دروس وعبر.. من ذكرى هجرة المصطفى

                                              

                        

                                                  

ما أحرى المسلمين اليوم أن يستلهموا العبر والدروس والمعاني الجليلة من هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم من مكة حيث الأهل والأقارب وأبناء العمومة، إلى المدينة حيث الأنصار والمؤيدين للدعوة الجديدة.

كانت هجرة المصطفى وصحبه الأبرار من مكة إلى المدينة، نقطة تحوّل في تاريخ الدعوة الإسلامية وانطلاقة الدين الجديد محلياً وإقليمياً وعالمياً، كما كان لها دور في ترسيخ قواعد الدين الحنيف، وايذان البدء بإقامة دولة الحرية والعدل والمساواة.
إن المتأمل والناظر في تاريخ الأمة الإسلامية عند انطلاقة الدعوة يجد في تلك الحقبة الكثير من الأحداث العظيمة والمواقف المهيبة والصفحات البيضاء النقية، ومن هذه الأحداث العظيمة حدث الهجرة النبوية من مكة إلى المدينة. ولنا فيها ولكل جيل معاصر أو قادم دروس وعبر من خلال هذه الرحلة المباركة.
إن حادثة الهجرة العظيمة، هي مناسبة للتأمل والتدبر والوقوف مع النفس، حيث ينبغي على الأمة أن تستلهم من الهجرة النبوية المباركة والسيرة الدروس والعبر ففيها الكثير للمتأمل والناظر، وفيها دروس للساسة وللعسكريين وفيها دروس للدعاة والمصلحين وفيها دروس للآباء والأمهات وفيها دروس للمعلمين ودروس للشباب ولكل فئات الأمة.
الدرس الأول أنَّ (قريش) عشيرة الرسول وقبيلته ظلت تحاربه وتحارب دعوته ثلاثة عشر عاماً، لقي فيها العنت والظلم والأذى، ورفضت دعوة الحق، لكن قوما ً من غير قومه، وعشيرته، ناصروه، ودعوه إليهم، فترك الوطن والأهل والعشيرة، إلى حيث الأنصار.. وخرج المصطفى من داره مهاجراً خائفاً يترقّب، لكنه حين وصل أطراف المدينة وجد الناس يحتفون به ويستقبلونه بمشاعر فياضة شيبا وشبابا، رجالاً ونساءً، صغاراً وكباراً وهم يرددون النشيد الذي خلّده التاريخ:
طلع البدر علينا... من ثنيّات الوداع، وجب الشكر علينا، ما دعا لله داع، أيها المبعوث فينا، جئت بالأمر المطاع.. جئت شَرّفتَ المدينة.. مرحبا يا خير داع..
الدرس الآخر، أن الله ينصر المؤمنين، إن صدقوا مع الله، فقد حاولت قريش أن تلحق بالمصطفى وتؤذيه، فوضعت خمسة وعشرين من رجالها عند باب بيت الرسول في مكة ليضربوه بسيوفهم ضربة رجل واحد فإذا بآية حفظ الرحمن، تحرسه، فيخرج من بينهم وهم غافلون... وصدق الله القائل (اللّه وليّ الذين آمنوا...)، ينصر المؤمنين بجنوده هو ولا يعلم جنود ربك إلا هو، فعندما وصلت قريش إلى فم الغار الذي اختفى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه الصديق أبو بكر رضي الله عنه، وما حال بينهما وبين قريش إلا خيوط العنكبوت، وحمامة بنت عشها على فم الغار ووضعت بيضها، وإذا بأوهن البيوت (بيت العنكبوت) يُصبح بإرادة الله، سداً منيعاً، لأنه استمد قوته من جبار السموات والأرض ثم رأينا كيف غارت حوافر فرس سُراقة عندما حاول اللحاق بالرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه وذلك قول الله سبحانه : «إن الله يدافع عن الذين آمنوا...».
ونرى أيضاً في درس الهجرة، صدق التوكل على الله وقوة الثقة بالمولى، حين أحدقت بهم أسباب الهلاك وجاءهم الموت من كل أبوابه والنبي صلى الله عيه وسلم يقول لسيدنا أبي بكر الصديق «ما ظنك باثنين الله ثالثهما» حين قال له الصديق "يا رسول الله لو نظر أحدهم تحت قدميه لأبصرنا"، فقال: "يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟!" أي ان الله تعالى مطلع علينا لا تخفى عليه خافية.. ثم يمَّما نحو المدينة، فكانت هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم نصراً للإسلام والمسلمين، حيث أبطل الله مكر المشركين وكيدهم في تقديرهم القضاء على الإسلام بمكة، وظنهم القدرة على قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لقد دخل العالم كله، بالهجرة النبوية، في عصر جديد لم يسبق له نظير في التاريخ فكان جديرًا بأن يكون تاريخًا للبشر كافةً، لا للمسلمين خاصةً. قضى الإسلام قضاءه المبرم على الوثنية التي أذلت البشر واستعبدتهم للملوك المستبدين، ولمظاهر الطبيعة وما يمثلها في الهياكل من الأصنام والأوثان، وقرر حرية الاعتقاد والوجدان، والاجتهاد الاستقلالي في العقائد والأعمال، والشورى في السياسة والأحكام، وأبطل امتيازات الأنساب والأجناس، التي كان يستعلي بها الناس على الناس، وجعل قاعدة الإنسانية العامة قوله عز وجل: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } (الحجرات: 13).
إن السيرة النبوية، وقصة الهجرة بالذات، ضرورية لكل مسلم، ضرورية لكل عامل وموظف وتاجر ولكل قاض وكل زاهد وصابر، يتعلم منها دروساً في التعامل مع الناس وفي القضاء والنزاهة والزهد والصبر من أجل هذا كله نرى عظمة الهجرة النبوية من مكة إلى المدينة بانها من أهم الأحداث في تاريخ الدعوة الإسلامية، إذ كانت نقطة تحول في تاريخ المسلمين.
كان المسلمون قبل الهجرة أمة دعوة، يبلغون دعوة الله للناس دون أن يكون لهم كيان سياسي يحمي الدعاة أو يدفع عنهم الأذى من أعدائهم، وبعد الهجرة تكونت دولة الدعوة، هذه الدولة التي أخذت على عاتقها نشر الإسلام في داخل الجزيرة وخارجها. ومن أجل هذا كله فلا غرو أن ترى الصحابة رضوان الله عليهم يتفقون في السنة السابعة عشرة من هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم على ابتداء التاريخ الإسلامي من سنة الهجرة النبوية حيث جمع الفاروق عمر بن الخطاب الصحابة واستشارهم في وضع تاريخ للأمة، فقال قائل: (أرّخوا بتاريخ الروم)، فكره ذلك، وقال آخرون بمبعثه وقال آخرون بل بهجرته، فمال عمر رضي الله عنه إلى التاريخ بالهجرة، لظهوره واشتهاره واتفقوا معه على ذلك.
لقد أراد سيدنا عمر وصحابة المصطفى، أن تكون الأمة الإسلامية أمة مستقلة متميزة عن سائر أمم الأرض.. أمة تعتز بتاريخها وأحداثها الجسام.. ومن المعلوم بداهة أن من مقومات الأمة تاريخها، الذي تعتز به وتفخر به لأنها صنعت أحداثه بجهودها، وموافقة الصحابة رضوان الله عليهم على ما رأى سيدنا عمر رضي الله عنه تدل على حرص الجميع على الاستقلال والتميّز إذ لم يرضوا أن يكونوا في تاريخهم تبعاً لأمة من الأمم بل كانوا مبدعين في كل شيء ليسوا إمّعات ولا ببغاوات يستوردون فكرهم وثقافتهم وتاريخهم من أعدائهم كما يستوردون غذاءهم وشرابهم، ومما يؤسف له أن يصل حال أمتنا هذه الأيام إلى درجة كبيرة من الضعف والتقهقر بعد أن أهملت تاريخها وانساقت وراء أعدائها الذين أذلوها، وهي تنهل من سموم ثقافتهم بل غزوهم الثقافي، وأولعت بذلك ولعاً شديداً.
كانت الهجرة المباركة وما زالت درساً في الصبر والتوكل على الله تعالى ولم تكن طلبا للراحة ولا هرباً من العدو ولا تهرباً من الدعوة وأعبائها بل كانت بأمر من الله تعالى في وقت أشد ما تكون البشرية في ذلك الزمن إلى الهدي المحمدي، فلقد أرسل الله خير خلقه محمد صلى الله عليه وسلم إلى البشرية وهي أحوج ما تكون إلى رسالته، وأشدَّ ما تكون ضرورة إلى دينه، بعد أن صار الكثير من الناس في ظلمات الشرك والجهل والكفر، فأرسل الله عبده محمداً صلى الله عليه وسلم إلى الناس جميعاً، قال الله تعالى: قُلْ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنّى رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ٱلَّذِى لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوٰتِ وَٱلأرْضِ لا إِلَٰهَ إِلاَّ هُوَ يُحْىِ وَيُمِيتُ فَأمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ ٱلنَّبِىّ ٱلأمّيّ ٱلَّذِى يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَكَلِمَٰتِهِ وَٱتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [الأعراف:158].
هذه الهجرة كانت اللبنة الأولى في بناء الدولة الإسلامية التي سعى إليها الرسول الكريم، الدولة التي امتدت في ما بعد لتصل سور الصين وأوروبا منطلقة من المدينة المنورة، ومتخذة من يوم الهجرة بداية تشكيل الدولة الإسلامية التي حركت مسارات التاريخ باتجاهاتها السلمية والصحيحة.
 كما أن الهجرة تمثل أيضاً ثورة اجتماعية واقتصادية وفكرية تقوم على الإصلاح والصلاح ، خاصة وإن مرحلة ما بعد الهجرة النبوية الشريفة كانت زاخرة بالأحداث الكبرى في تاريخ الإسلام ، حيث تحول المسلمون من أقلية في مكة إلى أغلبية في المدينة، ومن الدفاع عن دينهم إلى نشر الدين ، ومن الصمت والسرية، إلى العلنية والجهر، كانت هذه الأحداث تنتظر الهجرة الكاملة لكي تحصل، فأخذ المسلمون عنصر المبادرة فكانت بدر الكبرى وتأثيراتها على مسارات تاريخ العرب والمسلمين . وواحدة من الحقائق التي تشكلت في المشهد الاجتماعي والسياسي والفكري بعد الهجرة النبوية، تمثلت بأن الجزيرة العربية الآن فيها مكون جديد ودولة جديدة وأمة جديدة هي أمة محمد ، لم يكن باستطاعة أحد أن يقول هذا لو بقي الإسلام في حدود مكة وسياط المشركين وتعذيبهم. لهذا فإن الهدف من الهجرة عظيم، والذي تمثل بالانتقالة بالرسالة الإسلامية من مرحلة الدعوة إلى مرحلة الدولة وهي انتقاله كبيرة كان لها شأنها ليس على العرب فقط بل تعداه للأمم الأخرى، وهذا ما جعل هدف الرسالة الإسلامية يتحول هو الآخر من تهذيب الإنسان الفرد إلى صناعة مجتمع متكامل البناء والعقيدة، بعد أن كانوا يدخلون الإسلام فرادى، باتوا الآن يدخلونهم أفواجا، ومن حركة محدودة التأثير داخل مكة القرية إلى حركة عالمية الأهداف ، خاطبت الأباطرة والأكاسرة وغيرهم.
ومن المؤلم والمؤسف أن يأتي احتفال الأمة الإسلامية هذا العام بذكرى الهجرة النبوية الشريفة، وسط ظروف حالكة وتحديات جمة تحيط بالأمة من كل جانب، منذ عدة سنوات ، إلى درجة أصبح فيها أبناء هذه الأمة يحلمون بنهار جديد يستيقظون فيه على واقع يجمعهم وإرادة تلمهم، وتوجه يجتاز بهم حالة الضعف والاستكانة التي طال أمدها.
تمر علينا ذكرى هجرة المصطفى من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة في هذه المرحلة، التي تشهد ثورة الربيع العربي الذي أطاح بالطغاة، وأثبت شباب الأمة أن إرادة الشعوب هي التي تنتصر وأن الظلم لا يمكن أن يدوم. وهذه هي  سوريا البطلة تثور بوجه الظلم والطغيان والجبروت، ويسطر السوريون الأبرار ملحمة الكفاح والجهاد والإصرار على نيل الحرية مهما غلا الثمن ومهما طال الليل فلابد له من آخر.. وحينئذ يفرح المؤمنون بنصر الله.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

547 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع