د. عمر الكبيسي
تتسابق الاحداث وتتناقض التصريحات والولاءات داخليا وعربيا واقليميا ودوليا حول العراق ومجابهة تنظيم الدولة الاسلامية ومتابعة تفاصيل هذه المجابهة مرورا الى مستقبل العراق بشكل متسارع حتى اصبح تفسير هذه الاحداث امر يصعب اخضاعه لسيناريو يحدد مستقبل العراق والمنطقة، إلا إن استعراضا تحليليا لمجمل الاحداث وتفسيراتها ربما يضعنا ضمن وجهة نظر معينة تعطي بعض الضوء لما سيتمخض عنه مستقبل العراق وبأي اتجاه ماضٍ :
أولاً. لا الإنسحاب العسكري الامريكي من العراق نهاية عام 2010 ولا ما سبقه من جهود لبناء الجيش البديل ولا زيادة مواردالنفط ولا الانتخابات المتكررة ولا اتفاقيات تشكيل حكومات حزب الدعوة ولا دخول داعش وهيمنتها العسكرية ولا مجيء العبادي تمخض عن احداث تغييرٍ ملموس في سياسة الفوضى او تحقيق الامن او تحقيق المصالحة والتوافق المجتمعي ولا وقف الفساد المالي والاداري ولا إحداث تغيير في طبيعة الموروث السياسي وشخوصه الذي تشكل بعد الاحتلال ، بل اصبح تحقيق أي منها مجرد امنيات صعبة المنال ، ما سر ذلك ؟ هل استطاع المالكي بسياساته خلال الاعوام الماضية بناء منظومة متكاملة كفيلة باستمرار الحال على ما هو عليه وبضمنها مجيئ العبادي خليفة له ؟، أم أن مجيئ العبادي تمخض عن مرحلة انفصال في المصالح المشتركة بين إيران واميركا وسيدفع الثمن لهذا الفصام ؟
ثانياً : إن تفاقم ظاهرة الهيمنة والنفوذ الايراني في العراق مقارنة بالنفوذ الأمريكي يرافقها توجس كبير من إقامة علاقة وثيقة مع المحيط العربي ، يشكل جوهرالمشكلة في تمخض هذا النفوذ الإيراني عن فرض المواقف السياسية على اعلى تنسيق وتمكنه من توفير قوة عسكرية متنفذه بغطاء طائفي وباسماء ورايات طائفية عديدة تمولها ايران والاحزاب التابعة لها وكانت فيما يبدو وسيلة التطوع للجيش فيما سميَّ لاحقا (بالفضائيين) في عصر المالكي هم نواة للحشد الشعبي الذي أصبح اليوم بديلا فاعلا له امكانيات وصلاحيات الجيش الوطني (المستهلك بضعف القوة والتدريب والكفاءة وتعاقب الهزائم) وهي بمثابة ميليشيات مسلحة يتزعمها قادة احزاب ونواب و وزراء مشاركين في العملية السياسية يستلمون دعما وتسليحا واشرافا من قيادات إيرانية ،ليتم بذلك اختفاء مضمون العقيدة العسكرية المهنية والحرفية بشكل كامل خوفا من ان يشكل مسمى الجيش تهديدا لطبيعة السلطة القائمة .
ثالثاً : لم تستطع تنظيمات الحشد الشعبي كسب ثقة المكون السني بسبب ما اقترفته من سلوكيات عنفية وانتقامية وتهجيرية من خلال اشتراكها بالقتال ضد التنظيم تمخضت عن منع السكان المحليين من العودة الى مناطقهم في ديالى وصلاح الدين والأنبار بالرغم من تطهيرها من سلطة التنظيم مما جعل المكون السني يرى في سلطة التنظيم اكثر طمانينة واقل تهديدا له من سلطة وبطش الحشد الشعبي الذي تتزايد صلاحياته في مناطق الصراع . بنفس الوقت وبالرغم من كثافة الطلعات الجوية التي بلغت اكثر من 4000 طلعة جوية نفذها طيران التحالف الدولي قوات الحشد الشعبي لا ترى في مشاركة التحالف الدولي أي تأثير في ساحات الصراع ، بل تتهمه بمساندة التنظيم من خلال تزويده بالاسلحة والمعونات جوا ومحاولة ضرب قوات الحشد والحاق الضرر بها بشكل متعمد .بنفس الوقت تتردد طائرات التحالف الدولي بالمشاركة في المعارك التي يشارك بها الحشد الشعبي .
رابعاً : الانهزامات المتكررة لقوات الجيش الحكومي وعمليات الكر والفر التي لم تفلح في صد تمدد التنظيم وتقدمه ناهيك عن الغنائم الكبيرة بالسلاح والعتاد الذي يحصل عليه التنظيم خلال هذه المعارك ،أدّت الى فقدان الثقة بكفاءة ونزاهة قيادات الجيش وكفاءته القتالية فيما تشير المعلومات المتسربة من مناطق الصراع ومن التحقيقات الجارية الى تورط قيادات وشخصيات كبيرة في تسبب هزيمة نينوى والرمادي من جراء فساد على نهج البيع والشراء كسبب رئيسي لإنسحاب قوات الجيش الحكومي امام تقدم قوات التنظيم دون حدوث مقاومة او معارك على الأرض .
خامساً : ترى الإدارة الامريكية إن تسليح عشائر ومقاتلي السنّة بشكل مباشر ومستقل عن الحكومة المركزية(بإشراف الحكومات المحلية) لأن الحكومة المركزية لم تعمل على احداث حالة توازن في التسليح وفي التطوع والانخراط في القوات المسلحة لأسباب طائفية وبشكل متعمد وهو ما افقد المكون السني امكانية اشتراكه في تطهير محافظاته بشكل مؤثر مع انهم هم الأكثر دراية وجدارة بالمشاركة بشكل فاعل .وهذا ما ادى الى حالة نزوح هائلة في محافظات المكون حتى في المناطق التي تم تحريرها ولم يسمح لهم بالعودة اليها ، مما افقد المكون الثقة بالحكومة وبالحشد وبالادارة الامريكية وبمن يمثله بالعملية السياسية والمشاركين فيها أي مصداقية في أن تسهم جميعا لحل معاناتهم وخلاصهم من التنظيم .
سادساً : السياسة الطائفية للسلطة الحاكمة في العراق بعد الاحتلال وسلوكياتها الإقصائية ،والتي انتجت الكتل الحاكمة سياسيا ومن ثم بناء الميليشيات المسلحة التي تقودها هذه الكتل ،حالت دون بروز كيان سياسي وطني يعارض السلطة والاحتلال من خلال الاغتيالات والاستهدافات والاجتثاثات التي مورست ، وبالتالي وبالرغم من فاعلية المقاومة المسلحة ضد الاحتلال ، فأن الجناح السياسي الوطني الذي تمت تصفياته اما بذريعة المقاومة المسلحة او بذريعة الاجتثاث والمادة 4 إرهاب او من خلال انخراط بعض شخوصه الى العملية السياسية بذريعة إصلاحها من داخلها . هذه المشكلة أدت الى حرمان وتأخر انبثاق مشروع وطني عراقي عابر للطائفية فاعل بشكل مؤثر في الساحة العراقية .اتضح هذا الفراغ اليوم بشكل واضح في المكون السني وهو يعاني بشكل مكثف ومرّكز من آفات الإنقسام والاقصاء والنزوح والتهجير واستهلاك ممثليه في العملية السياسية .
سابعاً : حين تفشل السلطة والامم المتحدة والادارة الامريكية بتحقيق مصالحة وطنية حقيقية وجذرية كضرورة هامة لمجابهة العنف والارهاب المتمثل بتنظيم الدولة المستفحل والمتمدد والميليشيات الطائفية المسيَسة التي اصبحت بديلا عن الجيش الحكومي الذي يتم التفكير حتى بحله بذريعة عدم جهوزيته وتصبح المعارك الضارية مقصلة كبيرة مكلفة للعراقيين بالارواح والبنى التحتية وبالاموال ، تتصاعد المطالبات بضرورة الحل لهذه المجزرة ، يتم التلويح بتقسيم العراق والأقلمة كحل لا بديل له ، بل يتم الربط بين فرض هذا التقسيم وبين تسليح المكونات وفرض حالة التوازن المزعوم ، وهكذا يتم التكثيف على حالة التسليح والتدريب باشراف دولي تارة من قبل اميركا وتارة من قبل اوربا وفرنسا بالذات في العراق وتركيا في سوريا ويغض النظر عن تسليح ونفوذ ايران في العراق والمنطقة وما تلعبه روسيا في دعمها للنظام السوري والعراقي واليمني في هذه المواجهة والتي يبدو انها جميعا وسائل خلق توازن مشروطة بقرار التقسيم في العراق ومنطقة الشرق الأوسط الجديد ، وهو ما يتم التلويح به منذ أكثر من عقدين من الزمن بلا تردد او تراجع من خلال مشاورات وائتلافات ومؤتمرات وتوصيات رسمية وشعبية تعقد هنا وهناك،كان آخرها النشاط المكثف لقيادات في إدارة اوباما ومراكز دراسات اميركية تبحث بإعادة النظر في مشروع بايدن-غيليب التقسيمي وطرحه كحل للأزمة العراقية.
ثامناً : إن الخطر الذي يحدق بالمنطقة العربية والمخطط الذي يستهدف أمنها وثرواتها القومية و هويتها و وحدتها ، والذي بدأ عمليا وعسكريا في العراق بعد احتلاله والذي يرتكز على تحقيق أمن إسرائيل كدولة دينية واستمرار تدفق الثروة (النفط والغاز والكبريت ) الى الدول الكبرى بالتفاهم يتخذ من الركائز التالية أسسا لتنفيذه:
أ. استهداف الاسلام كدين وفكر للشريحة الكبرى من سكان المنطقة وربطه بالإرهاب وتجهيز اجماع دولي لمكافحة هذا الارهاب الذي ربط بالدين زيفا .
ب. الترويج لمشروع الدولة الدينية في المنطقة بمظاهر فكرية وعنفية تمهيدا لبث حالة التقسيم الطائفي والإثني وذريعة لشرعنة الدولة الصهيونية ووجودها كدولة يهودية لها أهداف ترتبط بالمعتقد اليهودي في المنطقة والمرتبط بالعراق و بابل بالذات .
ج. خلق حدود جديدة بديلا لخارطة سايكس بيكو المنتهية تقوم على مبدء تقسيم المقسم وتجزئة المجزئ ، والتي ستكون كفيلة بعدم استقرار المنطقة وضمانة أكيدة لبقائها ضعيفة منقسمة متصارعة خارج نطاق كل ما يبت لقيمها وارثها وهويتها بصلة . مثل هذا التقسيم والتجزئة لا يمكن أن يحدث في المنطقة ما لم يكن العراق المستهدف الاول فيها لتأتي بقية الدول العربية والاسلامية في المنطقة اضطرارا وخنوعا له كأمر واقع .
تاسعاً : التمسك بوحدة العراق الوطنية يبقى هو الامل المطلوب لإجهاض المخطط ، وهذا لن يتم إلا من خلال مشروع وطني عراقي يحقق المصالحة الحقيقية ويقضم الطائفية والمذهبية وتجاوز الاخطاء بروح من التسامح والتوافق على الثوابت ومستلزمات الصمود . بوجود العملية السياسية الحالية التي ثبت فشلها ، لا يمكن بناء جيش وطني حرفي مهني يستطيع مجابهة تنظيم الدولة ، مثل هذا الجيش في ظل الظرف العراقي المنكوب لا يمكن تشكيله إلا برعاية عربية في حملة تشابه عاصفة الحزم بالغاية والهدف ، المجابهة في العراق شاءت الادارة الامريكية أم أبت هي مجابهة عربية-إيرانية ، لا تختلف بالمضامين عن مجابهة الارهاب المتمثل بالحوثيين وتنظيم القاعدة في اليمن . مثل هذه العاصفة هي الحل الأمثل وليس كما يتم الترويج له هو ان الولايات الامريكية هي القوة الوحيدة التي يمكنها احراز النصر على تنظيم الدولة ،ما السر ان لا تحقق هذا النصر ان كانت قادرة على ذلك ؟، لتفترض ان هكذا حرب يستوجب الصبر والتأني لفترة لا تقل عن ثلاث الى خمس سنوات قادمة .
عاشراً : الحديث عن مشروع تقوده روسيا والصين وايران وسوريا وقوى ايرانية منتشرة في المنطقة لحل أزمة المنطقة (ما يسمى بدول الممانعة) ،هو مشروع افتراضي تناقضه وقائع الأرض الدامية والحروب القمعية الطائفية وأحداثها.ولو توفرت ثوابت لمصداقية النظام الايراني في وصف الدور التخريبي والشيطاني للولايات المتحدة في المنطقة وتخلى هذا النظام عن طائفيته وانتقاميته من العرب السنّة في العراق والمنطقة العربية ، ولو تخلى بشار الأسد عن دوره القمعي لشعبه وتوقف دعم ايران وحزب الله في لبنان له بشكل طائفي جلى في سوريا وفي اليمن ، ربما كان لتحالف روسيا والصين معهما فيما يسمى شكلاً (بدول الممانعة ) دور كبير لتطويق العنف والأرهاب والمشروع الامريكي الغربي في المنطقة بمشروع فاعل يحمل معالم وطنية وسياسية بوجه المشروع الامريكي التقسيمي ، لكن وضوح الاطماع الايرانية في المنطقة ونواياها الطائفية والعنصرية بشكل لا يثير الجدل و وقوف اركانه مع عملية احتلال العراق بلا تردد وذوبانه في هذا المشروع bارتكبه من جرائم لاحقة بحق العراقيين والعرب ، أفسد احتمالية ان يكون لهذا التحالف دور بناء واقعي مقنع في العراق والمنطقة يجنبها النكبات والويلات بما لا يقبل الشك ، وهذا ما يعطي الفرصة لاستمرار هيمنة مشروع أميركا التقسيمي في المنطقة والذي يهدف الى استغلال ثرواتها وتفتيتها وتقسيمها وضمان الحماية والأمن والشرعية لدولة اسرائيل الدينية (اليهودية) ،وبالتالي فأن تقسيم العراق ومن ثم دول المنطقة القوية والمؤثرة يبقى هو الهدف الحثيث لهذا المشروع الخبيث مالم يكن للشعوب دورا وحراكا يختلف عن دور الانظمة (المستغيث من الرمضاء بالنار) صحيح ان التركيبة الجغرافية والاقتصادية والمجتمعية للعراق كانت عصية على التقسيم والفدرلة على مرالعصور، لكن آليات التخطيط لهذا المشروع الخطير واستمرار تهيئة مستلزماته في ظل غياب الوعي والحكمة الوطنية وسياسة الفوضى والانقسام قد تحقق المحال .
1147 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع