عناية جابر
في أوروبا الآن انتخابات ونتائج مهمة جدا تفيدنا ربما في فهمنا للثقافة الديمقراطية. فعندما قام البعض بوشم التحركات الشعبية التي قامت في بلادنا خلال السنوات الأخيرة بوشم الديمقراطية اعترض البعض الآخر مشيراً الى استحالة ذلك قبل تثقيف الناس بها.
فهي مناخ ثقافي قبل أي شيء آخر، كما قيل. كما أشار غيرهم إلى أنه من الصعوبة بمكان أن تطرح الناس على نفسها مسألة القيام بمهمة لم تستعد لها جيدا بعدُ. قيل ذلك في ظروف الانتفاضات الأولى بحيث بدت الثقافة الديمقراطية شرطاً لا بد من توافره للعبور من الاستبداد إلى الديمقراطية.
اليوم وبعد مرور ثلاث سنوات ونيف على بدء الحراك العربي، اتضح، على الأقل، أن ما جرى لا يتعدى القلاقل ولا يشبه ما حلم به الحالمون. غياب الثقافة الديمقراطية هي السبب بحسب البعض، سرقة الثورة هي العلّة بالنسبة للبعض الآخر. لكن لنحاول أن نلقي نظرة على تجارب الشعوب، المشبعة بهذه الثقافة، والتي لم تكتفِ بالمعرفة فيها بل هي تمارسها منذ أكثر من قرنين. ففي سياق الإنتخابات التي تجري في بلاد توصف بأنها أم الديمقراطية بالعالم لوحظ ميل ثابت، منذ سنوات وحتى عقود، نحو تراجع المشاركة الشعبية في العمليات الإنتخابية. فنسبة الممتنعين عن المشاركة راحت تتراوح بحسب الفترات ونوعية الإقتراع بين 30 إلى 60 بالمئة من الذين يحق لهم التصويت.
إذن وبالرغم من تشبع الناس بالثقافة الديمقراطية، يمتنع أقل من الثلثين قليلا، حوالي الـ 60 بالمئة، من المواطنين عن ممارسة حقهم بالإدلاء بوجهة نظرهم في المشاريع المقترحة لإدارة شؤونهم العامة وحياتهم اليومية. من جهة أخرى لوحظ أيضاً ظاهرة انتخابية، متصلة بالأولى أغلب الظن، وتتمثل بالتصويت السلبي أو الإعتراضي وذلك عبر قيام المواطن بالتصويت لطرف لا يؤيده بل يريد من خلاله تسجيل اعتراض على الطرف الذي يؤيد فعلاً. نوعٌ من التصويت العقابي، أو تصويت النكاية إذا صح التعبير.
فإذا أضفنا هؤلاء إلى الممتنعين نصل إلى نتيجة مفادها أن النسبة التي تقرر حياة البشر في هذه الديمقراطيات لا تتعدى بأحسن الأحوال الـ 20 بالمئة من المواطنين وليس من السكان. فالمواطن هو الذي يعيش على الارض ويحمل جنسيتها ويتمتع بحقوق المشاركة بالانتخاب ترشيحا وانتخاباً. إنه مواطن الدولة – المدينة، أي صاحب الحق بتقرير الحياة العامة. لكن كلنا يعلم اليوم أن هناك جاليات أجنبية، تتراوح نسبتها بين 10 إلى 15 بالمئة من العدد الإجمالي للسكان، تعيش أيضا على أرض الديمقراطيات ولا تتمتع بحق المواطنة وإبداء الرأي بالحياة التي يشاركون بها على نحو سلبي بينما يتلقون نتائجها طيلة عمرهم كاملاً في أغلب الأحيان.
الخلاصة الأولية التي يمكن التوصل إليها من خلال هذا العرض أن الحكم في البلاد الديمقراطية العريقة يستند بالنتيجة العملية إلى أقلية ضئيلة بالتضاد مع فلسفة النظام الديمقراطي وقواعده التي تنص بالعكس على حكم الأكثرية، أكثرية المواطنين. ليس المقصود هنا التقليل من أهمية نظام تاريخي أثبت جدواه السياسية والإجتماعية والإقتصادية. لكن التوقف عند الجانب العملاني للديمقراطية نسبة للنظام النظري يبيّن افتراقات جوهرية تصل أحياناً إلى حد الإفتراق الفلسفي. إذ كيف يمكن التوفيق بين نظرية حكم الأكثرية وبين تحولها عمليا إلى حكم من قبل أقلية لا نعرف الكثير بالواقع عن تاريخ تشكلها وشروطه وتنوع بناها وأسباب توزعها شيعاً وأحزاباً.
الثقافة بالديمقراطية ليست إذا بذاتها ضمانة لممارسة صحيحة للفكرة. الممارسة تحتاج، على ما يظهر، من خلال الإحصاءات الثابتة، إلى عوامل أخرى غير الثقافة. هل هي الفعّالية ؟ هل تخلى الناس، المواطنون، أي اصحاب الحق، هل تخلّوا عن حقهم لقناعة لديهم بأن صوتهم لا نفع له ولا يساهم بأي تغيير في شروط حياتهم ؟ هل لهذا التخلي صلة ما بوجود نخب منظمة في مجتمع المواطنين تمارس نوعاً من الفرض والإكراه الإستبدادي المضمر ؟ هل تملك هذه النخبة أسباباً «مقنعة» لا تملكها جموع المواطنين فامتنعوا ؟ وأبعد من هذا وذاك هل يمكن اعتبار هذا الشكل الحديث من الديمقراطية مختلفاً عن الشكل الذي عرفته روما الامبراطورية واثينا اليونانية قبلها حيث كان تعريف المواطن أقل عمومية مما هو عليه الآن ؟ هذا مع العلم أن حكم الشعب بواسطة الشعب من قبل أكثرية المواطنين، جاء لكي يطيح بنظرية المواطن الروماني او اليوناني عندما كان يميز بين الفقراء والأغنياء، الأشراف والحقراء، بين الأرستقراطيين والتيرانيين أي الإستبداديين.
يقول البعض أن تعقد عملية ادارة المجتمعات الحديثة غلّب التقنية والمعرفة العلمية على الجانب السياسي مما أفقد بالواقع قدرة المواطن على الإختيار. ويعترض آخرون بالقول أن التحولات التي تجاوزت حدود الدول هي التي حرمت عملياّ الدولة – المدينة من حق القرار دون أن تمسّه بالشكل. فالشركات العابرة للقارات هي التي تقرر كل شيء بالنيابة عن الجميع.
على أي حال، ففي الإنتخابات الأوروبية التي جرت في بداية هذا الأسبوع ما يشي بهذه المشكلة. فقد قام المقترعون في بلدين عريقين بديمقراطيتهم هما فرنسا وبريطانيا، وبغياب الباقين، بالتصويت لصالح أكثرية سياسية لا تقبل بالمشروع الأوروبي وتريد العودة الى الدولة الوطنية السابقة. همّشت هذه الإنتخابات جميع الأحزاب التقليدية التي حكمت البلدين منذ عقود طويلة وأطلقت دينامية الخروج على الإتحاد الأوروبي. وهناك من يتحدث عن «بينغ بانغ» سياسية في هذين البلدين. بعيداً عن الثقافة كيف يمكن قراءة هكذا انقلاب في مزاج «المواطن» من دون الإنتباه إلى أنه لم يطل إلا البلدين الأوروبيين، فرنسا وبريطانيا، اللذين انتقلا بأقل من خمسين سنة من مرتبة الدولة العظمى إلى مرتبة الدولة الوسطى. فهل لذلك علاقة بنسبة المشاركين باللعبة الديمقراطية ؟
لا تزال الديمقراطية، حكم الشعب من قبل الشعب، مفهوما تاريخياً مرتبطاً بدرجة تطور الدولة أكثر من ارتباطه بالقناعات والثقافة والتربية. هذا ما تفيدنا به تجارب الشعوب «العريقة». بالماضي اليوناني تمثلت أولى النقلات نحو الديمقراطية بالإطاحة بالارستقراطية من قبل «المستبدين». وكان « التورانّوس» ( المستبد)، زعيم الشعب ومن أصول أرستقراطية ايضاً، هو من ساهم بتوسيع الإطار المجتمعي لمفهوم المواطن والشعب.
الفلسفة الديمقراطية تقوم بالتحليل الأخير على متابعة تطور مفاهيم المواطن والشعب والدولة – المدينة. فكلما اتسعت قاعدة من يحق له ان يكون مواطناً فرداً حرّاً اتجهنا نحو الشعب فالدولة. وكلما ضاق الرابط المواطني ووهن، ضَعٌفَ الشعب والدولة فالديمقراطية أيضاً. وبالرغم من ذلك اتضح من المثال الأوروبي الطويل، بامتناع الغالبية عن المشاركة، أنه إلى هذه الشروط ثمة شروط أخرى لا غنى عنها لكي يشارك الناس بإدارة حياتهم.
585 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع