رحلة القهوة والشاي عبر التاريخ ..منذ القدم والبشرية تبحث في الأعشاب عن فردوس المتعة..
بقلم/ نصرت مردان
حتى ألامس القريب كانت قارئات الفنجان يبدأن بقراءة سورة الفاتحة على روح الشيخ الشاذلي .
كما يذكر الرحالة التركي أوليا جلبي في كتابه (سياحتنامه) أنه كان يوجد في استانبول في القرن السابع عشر سبعون دكانا لبيع القهوة.
وكانت تفتح أبوابها بالبسملة والدعاء للشيخ الشاذلي ،وهو المتصوف علي عمر الشاذلي الذي عاش في القرن الخامس عشر.وأفتى بتحليل القهوة بعد أن تذوقها في مكة .
تحريم القهوة
قبل أن انتشار استعمال القهوة ،كانت القهوة في بادئ الأمر شرابا دينيا.حيث شاع استعماله أولا بين المتصوفة في الجزيرة العربية وبعدها في مصر،نظرا لفعاليته في إبقاء الذهن متوقدا بما يساعد على تسهيل الإيفاء بطقوس الذكر .
كان المتصوفة يتناولون القهوة أثناء حلقات الذكر.وكان يعدها متصوف يدعى بالنقيب،وخلال ذلك كان يردد (يا قوي ) 116 مرة أو يقرأ سورة ياسين أربع مرات أو يصلي مائة مرة على الرسول (ص). ورغم المكانة الهامة للقهوة عند المتصوفة إلا أن رجال الدين لم يكونوا في نفس القناعة. فرغم إصدار شيخ الإسلام أبو السعود أفندي بتحريم تناول القهوة التي يتم تحميصها إلى درجة الحرق، أخذ المدمنون على تناولها يتناولونها بتحميصها بدرجة أقل ،كما أنهم واجهوا فتاوى التحريم بفتاوى معارضة. في الوقت الذي كانت تصدر فيه الفتاوى بتحليل القهوة أو تحريمها لم يهتم أحد بإعلان السلطان سليمان القانوني عند قيامه بأداء فريضة الحج بأنها من المكروهات . ولم تقف التدابير القسرية ضد متعاطي القهوة عند حد التحريم ، بل أن السلطان مراد الرابع المعروف بصرامته أصدر عقوبة الإعدام ضدهم.
وعلى الرغم من قيام بعض المتصوفين في مصر المقاهي بتحريض من العالم الديني السنباطي ،إلا أن استعمال القهوة في مصر استمر في الانتشار. يقال أن أول من قام بتعريف القهوة في استانبول هو اوزدمير باشا والي الحبشة. ويقال أيضا أن أول من قام بافتتاح مقهى في استانبول شخصان سوريان وذلك في عام 1544 .حيث بدأ يمتلئ بالزبائن .
لم ينحصر تناول القهوة على المقاهي بل انتقلت إلى البيوتات الثرية،وأحدثت في القصور وظيفة جديدة هي رئيس القهاة .مهمته إعداد القهوة وتقديمها للضيوف. ويروى أن الاستهلاك الشهري من القهوة للصدر الأعظم العثماني (رئيس الوزراء) كان يبلغ 10 أوقيات (13 كغم)
انتشار القهوة في أوربا
لم يبد الغرب عام 1615 نفس الاهتمام الذي أبداه للقهوة في الوهلة الأولى نفس الاهتمام الذي أولته للتبغ الذي وصلها على أيدي تجار البندقية . ومثل كل المكيفات التي انتقلت من الشرق إلى العالم الجديد أصبحت القهوة تسلية للبيوتات الثرية وبيوت النخبة قبل شيوع استعماله من قبل العامة .
وكان تناول القهوة المرة لدى السفير العثماني في فينا عام 1663 يعتبر أمرا استثنائيا.كما أحرز السفير العثماني بباريس سليمان مصطفى آغا في هذا المجال ، ناجحا بز نجاحه كسفير.
وكان قد سبق السفير بعض التجار الأرمن في تعريف الباريسيين بالقهوة ،وقد قام أرمني يدعى باسكال بافتتاح أول مقهى في باريس عام 1670 .
كما قام أرمنيان بفتح مقهيين في فينا.وعندما حل القرن التاسع عشر كانت أوربا قد بدأت تدمن على القهوة.وكانت القهوة تصلها من مستعمراتها.خارج اليمن والحبشة، وقد قام الهولنديون بزراعة القهوة في جاوة، واعتبارا من 1712 وفي 1730 بدأت زراعتها في أمريكا الجنوبية.
عندما بدأ الأوربيون بزراعة القهوة في مستعمراتها ،لم يكن تناول القهوة قد شاع على الصعيد الشعبي.
ففي عام 1712 حينما يقترح أحد القضاة البريطانيين من متهم محكوم عليه بالإعدام أن يشرب فنجانا من القهوة قبل تنفيذ الحكم به ،يرد المتهم ": لست معتادا على تناولها.أفضل قطعة خبز مع كاس من النبيذ "
لم تضيع أوربا وقتا في مناقشة تحريم أو تحليل القهوة بل بدأت بتجارة مربحة في تصديرها . حيث بلغ الاستهلاك السنوي للقهوة في الإمبراطورية العثمانية في القرن السابع عشر 5 آلاف طن.
المقاهي
رغم الفتاوى والانتقادات الاأن المقاهي التي كانت بؤرا للفحش والشذوذ ومدمني الحشيش والأفيون والمقامرين استمرت في نشاطاتها دائما وفي كل العهود ماعدا في عهد السلطان مراد الرابع الذي ألغى تنظيم الجيش الانكشاري، وقترة زمنية قصيرة في عهد السلطان محمود الثاني.
افتتح أول مقهى في استانبول عام 1544 من قبل حكم الحلبي وشمس الشامي.وكسبا من وراء ذلك ثروة طائلة. لم ترق المقاهي للمتصوفة رغم ارتفاع عددها في 1570 في استانبول إلى أكثر من ستمائة مقهى.
آداب المقاهي
رغم الدعايات المستمرة للصوفية ضد المقاهي إلا أنها ازدادت انتشارا إلى درجة أن بعض الأعيان والوزراء بدؤوا بإقامة المقاهي .وبهدف جلب أكبر عدد من الزبائن بدأت بعض المقاهي بتقديم فاصل من الموسيقى.وقد ساهمت المقاهي في ارتياد العامة لها إلي جانب النخبة المثقفة .وبطبيعة الحال كان من غير المسموح فيها بلع الأفيون أو تناول الحشيش ،إلا أن المستلزمات الخاصة باحتياجات المدمنين كانت متوفرة في أغلب المقاهي .
وفي القرن السابع عشر ظهر ضيف جديد للمدمنين إلا وهو التبغ والنارجيلة وذلك في بدايات القرن السابع عشر.كانت اغلب المقاهي تضم في وسطها نافورة.وكان الزبائن يطالعون الصحف أو يلعبون النرد.كما أصبحت المقاهي مكانا لحكائيين والمطربين.وكان من آداب الجلوس في المقهى أن يدفع من يسبق زملاءه في الحضور، الحساب ،وكان يكفي أن يقول (جابا ) حتى يعرف النادل أن حساب هؤلاء مدفوع سلفا . فيما بعد ذلك تطورت المقاهي حسب حرف الزبائن ورغباتهم .وكان السياسيين أكثر قلقا من المتصوفة من انتشار المقاهي لأنها كانت تساهم في تجمع العامة وتبادلهم للآراء والأفكار في شتى المواضيع.
مقاهي الحشاشين
كانت مقاهي الحشاشين مختلفة عن البقية لأنها كانت في الظاهر تبدو وكأنها تكايا للمتصوفة.وكانت المقاهي التي فتحت في بادئ الأمر للإنكشارية بمثابة أوكار للحشاشين.
ثم بدأت بالانتشار في المناطق المنزوية من استانبول.وكانت هذه المقاهي التي بوجود حوض في وسطها مرتبطة بالطقوس الخاصة بالطريقة البكتاشية ،وكانت صور الحاج بكتاش ولي معلقة في جدران معظمها.وكان كل مقهى يضم سبعة من شيوخ هذا المذهب يسمى كل واحد منهم بـ ( ده ده) وكان الحشيش يقدم لهم أولا داخل قرع .وكان يضع الحشيش مع جمرة داخل القرع حيث يشرب منه (الأسطة) نفسا ثم يقدمها الى الـ ( ده ده) بالدور حسب أقدميته في الطريقة البكتاشية . وبعده يقدم القرع إلى الزبون الذي أوصى به .وكان زبائن هذه المقاهي صنفين (قلندر) وهو الزبون الدائم و(إخوان) وهم الزبائن الذين كانوا يحضرون بين فترة وأخرى.
كانت القهوة تزيد من هيام الحشاش حيث يبلغ ذروة نشوته بتناول القهوة المحلية بالسكر ،وقد أحتل الشاي فيما بعد مكان القهوة بعد انتشار استعماله.ومن الأمور المرافقة لمقاهي الحشاشين وجود محلات لبيع البقلاوة والحلويات بالقرب منها ، والتي تعتبر ضرورية لأي مدمن ،لأنها تزيد حالات النشوة .
وثمة مقاهي أخرى للمدمنين على الأفيون ،وكانت معظم المقاهي باستثناء فترة إغلاق السلطان مراد الرابع للمقاهي، تقدم لزبائنها الأفيون بفناجين خاصة قبل القهوة العادية .
لكن ذلك لم يمنع من انتشار مقاه خاصة لمدمني الأفيون،وعلى سبيل المثال كان هناك 35 مقهى من هذا الطراز في منطقة (السليمانية) باستانبول في أواخر القرن التاسع عشر.وكانت هذه المقاهي مثل مقاه الحشاشين تقع في مناطق منعزلة ،بعيدة عن الضوضاء والصخب.ومن أشهر الحشاشين الترك (نيزن توفيق ـ توفيق الناياتي) وهو في نفس الوقت شاعر هجائي من الطراز الأول.قضى عمره في الحانات ومقاهي الحشاشين .وكان رواد هذه المقاهي يتفاءلون به ،ويلبون احتياجاته التي هي على العموم الخمرة والحشيش.وكانوا يعتبرونه وليا لهم .وكان صاحب أحد تلك المقاهي قد أقام غرفة لإقامته ومبيته في مقهاه .ويقال عن هذا الشاعر الذي توفي في 1953 أنه تناول قبل أن يبلغ الخامسة والثلاثين ما مقداره 1868 أوقية من الخمر وما مقداره 3 ـ 4 طن من الحشيش .
وكان أغلب المدمنون يعانون في شهر رمضان لذلك كانوا يبتلعون قطعا من الأفيون الملفوفة بأوراق بكميات كبيرة منه عند السحور ،بعد مرور فترة من الوقت وذوبان الورق الذي يغلف الأفيون في المعدة ،كانت النشوة تجتاح المدمن ،ويستمر تأثيره طوال اليوم ،وبذلك لم يكن المدمن يعاني إلا من حاجته الماسة إلى قهوة شديدة الحلاوة لذلك لم يكن أمامه آنذاك إلا انتظار موعد الإفطار .
رحلة الشاي عبر التاريخ
ليس ثمة ألذ من شاينا
فهو في لون شفاه الحبيبة
اسم الشاي،مشتق من كلمة ch الصينية .وحسب إحدى الأساطير يرجع ظهور الشاي في الصين إلى 2700 ق.م. ويذكر بأن الفيلسوف الصيني كونفوشيوس الذي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد قد أوصى الصينيين بزراعة الشاي وتناوله،لذلك كانت صورة كونفوشيوس تزين حتى الأمس القريب علب الشاي المصدرة من فرموزا.
إلا أن رائد الشاي الحقيقي هو الراهب البوذي (لووه) الذي عاش في القرن الثامن.حيث أعد كتابا بهذا الخصوص سماه (مائدة الشاي) .وكان هذا الراهب إمام تجار الشاي حتى قيام الثورة الشيوعية في الصين.حيث بدأ العامة في مرحلة (لووه) بتناول الشاي كمشروب مكيف،بعد أن كانوا يتعاطونه سابقا كدواء وأحيانا كغذاء.وكما كان المتصوفة المسلمين يلجاؤون إلى القهوة لابقاء أذهانهم متوقدة ،فعل البوذيون الشيء نفسه مع الشاي.
رحلة الشاي الى الغرب
انتقل الشاي في نفس القرن الى اليابان ،وبلغت طقوسه ذروته.إلا أن هجمات المغول والمنشوريين قضت على تطور ثقافة الشاي في الصين.
يعتبر غلي الشاي أول شكل من أشكال تحضيره.،وحينما كانت أوراقه تتحول إلى ما يشبه العجينة كان يضاف إليه الرز والزنجبيل وقشر البرتقال،كما كان يغلى وتضاف إليه البهارات والحليب والبصل . وقد استمر هذا الشكل البدائي لتحضيره إلى وقت متأخر في (التبت). وحسب الطقوس الروسية أضيف إلى الشاي قشر الليمون.إلا أن الشكل السائد لتحضير الشاي هو غليه والذي يعود إلى الراهب (مينغ).وفي نهاية المرحلة التي عاش فيها هذا الراهب، تعرفت أوربا على الشاي في بداية القرن السابع عشر.ويعود فضل ذلك إلى التجارالهولندين .
وصل الشاي إلى فرنسا في 1636، والى بريطانيا في 1656 .وكان السفير الصيني في موسكو يحرص منذ 1613 إلى إهداء الشاي إلى المسؤولين الروس .رغم ذلك ظل الأرستقراطيون يتناولون الشاي حتى نهاية القرن السابع عشر في المقاهي كدواء.
أما العرب فكانوا يعرفون الشاي اعتبارا من القرن التاسع.وحسب بعض المصادر فان الترك كانوا يعرفون الشاي قبل اعتناقهم الإسلام.إلا أن الشاي لم ينتشر في الأناضول إلا في القرن التاسع عشر.وقد كتب الحاج محمد عارف أفندي والي مدينة بورصة في 1877 كتابا بعنوان (رسالة الشاي ـ جاي رساله سي) تحدث فيه عن تناوله الشاي لمدة ثلاثين عاما ،مشيرا إلى منافعه وفوائده .
وفي القرن الثامن الميلادي يصف الشاعر الصيني (لوتونغ) المشاعر التي تنتاب شارب الشاي مع كل قدح يتناوله :
القدح الأول
يبلل شفتي وبلعومي
القدح الثاني
يحررني من الوحدة
القدح الثالث
يجتاح الأعماق ويوقد المشاعر
القدح الرابع
يمنحني وترا للانطلاق
القدح الخامس
يحررني من سيئاتي
القدح السادس
يقودني نحو ضفاف الأبدية
القدح السابع
آه منه آه لا تسقوني إياه
فهو يملأ الأشرعة بالرياح
دعوني فهذه النسائم
تكفي لتقودني إلى هناك
رغم أن الصينيين عرفوا الشاي منذ آلاف السنين، إلا انهم لا يحتلون ، درجة متقدمة في استهلاكه بل أن الدول العربية عامة تتفوق عليها، وتحتل المقدمة في ذلك كل من : العراق،قطر،الكويت .وبالتالي يجب عدم إهمال اهتمام الإنكليز المفرط بالشاي وساعات تناوله .
الگاردينيا: كل الشكر للأستاذالقدير/ نصرت مردان على هذه الكتابات الثمينة...
الگاردينيا تتشرف بوجودكم.. رعاكم الباري .. ننتظر جديدكم..
1112 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع