هند السليمان
يقول إنجمار برجمان: «كمخرج، أفضِّل العمل مع المرأة، فهي لا تشعر بالعار من الوقوف أمام المرايا أو من تأمل جسدها كما الرجل»، ملاحظة مثيرة للاهتمام ومن الممكن تحليلها من منظار إشكالية الجسد لدى الجنسين، وكيف شكلت الأبعاد الثقافية والتاريخية والسيكيولوجية منظوراً للجسد يختلف باختلاف الجندر.
لن نغوص في الإنثروبولوجيا والتاريخ، ولكن سنتبع قاعدة سيكيولوجية تنص على مبدأ «هنا والآن»، ولننظر كيف يتعامل كل جنس مع جسده حالياً.
يضع المجتمع قواعد صارمة تتعلق بلباس المرأة، ويحدد لها فضاء خاصاً للتواجد باعتبار فتنة جسدها. لكن لنتوقف قليلاً عند هذه التهمة «فتنة». هل هي تهمة حقاً؟ وهل تأثيرها سلبي على الإطلاق؟ ألم يؤدي هذا إلى أن تصوغ المرأة علاقة مع جسدها مختلفة عن الرجل؟ ألم تسهم بمنح المرأة فضاء جديداً لم يكتشفه الرجل؟ ونقصد بالفضاء هنا الاحتفاء بالجسد. أليس الاحتفاء بالجسد هو في حقيقته احتفاء بالحياة، وإن كان بصوت خافت، أو هو احتفال على وجل وبخجل؟ نعم، هي تلبس العباءة أو الحجاب، ولكن تُخفي تحتها الألوان الزاهية كافة، تنتظر اللحظة المناسبة لتظهر. ليس فقط الألوان الزاهية في اللباس، بل تستطيع لبس الطويل والقصير وبين البين، كما تلبس الفستان والتنورة وحتى البنطلون، وهو ما كان امتيازاً للرجل. في المقابل المساحة الممنوحة للرجل في تنويع لباسه محدودة، فخيوط مطرزة أو أزرة ملونة على ثوب ناصع البياض عُد وقت ظهوره ثورة في الثوب السعودي، بل واتهم من يلبس هذا بالميوعة. فوق هذا تستطيع المرأة أن تعبث بالألوان على وجهها، فتضع الأحمر والأزرق والأسود، وإن أتقنت لعبة الألوان سيزيد وجهها جمالاً، ليس هذا فقط، هي تستطيع أن تسرق من الحيوانات بعض أعضائها لتتزين، فريشة طاووس تضعها على قبعتها أو فراء على كتفها لن يظهرها إلا كأنثى فاتنة. في المقابل وإلى وقت قريب كان يعاب على الرجال وضع كريمات ترطيب البشرة، فمن معايير الرجولة حينها خشونة الشكل. ولكن هل اختلف الأمر كثيراً الآن؟
لعلنا نتذكر جوي في المسلسل الأميركي الشهير «الأصدقاء»، والارتباك الذي تسببه استخدامه لحقيبة يد! نعم فحتى رجل نيويورك عليه أن يتفحص لباسه، حتى لا يتهم بالميوعة أو المثلية. فإن كانت تهمة الفتنة للمرأة تمنحها حق التزين، مع التأكيد على أن لهذه الزينة فضاءاتها الخاصة في بعض المجتمعات المحافظة، فإن تهمة الميوعة للرجل تمنع الرجل من هذا الحق على الإطلاق. ولعل هذا ما يصنع الفارق بين الجنسين في تعاملهم مع جسدهم؛ -أي- بين تخصيص أماكن للتعبير وبين منع كامل.
فمثلاً ألا يتهم كل رجل يمارس الرقص بالميوعة؟ باستثناء رقصة العرضة التي لا نشاهدها إلا في التلفزيون المحلي مرة في السنة وتقدم بشكل رسمي يفقدها حس الانفلات وتجاوز الجسد. ألا يؤدي هذا إلى قمع تلك الرغبة؟ وهي التعبير الجسدي رقصاً، في مقابل أن «فتنة» جسد الأنثى يمنحها مجالات متعددة لا تستنكر، بل تشجع رقصها وإن كان في أماكن مخصصة.
الأمر يتجاوز مفهوم الزينة إلى مفهوم الجسد، وكيفية تقيم الجسد جمالياً، سواءً من الذات أو الآخر. فمثلاً نجد معظم الصور الفنية التي تعرض وتتعامل مع الجسد الإنساني العاري هي صور لإناث. وحين نقرأ حول هذا الفن نجد تمجيداً لجمالية جسد الأنثى وفتنة انحناءته، بينما يُنظر إلى جسد الرجل باعتباره صارماً لا يعكس جمالاً أو امتداداً فنياً كما المرأة.
نعم أرسطو وبضعة آخرون قالوا: «إن جسد الرجل أكثر جمالاً»، ولكنهم الاستثناء هنا. حتى في الاختبارات النفسية عند عرض صور لأجساد نساء ورجال عرايا، صور النساء تتم إطالة النظر إليها أكثر من الرجال، حتى من النساء غير المثليات. ولعل تفسير هذا يعود إلى ما استبطناه من أن جسد الأنثى جميل، ومن ثم فإننا نتمعن في هذا الجمال، في مقابل جسد ممل وصارم للرجل، لا يستحق إطالة الوقت بالنظر إليه.
ومن هنا، فإن السؤال ومن وجهة نظر سيكيولوجية: ما انعكاسات هذا على الرجل والمرأة والعلاقة بينهما؟ حين لا يرى الرجل في جسده جمالاً.. كيف سيؤثر هذا في أدائه في العلاقة الجنسية مع المرأة؟ حين يتصور أنه جسد بلا جماليات فنية، وفي المقابل هو يتناول جسداً يختزل الجمال، ألا يؤدي هذا إلى أن تتحول العلاقة إلى افتراس ومحاولة لتملك والسيطرة، بدل تناغم يمارس على المستوى نفسه من الجمالية؟ ومن هنا، فحين تقوم علاقة جنسية أحدهما يشعر بجمالية وفتنة جسده، والآخر يشعر بالحرج من التعبير عن هذه الجمالية، أو لا يرى جمالية أصلاً، يصبح السؤال عن درجة الرضا عند الطرفين؟ وقد نشطح قليلاً لنقول: هل يعود سبب ارتفاع نسبة الخيانة عند الرجل مقارنة بالمرأة؛ لأن الرجل لم يتعلم كيف يحتفي بجسده؟ -أي- أن الرجل حين يخون فهو يفعل هذا بسبب إشكالية يعيشها هو مع جسده لا إشكالية مع جسد شريكته (المرأة)؟ فجسده مقموع عن الفتنة شعوراً وتعبيراً، ولهذا هو يحاول الحصول على «الفتنة» عبر تعدد للعلاقات مع نساء يمتلكن «الفتنة» التي يفتقر إليها ولا يعلم عنها.
أمر أخير، التماثيل الفنية -وعلى رغم صرامتها وثباتها- تمنحك شكلاً مختلفاً، باختلاف الزاوية التي تنظر منها، وهذا لا يعني أن هناك زاوية أفضل للنظر من الزوايا الأخرى، وكذلك القراءات المتعددة لسلوكنا الإنساني. هذه القراءة قد تمتلك بعض الصحة، لكنها لا تختزل كل الحقيقة. ولأجل هذا نعيد التأكيد على أن جسد المرأة تعرض لقمع أكبر من الرجل، ولكن وعيها بهذا سمح لها أن تبتكر طرقاً لمنح الجسد مساحة ما. بينما ظل الرجل يعيش وهَم السيطرة فيما جسده يقبع خلف قيود لا يعيها ومن هنا تصبح إشكالية الرجل أكثر تعقيداً. وهنا لعل من المناسب الإشارةَ إلى أن الرجل بدأ في محاولات خجولة لكسر صرامة الجسد الرجولي كما تريده المخيلة الاجتماعية التقليدية، وهذا دلالة بداية وعي لإشكاليته، ولعل في تحرر جسد الرجل امتداد وتأثير لتحرر جسد الأنثى، فلن تتحرر المرأة وكذلك الرجل بلا شريك، في مقابل متحرر كما لن تُقمع المرأة من دون أن يطال الرجل شيئاً من هذا القمع، سواء أوعي له أم لا، أقر به أم أنكره.
892 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع