخذلوا بالوصول الى قلبها..غايتهم محو ذاكرة الناس، فهيهات لهم ذلك ، فبغداد تستمد نهوضها وقوتها واصالتها من اهلها الذين حافظواعلى (تراثها) الشعبي،فيدي بيدك لنعد نبض الحياة لمدينة تحتضر.
قد أقام على بغداد ناعيها      ...   فليبكيها لخراب الدهر باكيها
ترجى لها عودةٌ في الدهر صالحةٌ    ...  فالآن أضمر منها اليأس راجيها
مثل العجوز التي ولت شبيبتها  ...  وبان عنها جمال كان يحظيها

لنقف قليلاً..عند باب السلطان(باب المعظم وسور بغداد) القديمة الذي بناه المستظهر بالله سنة(488ﻫ/1095م) وأكمله المسترشد بالله سنة(517ﻫ /1119م). وآخرهم كان الخليفة الناصر لدين الله عام( 618ﻫ /1221م).
ظل هذا السور  قائماً مدة 800 عام، وهدم في عهد والي بغداد العثماني مدحت باشا سنة 1870م واستخدم مواده في بناء مركز الحكومة(القشلة). باستثناء أبوابه الأربعة وأبراجه المتصلة به. ولم يبق منه سوى جزء ماثلا حتى الان يدل على موقعه، محصور بين جامع الأزبك وقاعة الشعب، وهذا هو الحد الذي يمكنك تسمية ما خلفه (المهدي) من رصافته التي بدأت قصراً له ومعسكراً لجنده، فكانت تنافس الكرخ في العمارة والأزدهار،هكذا كانت رصافة بغداد ما قبل التشويه. ثم اكمل العثمانيون خطيئة التشويه بتدميرهم (باب الطلسم) الذي كانوا قد اتخذوه مخزناً للذخيرة،ليلة فرارهم قبل دخول الانكليز بغداد(1917م) وهو الباب الثاني على السور الذي يطوق حي الفضل.
وقد ازيل باب السلطان - جهلاً بقيمتها التراثية - وبقايا السور لتوسيع امتداد شارع الرشيد عام 1925- بيعت هذه البوابة بمبلغ بسيط تافه يقل عن عشرة دنانير حينذاك حسبما اورده الباحث عبدالحميد عبادة في كتاب العقد اللامع-.
ونبدأ رحلتنا من منطقة (الفضل) احدى محلات الجانب الشرقي (الرصافة) من بغداد، انشأ فيها المهدي العباسي جامع الرصافة سنة (159ﻫ/776م) في السنة الثانية من خلافته. الذي  بقيت منه بقايا هي جامع الفضل (أزهر بغداد) الذي لا يزال ينتصب في وسط المحلة وتزهو به المنطقة باعتباره من الجوامع الاثيرة في تاريخها، وكان يؤدي دوره ليس بيتا للعبادة فحسب،بل ومدرسة للتعليم،ودارا للندوة لأهل الحي.
بغداد- الفضل-  بتنوع سكانها وجمال طقوسهم الاجتماعية والدينية ذات النكهة العريقة والتي لاتزال تحافظ على ذلك الارث الثمين الذي هو من سمات محلات بغداد العريقة تحكي مرحلة من مراحل تاريخ بغداد القديمة ،التي احتوت اسواقها ومقاهيها كل صخبنا الممزوج بغناء سليمة مراد وهي تغني (ألف حيف وألف وسفه).. نعم ألف حيف وألف وسفه على مكان اختزل بذاكرته أجيالا من الذين مروا من هنا وها هي آثار الخراب بادية عليه وليس من مجيب...
فالفضل لازالت تثير الدهشة برغم كل هذا الإهمال الذي يعتريها ,فهي محاطة بأمكنة تجللها القداسة ويؤطرها الصفاء ليضفي القا روحيا يتناغم ومكانتها الحضارية العريقة . بماضيها المجيد الممتدة جذوره الى سنوات طويلة في التاريخ تستحق ان نعيد لها وجهها المشرق لأن اهلها طيبون ويتصفون بصفات حميدة لأنهم يحملون نفس البذرة البغدادية التي حملها أجدادهم الكرام .

الى الأنجاب في (الفضل) لأهليها هم أهلي
تحيات من القلب كنفح الورد والفِل
هم الدنيا وأهلوها فمن أشباههم؟ ..قل لي
حماة الدار أمجاد أباة الظلم والغل
وأهل (السور) أعلام ورمز الخير والبذل
وهم (أقمارنا) زانت ربوع النجد والسهل
اذا ما أقبل الضيف رأى الأكرام كالسيل
رأى التأريخ والدنيا وقد سارا على مهل
سيوفنا تلهب الهيجا موازينا لدى العدل
وبغداد هي الدنيا وعشق الناس للفضل

الاخوة الكرام :لتكن دعوة من خلال مجلة (الگاردينيا) نوجهها نيابة عن الاستاذ جلال چرمگا  لكل الاخوة الاعضاء من اساتذة وباحثين في المجلة لتوثيق التراث البغدادي العريق لنترك للاجيال ثروة رائعة قبل ان ينطوي جيل المخضرمين من البغداديين وتنطوي معه صحائف رائعة من تراث خالد صميم فيحرم الخلف من تراث السلف.
هذا البحث يترك الباب مفتوحا  ربما لاحد قد جال في ذهنه ان يكتب ما لم اذكره عن منطقة (الفضل) وبيان مالديه من المعلومات فله ان يعلق مما لم احسن ان اقوله او اذكره واعلم اني لم افيها حقها...... مع التقدير

وللموضوع تتمة ان شاء الله...

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

411 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع