التعليم الديني وتهمة الإرهاب

                                       


                       د .محمد عياش الكبيسي

ضمن حملة لا تخفى أهدافها يتعرّض التعليم الديني في بلادنا العربية والإسلامية لانتقادات حادّة بتهمة رعايته للمقولات والأفكار المؤسسة للسلوك (الإرهابي)،

وقد يكفي لدفع هذه التهمة النظر في مخرجات المؤسسات التعليمية الدينية فهي المقياس الأقرب إلى المصداقية والموضوعيّة، حيث إن قادة الجماعات المصنّفة على قائمة الإرهاب ليس لهم صلة بهذه المؤسسات، وأما الكوادر التنفيذية فهم أبعد ما يكونون عن التحصيل العلمي الديني والدنيوي، وغالب (الاستشهاديين) أو (الانتحاريين) هم من فئة الشباب الذين لم تتح لهم فرصة التعلّم، وهؤلاء يكونون أقرب
 للاندفاع العاطفي، وأيسر على أدوات التجنيد والتوظيف، وهؤلاء الشباب هم على خصام نكد مع طبقة العلماء والمفكرين، ولا أعلم في أيّ بلد عربي أو إسلامي أنه هنالك حالة من التصالح بين الطرفين، بل هناك مفارقة عجيبة أن العلماء والأئمة والخطباء يستطيعون أن يجدوا لهم موقعا في ظل الأنظمة الاستبدادية (العلمانية) والليبرالية الموالية للغرب أو للشرق، لكنهم لا يستطيعون أن يجدوا لهم مثل هذا الموقع في ظل هذه الجماعات (الإسلامية)!
إن المحصّلة النهائية لهذه المعادلة بغض النظر عن الخلاف في حيثياتها، أنك كلما اقتربت أكثر من بيئة العلم والعلماء ابتعدت أكثر عن بيئة العنف والإرهاب، والعكس صحيح أيضا، فكيف يسوغ بعد هذا لدعاة (مكافحة الإرهاب) أن يعملوا على (مكافحة العلماء) ومؤسساتهم العلمية والتربوية؟
لقد أصبح الإرهاب لدى البعض عنوانا فضفاضا يتسع لكل المخالفين في الرأي والفكر والسياسة والمواقف الكبيرة والصغيرة، حتى صرنا نخشى أن يدخل ذلك في الخلافات الزوجية وخصومات الجيران والشركاء، وهذا تسييس خاطئ وخطير من شأنه أن يدعم الإرهاب ويوسّع دائرته ويشتت الأنظار عن ملاحقة الإرهاب الفعلي الذي يهدّد أمن الناس ودينهم وحياتهم، وهناك حقيقة مؤسفة أن بعض العلمانيين والليبراليين العرب قد وجدها فرصة لتأليب الرأي العام محليا ودوليا ضد المشروع الإسلامي بكل واجهاته ولافتاته، وهم يعلمون قبل غيرهم أن الإرهاب (الديني) يستهدف العناوين
 الإسلامية قبل أن يستهدفهم، وأن الفريقين لن يكون لهما وجود في أيّ بقعة يتمكن منها الإرهاب.
إننا لا ننكر أن هناك إرهابا دينيا يستند إلى مقولات دينية خاطئة، كما أن هناك إرهابا لا دينيا يستند إلى مقولات (القومية) و (الوطنية) و (الهيمنة الاستعمارية) وغيرها، لكننا ننكر أن تكون هناك أية صلة بين ذلك الإرهاب وبين الإسلام والتعليم الإسلامي الأصيل، فالإرهاب بشكل عام والديني منه بشكل خاص لم يظهر في هذه الأمة إلا بعد تراجع التعليم الإسلامي، وشيوع حالة من البلبلة وضعف الثقة بالمؤسسات العلمية والتربوية الإسلامية، وهذه النقطة بالذات هي التي حدّدها رسولنا الكريم -صلى الله عليه وسلم- بدقّة وهو يحذّر أمّته مما وقعت فيه اليوم فقال:
 (يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤوسا جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلّوا وأضلّوا) رواه البخاري، والحديث يتكلم عن ناس متدينين يبحثون عن الفتوى والحل، لكنهم لا يجدون أهل العلم، فتظهر طبقة (الرؤوس الجهّال) وفي العبارة إشارة إلى أن هؤلاء لا يفتون فقط بل يترأسون ويقودون، وهذه اليوم ظاهرة عامة في كثير من الجماعات الدينيّة، و (الجهادية) منها بشكل أخص.
أذكر بداية الثمانينيات وفي مجلس عزاء كان رجل محام متديّن يحاور أحد المسؤولين، يقول له: إنكم اليوم تشهرون سيف الفساد بوجه الدين، وتعملون على إضعاف المدارس الدينية والتقليل من هيبتها في المجتمع، وهذه طريقة تخدمكم للتخلّص من (الرقابة الدينية الواعية)، لكنها لن تخدمكم على الأمد الطويل، فأنتم تؤسسون لفوضى (دينية) وفوضى (أخلاقية) وسوف ينشأ جيل لا يحترم عالما ولا يقدّر كبيرا ولا يسمع لأب ولا لأم، ولا يقيم اعتبارا لأية قيمة لا دينية ولا وطنية!
إن التعليم الديني اليوم ليس بريئا من التهمة تماما، لا باعتبار أنه يؤسّس للمقولات الإرهابية، بل لأنه ترك مساحة واسعة من الفراغ في ظل هيمنة التعليم الموجّه الذي تقوده الأنظمة الحاكمة، وهذا الفراغ قد انعكس في صورة المُخرَج الذي يخالط الناس فيسألونه عن الجهاد والسياسة والدولة والحكم والبيعة والعلاقات والجماعات فلا يجد الجواب، لأنه لم يقرأ مثل هذه المفردات في كل مراحله الدراسية! فهو عالِم ليس بعالِم، في حين أن الشباب الذين انخرطوا في الجماعات (السرّية) قد اضطرّتهم ظروفهم وأساليب عملهم للبحث عن هذه المفردات فيما تيسّر لديهم من
 رسائل ومحاضرات، وأصبح هذا شغلهم الشاغل، حتى أصبح لكل جماعة منهاجها ودستورها الخاص، وطريقتها الخاصّة أيضا في فهم الإسلام والتراث والتاريخ، ولأن هذا كله إنما يكون تحت الأرض فإنك تفاجأ كل يوم بغرائب الفتاوى والدعاوى والتطبيقات الشاذّة والمنحرفة، ولأن الناس يعيشون حالة فراغ فعلي ونقص في الحصانة الثقافية فإنهم سيختلفون أيضا ويتخاصمون فوق الأرض كما يتخاصم أولئك من تحتها.
إن إصلاح التعليم الديني يمثل حجر الزاوية الأساس في إصلاح المجتمع وحمايته من الأفكار المنحرفة ومخاطر الجماعات الإرهابية ونحوها، ذاك لأن مجتمعاتنا بطبيعتها مجتمعات متديّنة وهي تحبّ الدين وترى فيه طريقا لخلاصها في الدنيا والآخرة، وحينما لا تجد هذا الدين تحت الشمس وفي المؤسسات الواضحة والمكشوفة فإنها ستبحث عنه في السراديب والكهوف المظلمة.
إن أركان العملية التعليمية الأربعة (الطالب والمدرس والمنهج والإدارة) كلّها قد أصيبت بمقتل على يد السياسات التعليميّة المعاصرة، فالطالب لا يلجأ إلى الشريعة إلا إذا كان معدّله لا يسمح له بالعبور إلى الجامعات الأخرى، والمدرّس لا يمتلك الجرأة في ميدان البحث ولا في قاعة الدرس أن يتناول القضايا الساخنة المطروحة بقوة في محيطه، والمناهج في الغالب فقيرة وجامدة وعاجزة عن مواكبة الحياة والاستجابة للمتطلبات، وأما الإدارة فهي المكلّفة أساسا بتطبيق تلك السياسات، حتى أن المدارس والجامعات الأهلية (التجارية) تكون أكثر (ورعا) في هذا من
 الجامعات الحكومية، وعليه فنحن بحاجة إلى حلول جذرية ترقى إلى مستوى المسؤولية، وترفع من مكانة العلم والعلماء، وتعزز من ثقة المجتمع بهذه المؤسسات، وإلا فإننا سنتراجع أكثر مما نحن عليه الآن، وسنبحث عن شبابنا فلا نجدهم إلا في مواخير الرذيلة أو في كهوف الإرهاب.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

646 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع