نوري جاسم
بغداد عاصمة الجمال ومدينة لا تنام ..
بغداد مدينة لا تُوصف، وحالة وجود، إنها طيف يمرّ في شرايين اللغة، ظلّ يتبع كل من مرّ على هذه الأرض، نداء يهمس في أذن التاريخ، بغداد تنطق وتقول بصوت عالي أنا المجد حين يتهجّى اسمي الزمان، بغداد ليست مدينة جغرافية فحسب، بل روح تمشي على أرصفة الزمن، تقرأ الفجر قبل أن يولد، وتكتب الليل حين ينسدل، وتبتسم للشمس كأنها تعرفها من قبل الخليقة، أيها العابر في ظلالك، لا تمرّ ببغداد كما تمرّ على المدن، فهذه ليست جدرانًا وأسواقًا ونهرًا وحجرًا، بل هذه ذاتك إن كنت من العارفين، وهي القصيدة التي لا تكتبها الأقلام، بل تكتُبك أنت، هنا في بغداد، تنام الفلسفة على أكتاف التصوف، يشرب العقل من نبع العرفان، وتتنفس الحكمة من غيمات الشعر. هنا اجتمع المتنبي والخيام، السهروردي وابن رشد، الفارابي والجنيد والجيلانيوالكسنزاني ليتبادلوا خمر الأرواح، ويترنموا باسم الحقيقة المحمدية، في بغداد، لا يُفهم الجمال كزينة، بل ككائن حي، يتجول بين الجوامع والتكايا والحسينيات والكنائس، بين الشناشيل القديمة وصوت فيروز في صباح حزين، والجمال هنا ليس ترفًا، بل مقاومة، لا ينهزم حتى لو ضُرب وجهه ألف مرة، يعود كأن وجهه وجه ملاك، وحين تُنهكك المدن بضجيجها، وتخنقك الخرائط بجفافها، تأتي بغداد، بعباءتها المثقوبة، المليئة بندوب الأزمان، فتحتضنك كأم فقدت أبناءها وعادت إليهم في الحلم، يا بغداد، كم مرة متِّ وكم مرة قُمتِ؟ كم مرة بكَتِكِ الحضارات، ثم غسلت وجهها بكِ لتعود؟ كم مرة غدر بك الزمن، فقلت له: "أنا قبلك وبعدك"؟ وفي كل نخلة تقف وحيدة في صيف تموز، في كل كتاب عتيق على رصيف المتنبي، في كل فنجان شاي على شاطئ دجلة، في كل صيحة مئذنة عند الغروب، هناك بغداد أخرى تُولد، بغداد لا تراها العيون، بل تلمسها الأرواح، هي بغداد التي لا تنام، لأنها لا تنتمي إلى ليل، وهي التي لا تُقهر، لأنها ليست من حجر، بل من روح. هي التي لا تموت، لأنها ليست من هذا العالم فقط، بل من العوالم كلها، وإذا كنت تبحث عن المعنى، فاذهب إلى بغداد، وإذا أردت أن تعرف من أنت، فاجلس في ظلّها، وإن ضعت بين الطرقات، ستأخذك يدها، كأنها تقول لك
"أنا أنت.. إن كنت تعرف من تكون."
1062 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع