هكذا مرت الأيام - ايام بغداد الاولى
بلقيس شرارة
كانت الحلة آخر مدينة نعيش فيها، قبل أن يستقر والدي في العاصمة بغداد عام 1944. فقد عُين مدرساً في دار المعلمين الريفية في الرستمية.
قضيت الصف الخامس و السادس الإبتدائي في مدرسة الإبتدائية في الرستمية. و كانت هدية النجاح من الصف السادس الابتدائي، و انتقالي إلى مرحلة دراسية جديدة، ساعة ذات إطار ذهبي بعقارب سوداء، كانت أجمل هدية تسلمتها في حياتي آنذاك.
شعرت بالفخر عندما وضعها والدي حول معصمي، و نظرتُ إلى الوقت من خلال عقاربها المتحركة. فقد تعلمت قراءة الساعة عندما تعلمت جدول الضرب في الصف الثاني الابتدائي، كنت أمد رأسي و أقرأ ساعة عمي، و أحسب الوقت. و لكن لم تكن الثواني أو الدقائق تعني شيئاً لي، بل ارتبط الوقت بشروق الشمس و غروبها، و وجبات الطعام! فالفطور يعلن بداية النهار و العشاء نهايته. و يتلاشى الوقت في العطلة الصيفية و تتوقف عجلة الزمن عن الدوران.
انتقلت من مرحلة الدراسة الابتدائية إلى مرحلة المتوسطة، حين كنا نسكن في الرستمية. بدأت مرحلة جديدة في حياتي، و أصبحت أرافق شقيقتي مريم برحلتها اليومية الشاقة إلى مدرسة الثانوية المركزية، في بغداد. أتعبني و أرهقني السفر اليومي بين الرستمية و بغداد. كان الباص يقطع يومياً طريقاً طينياً غير مُزْفت، مليئاً بالحفر و المطبات، يغطس أحياناً في الوحل، فينزل الرجال لدفع السيارة و إخراجها من الوحل. كانت عملية شاقة مرهقة، يشترك بدفعها أحياناً، معظم الموظفين و المدرسين في المدرسة، فيتناثر الوحل على ملابسهم. في الشتاء، و يكسوهم الغبار في الصيف.
كنا نستيقظ – مريم و أنا - في الساعة الخامسة صباحا، نترك الدار في عتمة الليل في الشتاء، في الساعة السادسة صباحاً، لكي يستطيع السائق أن يجلب المدرسين الذين لا يقطنون في الرستمية، فنصل الساعة السابعة و ندخل المدرسة مع الفراشين و الفراشات، و ننتظر ساعة و نصف حتى يبدأ الدوام. و دوام المدرسة ينتهي في الرابعة عصراً. كنا ننتظر أحياناً ساعتين في المدرسة، و نخرج منها مع الفراشين بعد أن ينتهوا من التنظيف، لنأخذ الباص الخاص الذي يذهب إلى الرستمية، و نصل الدار مرهقتين و متعبتين. كنت لا أستطيع أن أركز على الدروس المدرسية لشدة تعبي، أحس بحاجة ماسة إلى النوم الذي افتقده دائماً.
السيدة مائدة الحيدري ،الأولى من اليسار
كانت مديرة مدرستنا السيدة مائدة الحيدري، تنحدر من عائلة عريقة الأصل، تتقن عدة لغات بما في ذلك اللغة التركية. لها صالون يحضره الكثير من الشخصيات السياسية و الثقافية و الفنية. و قد ترأست الوفد العراقي عام 1946 لحضور المؤتمر العالمي للمرأة في الأمم المتحدة. تميزت بطلعتها البهية، و وجهها مستدير وردي، تنفرج شفتيها عن صفين متراصين من الأسنان البيضاء، و شعر أحمر اللون، يتموج و تتغير ألوانه من الفاتح إلى الغامق بتغير نور النهار. جسمها أبيض بض ناصع كبياض الحليب، تنتشر بقع النمش الخفيفة على معصميها البضين. أنيقة المظهر، ترتدي آخر تقليعات الموضة، و لا ترتدي العباءة و إنما كانت "سفوراً". كانت الست مائدة يومذاك تمثل فئة صغيرة من نخبة في المجتمع العراقي التي بدأت تظهر و تشق طريقها في المجمتع.
كان الانتقال من المدرسة الابتدائية المختلطة في الرستمية إلى الثانوية المركزية حدثاً هاماً، يُشعر الطالب بالهيبة و الرهبة التي لا يمكن تفاديها. إذ أنها أقدم متوسطة و ثانوية فتحت للبنات في بغداد عام 1930، كان من يحظى بالدراسة فيها، كمن يتأهب لدخول الجامعة. فلها هيبة من حيث تاريخها و مستواها العلمي و الأدبي. و كانت معظم طالبات المدرسة، من العائلات البغدادية المعروفة، بنات وزراء و مدراء في الدولة، و حكام و قضاة و تجار كبار.
* * *
حي الأعظمية - بغداد
أعدتُ السنة الأولى في ثانوية الأعظمية للبنات، كانت المديرة حسيبة الشيخ داود، امرأة ضخمة الحجم نقيض الست مائدة الحيدري، تدخل المدرسة ملتفة بالعباءة المفتوحة من الأمام، فنشاهد خصل شعرها و ملابسها الملونة. تتوقف الطالبات عن اللعب أو الحديث، و يعم الصمت للحظات أو دقائق أحيانا، تسير بخطى وئيدة، تحمل حقيبتها فرّاّشة/ مساعدة، تقف أحياناً متأملة حديقة المدرسة، تدور بعينيها شمالاً و يميناً، يرتفع صوتها مؤنبة البستاني على إهماله الحديقة، إن شاهدت زهرة ذابلة لآوية عنقها أو عشب أصفر اللون، ثم تتجه نحو الدرج المؤدي إلى مجاز المدرسة، تسير متجهة نحو غرفتها حتى تغيب نهائياً عن أنظارنا، فتدب الحركة ثانية في المدرسة، و يذوب الصمت و ترتفع أصوات الطالبات و ضحكاتهن فتختلط بدقات الجرس المتتالية المعلنة عن بدء الدرس. نصطف عندئذ، و يتجه كل صف إلى القاعات المخصصة لصفوفهن.
كانت الفتيات بأعمار متفاوتة، و لذا قُسم الصف الأول إلى ثلاثة شُعب حسب الطول و ليس حسب العمر أو التفوق في درجات الإمتحانات. كانت شعبة جيم من نصيب الطالبات اللواتي كن أكبر سناً منا، و تخلصن بذلك من التنصت على الأحاديث التي كانت تدور بينهن، حيث يتمازحن فيما بينهن عن الزواج و الجنس الغالب على أحاديثهن!
معظم الدروس العلمية أختص بتدريسها مدرسات يهوديات، جميلات أنيقات بمظهرهن. و اختفت ذات يوم فجأة مدرسة الرياضيات، كنا نجهل في البداية سبب تغيبها عن المدرسة، و لكن علمنا بعد مدة أنها هاجرت إلى فلسطين، فقد بدأت الجالية اليهودية بترك العراق تدريجياً، و منذ ذلك الحين أرتبط اختفاء المدرسات المفاجئ بالهجرة إلى فلسطين التي استمرت بعد تأسيس دولة إسرائيل، و حل محلهن مدرسين من الشباب. إذ لم يكن هنالك كادر يكفي من خريجات الجامعة لسد الثغرة التي أحدثتها هجرة المدرسات اليهوديات.
كان أستاذ الرياضيات الذي شغل الفراغ و انتدب لإلقاء المحاضرات، شاباً جميل الطلعة، بعينين واسعتين و وجه أبيض يميل إلى الحمرة، يضع منديلاً في جيبه الأعلى، يغيره حسب لون القميص الذي يرتديه. أصبحت الطالبات ينتظرن بفارغ الصبر درس الرياضيات، يتأملن بإمعان أناقة أستاذهن، حيث كن يحلمن بعريس يشبه أستاذ الرياضيات! لم يكن الأستاذ على الملاك الدائم و إنما كان محاضراً، لذا كان يختصر عدد الحصص التي يلقيها علينا بجمع شعبتين بدلاً من شعبة واحدة في الصف، و كانت تلك فرصة فريدة لنا، نستمع إلى تعليقات الطالبات في شعبة (جيم) اللواتي يكبرننا عمراً. فقد خلب أستاذ الرياضيات حواسهن، بأناقته و بهاء طلعته و حسن سلوكه، فيتجرأن أحياناً في رفع أصواتهن بمديح لون منديله أو العطر الذي استعمله في الحلاقة. كان يتجاهل المديح و يتغاضى دائماً عنه! خابت آمالهن ذات يوم عندما اكتشفن أنه متزوج و أب لطفل! فانهارت الأحلام التي بنوها في مخيلتهن، و جرفها الواقع المرّ الذي أعادهن إلى حقيقة مجتمعهن القاسي المحافظ.
الطالبات في غالبيتهن كن من الطبقة الوسطى و فوق الوسطى، في حين لم يكن بيننا طالبات دون الطبقة الوسطى أو بنات من الريف، إذ لم يكن يسمح لهن بالدراسة من قبل أهاليهن آنذاك.
كانت مدرستي اللغة العربية لبية القيسي و الشاعرة عاتكة وهبي الخزرجي، تجلسان مع مجموعة من المدرسات في الحديقة يتحدثن فيما بينهن، نراقبهن عن بعد، و لا نتقرب منهن، نصغي عن بعد إلى أحاديثهن و ضحكاتهن، و نعجب بآخر تقاليع موضة الشعر و الملابس، حيث أصبحن نماذج نحتذي بهن.
كانت الشاعرة عاتكة تجلس بمفردها أحياناً تحت الأشجار على عشب الحديقة أثناء الفرصة بين الحصص، شاردة بعينيها الواسعتين السوداوين نحو الأفق، فترتفع ضحكات الطالبات الشيطانية، مرددات الجملة نفسها: «يبين الست عاتكة ده تنظم قصيدة، أو جايها الإلهام!». لم تكن الشاعرة عاتكة من المجددات بالشعر، و لم تتفرد و تبرز في القصائد التي نظمتها آنذاك كقريناتها نازك الملائكة أو لميعة عباس عمارة، و إنما سارت على النهج القديم في نظم الشعر المقفى ذا طابع موسيقى جيد، يتسم بالطابع القصصي أحياناً و نغمة ذاتية.
كانت اسعد اللحظات لنا خلال الفرصة بين الحصتين، عندما ينادي بائع «العمبة/ المانكو» المتجول عن بضاعته بأعلى صوته، نسمع مناداته عبر الجدار المرتفع الذي يفصل حديقة المدرسة عن الشارع. فنهرع نحو جدار الحديقة الخلفي، نجمع المبلغ الذي نحتاج إليه، و نختار أصغر الفتيات حجماً، نرفعها على أكتافنا، تتسلم لفات العمبة، نوزعها بيننا، ثم نجلس على عشب الحديقة، و نبدأ بأكل اللفة بلذة و متعة! تسيل بلونها الأصفر على الشفاه الوردية، نمصها بشغف، و نلوك اللقمة ببطء، نتلمظ حرارتها بين اللسان و سقف الفم، قبل أن نبلعها. كنت أعود للدار بلا شهية، و أتجه نحو المغسلة قبل أن أجلس لتناول الطعام، كان لوالدتي حس غريب «للعمبة»! ربما لأنها لم تذقها في حياتها! و كنت أفشل دائماً في محاولة إيجاد الأعذار، أنكر بإصرار، أحاول أن أجيبها و شفتيّ نصف مطبقتين، و لكن كانت رائحة «العمبة» تفوح حتى من مسامات جسدي فتفضحني! ظلت والدتي تتعجب و تستغرب من حبنا لأكل لفة «العمبة»! فلم تحاول أن تتذوق طعمها و لو مرة واحدة في حياتها، لأنها كانت لا تستسيغ أكل التوابل الحارة في الطعام.
* * *
كانت والدتي تذهب بصحبة أم نزار زوجة الاستاذ حسين مروة لزيارة الإمام موسى الكاظم ، كنا نرافقهن أحياناً. لم نكن نفقه شيئا عن الطقوس الدينية التي تقام في الحضرة لصغر سننا، و لكننا كنا نفرح بمرافقتهما، إذ كانت حتى زيارة العتبات المقدسة نوعاً من النزهة لنا. و بذلك يشعر الفرد أنه جزء من الجماعة، و ليس وحيداً في هذا الكون، و هو زائل.
كانت ساحة الحضرة واسعة، بأربعة مداخل، يرتبط كل مدخل منها بسوق أو حي من أحياء الكاظمية. تمتلئ الساحة أو «صحن الحضرة» عصر كل يوم بالنسوة، اللواتي يسحبن خلفهن عدد من الأطفال، يفتشن عن زاوية مناسبة يجلسن بها. يفترشن الحصير، يتحدثن و يوزعن الطعام و الفاكهة، يشربن الماء من النادل الجوال «السّقى»، الذي يحمل جّرة كبيرة من الماء البارد مع سلسلة من كاسات من الِصفر، و قبل أن يملأ الطاس يحركه ببعضه البعض بشكل فني، متسق النغم، و هو يسكب الماء لأحد من الناس العطاشى. كانت النسوة المتلفعات بعباءتهن تتحدثن مع بعضهن و تعقدن الصداقات أحياناً، بينما يسرح الصبية يلعبون في ساحة الصحن الكبير. كانت هذه اللقاءات نوعاً من الشعور براحة نفسية، فعالمهن محدود جداً. و الغالبية من النسوة لا يذهبن إلى السينما و لا يتمتعن بأي نوع من التسلية في حياتهن يجدن ملاذهن في الذهاب إلى هذه الزيارة. يجمعن فيها بين الثواب و الراحة الإيمانية، و التفريج عن كربهن بما يعوضه لهن من تسلية بريئة.
كنا نمسك بذيل عباءة والدتي، عندما يكون الصحن مزدحماً بالناس، خاصة أيام الخميس. تدخل والدتي إلى داخل الضريح، و تقف خلف« إمامي» يصلي بجماعة من الناس، بعد أن ينتهي من الصلاة، يلتفت عليها، فتعطيه مبلغاً من المال، ثم ندور حول الضريح، تنساب دموع بعض النسوة و هن يربطن شرائط خضراء اللون بالضريح، متمتمات بكلمات مبهمة غير مفهومة، طالبات «المراد» أمام قفص الإمام، يبكين بحرقة بكاءً خافتاً! لم أكن أدرك ما تعنيه هذه الطقوس، لكني كنت استغرب بوعي الطفولي من جسم مسجى، مات منذ مئات السنين قادر على تنفيذ طلبات و رغبات النسوة اليائسات و المتضرعات إليه، اللواتي بنين آمالهن على الغيب و الابتهال!
إذ نشأتُ في بيت يهيمن على أجوائه التفاؤل و الفرح، و كنت أتفادى الأجواء الكئيبة، فأحاول الابتعاد عن البكاء و الابتهال، و أتسلى في عّد مصابيح الثريات الكبيرة المتدلية من السقف المطرزة بمئات القطع من المرايا الصغيرة المنعكسة في ألوان زجاج النوافذ الملون. كانت الجدران و الأرض من الرخام النفيس، نسير حفاة الأقدام احتراماً لمقام الضريح. يستلم «الكيشوان» أحذيتنا قبل أن ندخل عتبة باب الضريح، و كنت اندهش من قوة ذاكرة «الكيشوان» المحاط بجيش من الأحذية المصطفة أمامه، تظهر مدى الدقة و الذاكرة المدهشة التي يتحلى بهما، إذ كان يجلب أحذيتنا بمجرد أن نخرج من الباب. نصل الدار، و يبدأ غسل الأقدام من الأتربة التي علقت بها.
كانت والدتي ترتاح لتلك الزيارات، وكأن هّم قد أزيح عن كاهلها، فتشعر بالطمأنينة تسري في عروقها و تظهر البهجة على قسمات وجهها! فالإيمان يساعدها على تحمل صعوبات الحياة و رتابتها و عبثيتها، و العيش خارج الواقع، يدفعها أن تستند إلى أوهام غيبية قد لا تنسجم مع صحيح الدين و الإيمان. فهنالك تناقض بين رؤية والدي العلمانية من الوجود و بين موقف والدتي من الوجود، الذي يعتمد بالأساس على الإيمان و أداء الطقوس الدينية.
عن كتاب (هكذا مرت الأيام)
1719 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع