د. علي محمد فخرو
إذا كانت الإنقسامات والصراعات المذهبية الطائفية، المغموسة بمخطّطات خارجية أمبريالية صهيونية لتفتيت وإنهاك المجتمعات العربية وبانتهازية سياسية داخلية وتخلف فقهي لدى بعض علماء الدين وبعض منابر الإعلام الديني، هي أخطر التحديات التي يواجهها المواطن العربي في أيامنا الحالية وهي من أكبر العوامل التي يمكن أن تحرف حراكات الربيع العربي وتشوهها، فان مواجهة الموضوع تحتاج أن تكون شاملة وعلى كل المستويات.
في مقالة الأسبوع الماضي ذكرنا بأن جسد تلك المذهبية الطائفية يجب أن تحصل تعريته وذلك تمهيدا لإطفاء حريقه الهائل. ولقد ذكرنا بأن أحد المداخل لعملية التعرية تلك هو تحليل وبعد تاريخ الصراعات المذهبية في ماضي الأمة العربية من أجل تبيان إنغماس ذلك التاريخ في السياسة وصراعات الملك والسلطان والغنائم. إن ذلك الجهد سيكون أول خطوة لإيجاد قطيعة معرفية فقهية، ولو جزئية، بين الماضي والحاضر من جهة ولمحاولة تجاوز ذلك الماضي من خلال عملية النقد والتحليل التي بدورها ستسقط كل ما أفسد الفقه وكل من أفسد الفقه عبر العصورالماضية.
وبينا في ذلك المقال أن من أفضل الجهات التي يمكن أن تقوم بتلك المهمّة تجُّمع من علماء الفقه الذين ينتمون الى جميع أو غالبية المذاهب الفقهية الإسلامية ويمارسون مهمّتهم باستقلالية وحرية عن جميع جهات الهيمنة السياسية والمذهبية.
لكنّ مدخل تحليل ونقد وتعرية التاريخ لن يكون كافيا. ستحتاج الجهة التي ستقوم بذلك إلى الإجابة على العديد من الأسئلة وإلى مجابهة بعض الإشكاليات المعاصرة إن أرادت أن تخلص الجيل العربي الحالي من الدخول في لعبة الصّراعات المذهبية الطائفية العبثية التي يراد للأمة الدخول بها.
هناك مثلا سؤال يلحُ على الكثيرين في الصورة التالية : هل أنه من الضروري أن ينتمي كلُ مسلم لمذهب معين بحيث يلتزم باتباع مفاهيم ذلك المذهب وتفاسيره للقرآن الكريم والسنة النبوية، وبالتالي الالتزام بتوجيهاته ونواهيه، أم أن المسلم يستطيع أن يأخذ من كل المذاهب وكل المدارس الفقهية ما يراه مقبولا دينيا وعقليا وملائما للواقع الذي يعيشه؟ قد يبدو السؤال أكاديميا نظريا ولكنه مطروح من قبل البعض كمدخل لتغليب صفقه الإنتماء للدين بدلا من الانتماء لمذهب، وفي نفس الوقت فانه تسهيل وتيسير لاتباع دين نادى باليسر بدلا من العسر.
هناك مثلا سؤال آخر : لماذا لا تقوم مدرسة فقهية تجمع أفضل وأيسر ما في المذاهب كلِّها من جهة وتضيف إلى ذلك قراءات جديدة لمصادر الدين الأساسية. بحيث أن تأخذ تلك القراءة بعين الاعتبار حاجات العصر التى استجدّت لاتباع الدين الإسلامي؟ فاذا كان عظماء علماء الدين في الماضي قد أسَّسوا مدارس ومذاهب فقهية عديدة، اعتمادا على فهمهم وفهم عصرهم لمصدري الدين الإسلامي الرئيسيين، الوحي والسنّة النبوية، فلماذا لا يحقّ لأخيار علماء عصرنا أن يقوموا بنفس المحاولة، باجتهاد وتقوى وعقلانية صارمة، طالما أن كل دين يحتاج إلى تجديد قراءته عبر الأزمنة وعبر تغيُّر الأحوال؟
هناك مثلا سؤال ثالث: ألم يحن الوقت لحسم موضوع العلمانية، لغة ومفهوما وتطبيقات في الواقع، بدلا من إبقاء الموضوع عائما وغامضا وورقة في يد العابثين والمهرجين؟ فمن الناحية اللغوية هل نحن نرفض العلمانية (بفتح العين) أم العٍلمانية (بكسر العين) أم كليهما؟ وإذا كان الرفض لكليهما، فما البديل المقترح لغة ومضمونا؟ ذلك أن كلمة العلمانية قد أصبحت جزءا من ثقافة العصر العولمي وتحتاج إلى اتخاذ موقف وتقديم شرح.
ثم إن كلمة العلمانية لها تعاريف كثيرة، اعتمادا على تجارب تاريخ المجتمعات وعلى مدى تبنيها لأفكار الحداثة الغربية. وعليه فهل آن الأوان لمحاولة إيجاد تعريف خاص بنا وبظروفنا؟ تعريف يبين المحددات، أي ما هو مقبول وما هو مرفوض.إن تجمُّع علماء الفقه المستقل المشار إليه سابقا يستطيع أن يفتح أبواب مناقشات وحوارات مع بعض المفكرين وبعض علماء علوم الاجتماع المختلفة من أجل النّظر بعمق وموضوعية وعقلانية لإيجاد التعريف المطلوب.
إن هذا الموضوع بالغ التعقيد ولكن لا تستطيع هذه الأمة أن تبقي كل شيء معلقا كما فعلت مع الأسف مع كلمات أخرى كثيرة من مثل الحداثة والليبرالية والديموقراطية والحرية وغيرها. لكنه موضوع مرتبط أشد الإرتباط بحل إشكالية المذهبية الطائفية التي نتحدث عنها.
هذه بعض من أسئلة كثيرة، وهذا جانب من بين جوانب كثيرة. لكن خطورة المشهد الطائفي الحالي طرح الأسئلة والتفتيش عن مداخل لمواجهة هذا المشهد البغيض.
320 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع