د.رعد البيدر
أوراقٌ مُختارة من سجلِ العلاقات العراقية – الإيرانية
سلسلة متعاقبة من الحلقات سَبقَ نشرها
العراق وإيران بلدان متجاوران ، وحقيقة التجاور الجغرافي بين أي بلدين تُحَتِّم وجود علاقات مشتركة بينهما – شاءت أمْ أبَّت حكوماتهما وشعوبهما. دون التوَّسع في المفاهيم والتعاريف ؛ فأن بعض تعاريف العلاقات الدولية تُشير بأنها: علم يهتم بالملاحظة والتحليل، والتنظير من اجل التفسير والتنبؤ. ويرى آخرون أنها: دراسة التفاعلات بين أنواع معينة من الكيانات الاجتماعية بما في ذلك دراسة الظروف الملائمة المحيطة بالتفاعلات، أو بأنها: علاقات تشمل مختلف النشاطات الجماعية في العلاقات الدولية سواء كانت علاقات رسمية أم غير رسمية.
من جانب آخر فأن العلاقات الدولية تتضمَّن دراسة العلاقات السلمية والحربية بين الدول، ودَور المنظمات الدولية كعاملٍ كابحٍ لظاهرة الحرب وساعي لتحقيق الأمن والسلام الدوليين. وتتضمن أيضاً تأثير القوى الوطنية ومجموع المُبادلات والنشاطات التي تتخطى الخارطة الجغرافية للبلد بعبورها الحدود الوطنية. في كتابه مبادئ العلاقات الدولية عَرَّفَ الدكتور سعد حقي توفيق العلاقات الدولية بأنها: " ظاهرة من التفاعلات المتبادلة المتداخلة - السياسية وغير السياسية بين مختلف وحدات المجتمع الدولي ".
الجدير بالتنويه أن تطبيق مفهوم العلاقات الدولية لم يَعُد مقتصراً على استقراء علاقات الدول والأحداث الدولية كما كان يُنظَر له في العهود السابقة - نظرة تقترب من الدراسات التاريخية، كما أنه لم يعد يكتفي بتفسير الظواهر الدولية الحالية وإيجاد المبررات للسلوك الدولي. لقد تخطت دراسات العلاقات الدولية النظرة السابقة في التطبيق فصارت تتوغل إلى قلب الحدث ، وتتفحص السلوك الدولي مستعينة بأدواتها التحليلية المُستمدة من فروع العلوم السياسية والاجتماعية والإنسانية وفي مقدمتها : علم النفس وعلم الاجتماع وعلم الأجناس البشرية والجغرافيا والتاريخ والقانون الدولي والاقتصاد، والاطلاع على دراسات إعداد وتهيئة موارد الدولة للحرب في فترة التأزم ، بالإضافة إلى استخدام أساليب التحليل الكمي والإحصائي والقياس واستطلاعات الرأي - التي من خلالها ومعها يتحقق ليس فقط تحليل العلاقات الدولية بمعطياتها الراهنة - بل يمكن التنبؤ أو استشراف أو الوقوف على طبيعتها المستقبلية من خلال المعطيات المتاحة في حالة تحقق شروط أو افتراضات التحليل دون ظهور أحداث مستجدة فوق مستوى التوقع والافتراض، إضافة إلى تحديد البدائل في حالة تغير الظروف والأحوال أو الافتراضات التي بنيت على أساسها تلك التحليلات.
أن تفسير الأحداث الجارية، وتخمين مستقبل العلاقات بين الدول؛ قد يجعل الساسة وصُنّاع القرار في موقفٍ يتوقعون من خلاله تحديد ورسم أبعاد السياسات التي تُمَكِنهم من الثقة في تحقيق أهدافهم الوطنية بما يؤدي إلى حل المشكلات الدولية ، أو المساهمة في تطوير العلاقات بين دولهم مع دولٍ أُخرى وصولاً لبلوغ أفضل نتائج الاستقرار والسلام ، أو قد تندفع أطراف العلاقات بسوء التقدير باتجاه يُظهِرُ تخالفاً بالآراء، وتقاطعاً بالمصالح ؛ فيحصل التأزم ، وقد يتطوَّر إلى صراع متزايد - يتعنت فيه كل طرف من الأطراف لتحقيق مصالحه بالتحدي؛ عندها لا يكون هناك بُداً إلا بُد الحرب ؛ فيندفع أحدهما نحو خيار الحرب ( متقصداً أو مضطراً ) وآنذاك تتحوَّل العلاقات السلمية إلى علاقات الحروب ؛ فالحرب في أوضح تعريف لها " هي آخر وسائل فض النزاع " .
يتَّضِح أن العلاقات الدولية تشهد تكرار دورة ثلاثية الظواهر تتمثل بالمراحل التالية : ( السلام – التأزم ) ( الأزمة – الحرب ) ( الحرب – السلام ) . وخلال هذه الثلاثية يتبادل الأدوار كل من الدبلوماسي على طاولة التفاوض، والجندي في ساحات القتال؛ فمتى ما تعجز الدبلوماسية عن التوصل لحلولٍ مُرضيَّة - تقتحم الوسائل العسكرية لإجبار الطرف الرافض على التنازل من تعنته ؛ فيحقق الجندي بوسائل التدمير ما عجز عنه الدبلوماسي بمهارة التباحث ، ثم تعود الدبلوماسية مجدداً لتصفية مُخلَّفات الحرب بين الدول المتحاربة - بعضها إزهاق أرواح ، وبعضها الآخر تدمير ممتلكات عامة وخاصة ؛ فتدخل مسبباتها وأيامها ونتائجها في صفحات التاريخ – بعضها حقائق ، وبعضها تشويه .
من النص السابق نستنتج بروز معادلة متناقضة التأثير بين الساسة وشعوبهم ؛ فأن أصاب الساسة صفقَّت لهم الأيادي ومَجَّدهُم الإعلام بإظهار بطولاتٍ واقتدار ومهارة قيادية شجاعة - حتى بباطل من القول ؛ فمُنحوا فُرصاً أطول للبقاء في عروشهم - بمعنى أنهم نفعوا أنفسهم قبل أن تنتفعَ شعوبهم . وأن أخطأوا أضَّروا بشعوبهم قبل أن يضروا بأنفسهم . ولعل من شواهد التاريخ المعاصر تشير بوضوح إلى تجديد بقاء الرئيس الأمريكي " روزفلت " لأربع فترات رئاسية - الأخيرتان منها كانتا خلال الحرب العالمية الثانية ؛ قبل أن يتم تعديل الدستور الأمريكي عام 1952، وتحديد ولاية الرئيس الأمريكي بمرتين .
بعد ما أتضَّح بأن السلام والحرب ظاهرتان من الظواهر المشمولة باهتمام ومتابعة ذوي الاختصاص في العلاقات الدولية . قد تكون الحرب قصيرة الأمد ، أو ربما تمتد زمناً طويلاً ، وفي كلتا الحالتين تنعكس مسببات الحروب ونتائجها لتشمل كل روابط علاقات البلدان المتحاربة ، ومن المُرَجَح أن يمتد تأثير الحرب ليشمل حجم وتدخل دولاً أُخرى فيها كعامل مضاف نحو تعميق ظاهرة الحرب ، أو تلَّمُس سُبُلاً لإنهائها .
أثبتت المصادر التاريخية والدراسات الحالية بأن الزمن الذي يُمَّيزُ فترة السلام والتأزم أطول نسبياً من فترات الحروب ، بمعنى آخر إن حالة السلام هي الحالة المطلوبة دوماً - التي تسعى إليها الدول في تكوين علاقاتها الخارجية . أما الأزمات والحروب فإنها ظروف خيارات المصالح والاضطرار بفعل تشابك العوامل المؤثرة في علاقات الدول سواءً كانت ثنائية بين دولتين، أو أكثر اتِّساعاً فتشمل دولاً متعددة – قد تكون بصيغة تكتلات دولية .
إن فهم حقائق ومؤثرات العلاقات الدولية يُساعد في كشف أفضل سُبُل التصور والمعرفة التي تساهم في تحديد متطلبات الحكومات تجاه بعضها، وماذا تريد الشعوب ؟ ولماذا انتظَّمت في مجموعات أو تكتلات خاصة ؟ وقد تُكَوِّن طبيعة علاقة مرسومة سلفاً بالانتماء لهذه المجموعة أو تلك. ولماذا سلكَّت هذا السبيل في التصَّرف ؟ عندها يمكن تميز انطباق واشتراك ظواهر التفاعلات المتبادلة المتداخلة السياسية وغير السياسية بين وحدات المجتمع الدولي في رسم حدود وأبعاد العلاقات المتبادلة بين البلدان.
لضمان الوصول إلى تصَّور واقعي عن العلاقات بين العراق وإيران؛ لابد من الإلمام بحقائق السياسة الخارجية، والسياسة الدولية لكلاهما- فالسياسة الخارجية تعني: فن النشاط الحكومي الموجه نحو الخارج بما يحتويه من مضامين قرارات، وتواريخ إقرارها وسريانها، وأساليب تنفيذها لتحدد الأهداف الخارجية، والبلدان الذي يكون تكيف طبيعة العلاقات معها مطلوباً بكيفية معينة.
أما السياسة الدولية فهي: أفعال وردود أفعال، وتفاعلات بين الوحدات التي تهتم بعملية التفاعل بين دولتين أو أكثر. لذا فإن تحليل السلوك السياسي للعراق أو إيران نحو البيئة الخارجية لكلٍ منهما يقع ضمن اهتمام السياسة الخارجية. أما التركيز على قيام العراق بفعلٍ ما تجاه إيران، أو العكس قيام إيران بفعل ما تجاه العراق سواء قوبل باستجابة الطرف الآخر، أو بردود أفعال مُستَنكِرة أو رافضة؛ فهو ضمن اهتمامات تفاعلات السياسة الدولية. وعليه فأن الدولة هي المحور الرئيسي في توجيه السياسة الخارجية والسياسة الدولية.
وبالمفهوم المُبَّسط والمختصر فإن العلاقات الدولية تعني: كافة أشكال التفاعل بين وحدات المجتمع الدولي سواءٌ كانت تلك الوحدات دولاً، أم اتحادات ومنظَّمات إقليمية، أو منظمات دولية. لذا فالعلاقات الدولية، والسياسة الدولية يشتركان بالاهتمام بطبيعة التفاعل بين الدول القومية؛ إلا أن عملية تحليل التفاعل في حدود مفهوم العلاقات الدولية تأخذ بنظر الاعتبار مواقف الدول، مُضافاً إليها مواقف وردود أفعال التكوينات الأخرى التي تُمَثِّل الاتحادات الإقليمية والمنظمات الدولية، وتشمل التجارة والقيم والمفاهيم والأخلاقيات الدولية.
توخينا من السطور السابقة توضيح مفاهيم ذات صلة بعلاقات الدول تجاه بعضها البعض - يتوَّحد تفسيرها عند بعض القُرآء الكرام ؛ في حين أن لكلٍ منها تفسيراً خاصاً رغم وجود تداخلات تطبيقية بينها.
بمشيئة الله سنُبَيّنُ في الورقة القادمة دوافع تصَّفُح أوراق سجل العلاقات العراقية – الإيرانية في هذه الظروف الدولة التي تتصارع فيها إرادات دول قوية وضعيفة على أرض العراق منذ ما يقرُب من (12) سنة – أي منذ احتلال العراق أمريكياً – بريطانياً - إيرانياً؛إذ تتبجح هذه الدول وسواها (بافتراءات وأباطيل) أنها تسَّخِر جهودها من أجل مصلحة الشعب العراقي ، لكن الحقائق تشير إلى خلاف ذلك – وفق ما سيظهر في الأوراق اللاحقة من حقائق وتحليلات ونتائج ........ وعلى الله قصد السبيل .
391 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع