الخلاف بين أصحاب المذاهب السنية والشيعية ظل يتأرجح عبر أربعة عشر قرناً بين الاختلاف حول الفهم والتأويل الديني وبين الصراعات على المصالح السياسية الدنيوية. في مسيرته تلك لم يسلم ذلك الاختلاف من استعماله كأداة من قبل طغاة الاستبداد والظلم، ومن الاستفادة من تأجيجه من قبل بعض فقهاء الاستزلام والانتهازية.
اليوم يصل ذلك الاستعمال وتصل تلك الاستفادة إلى أعلى كفاءتهما وإلى أوسع تواجدهما، ليصبحا أهم وأكبر خطر تواجهه الأمة العربية ويكتوي بناره عالم الإسلام. موضوع قديم شائك كهذا تتداخل فيه طائفية الدين والسياسة، وتهيمن عليه خلافات التاريخ المشوهة , ويعتمد على سرد الأساطير وعلى أمية الأتباع وجهلهم، تنشطه الآن وتعلي من شأنه، ثمُ تحرفه وتغويه، أشكال من الدوائر الصهيونية والإمبريالية في الخارج وقوى رجعية أو استبدادية أو فقهية انتهازية في الداخل. ولذا فجأة أصبح موضوع الساعه بلا منازع في حياة العرب والمسلمين اليومية، وغدا مصدر تسميم للواقع السياسي برمًته، وأضحى يهدد بأن يكون خطراً على المستقبل.
من هنا، وبصراحة متناهية، لن تفلح النوايا الحسنة ولا المواعظ، ولا التذكير بالوحي الإلهي الواحد وبالنبي الواحد ولا مؤتمرات العلاقات العامة في إيقاف الجنون المأساوي العبثي الذي يحكم العلاقات السنية- الشيعية في أغلب الساحات السياسية العربية. كيف وقد وصل الأمر إلى حد السفه المعيب وأصبح تشويه وتحريف تلك العلاقة أفتك وأسهل سلاح في يد بعض قوى الداخل والخارج التي تنحَرُ رقبة الأمة يومياً من الوريد إلى الوريد.
نحن الذين كنا ومازلنا ننتمي إلى الإسلام ديناً ووحياً إلهياً واحداً ونرفض أن ننتمي إليه مذهباً طائفياً، ونرى في كل المذاهب دون استثناء ماهو أحياناً اجتهاد بشري صالح، ولكن أيضاً ماهو أحياناً اجتهاد بشري طالح خارج زماننا ومكاننا، ومن ثم نرفض تلفيقات هؤلاء أو أولئك من مدعي الانتماء إلى الفرقة الطاهرة الناجية من النار. نحن نرى في ما يقوله أو يفعله بعض رجالات ونساء الفقه والإعلام والسياسة الطائفيين المتعصبين نشاطاً يقصد به تدمير لإمكانية وحدة الأمة العربية ووحدة الوطن العربي الكبير، وإفشال لأي تضامن وتعاضد وتفاهم بين دول أمة الإسلام. كما نرى فيه خدمة، سواء بقصد أم بغير قصد، للتحالف الصهيوني- الأمبريالي الرَامي إلى إبقاء هذه الأمة العربية في تيه الخلافات والانقسامات والصراعات العبثية.
نحن، من دون لفً ولا دوران، لا يخيفنا أن يستمر الفقهاء والمتكلمون والمتصوفون وغيرهم، كما فعلوا عبر القرون الطويلة، في مناقشة التفسيرات القرآنية وعنعنة الأحاديث النبوية وصحتها وأقوال صاحب هذه المدرسة الفقهية أو تلك، وأن يقضي البعض أوقاتهم يلوكون ويجترون قضايا الماضي إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً. وكذلك لا يهمنا أن يصّر البعض على العيش الأبدي في لعنة الخلافات الفقهية التي تذكر بلعنة سيسفوس اليونانية الشهيرة التي تتجدد ولا تنتهي، ولا تأتي إلاً بالآلام والعذابات والأحزان.
كل ذلك مقبول طالما أنه محصور في ساحات اجتهادات الفقه، بعيداً عن إثارة العواطف الغوغائية في صفوف الجماهير، منفصلاً عن تصادم الإيديولوجيات السياسية، ورافضاً أن يكون أداة من أدوات ذلك الصراع السياسي الدنيوي.بمعنى آخر نريده فصلاً جذرياً ونهائياً في ما بين الصراعات الفقهية تلك وبين حقل السياسة، إذ إن توظيف الخلافات الفقهية في السياسة أصبح جحيماً لا يطاق، ومصدر إعاقة لانتقال مجتمعات هذه الأمة العربية إلى رحاب الديمقراطية ووحدة الوطن العربي، وهما لازمان لنهوض هذه الأمة من تخلف القرون. كلمتا السني والشيعي أصبحتا مصدر بلبلة وخنق للحياة السياسية العربية، وبالتالي آن الأوان أن تنزويا في زاوية الفقه والفقه فقط ويخرجهم الجميع من قاموس أدبيات السياسة ولغتها ونضالاتها.
إن ذلك بالطبع لا يعني التخلي عن أن تقوم الحياة السياسية على أسس مقاصد الإسلام وقيمه، من مثل الكرامة الإنسانية والحق والحرية والعدالة والشورى الديموقراطية والعقل والعلم والثورة على الظلم. إن مانعنيه هو تنقيح السياسة من الارتهان للعناوين والإيحاءات والرمزيات والمصالح الطائفية، سواء الظاهرة أم المبطنة، وذلك لحين خروج المسلمين من القوقعة الطائفية التاريخية التي حشرت الأمة فيها والتي سيحتاج الخروج منها إلى سنين طويلة.
السؤال المطروح: هل سيكون باستطاعة مفجري الثورات العربية في الحاضر والمستقبل الخروج بإيديولوجية سياسية عروبية لا تقفز من جهة فوق ثقافة الجماهير الإسلامية فتفقد ارتباطها بالواقع، ولكن من جهة أخرى تفصل فصلاً جذرياً كل مايمت بالطائفية بعيداً عن حقل السياسة؟ في اعتقادي أن هذا هو سؤال الساعة لأمة تتجرًع السم الطائفي كل يوم.
566 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع