د. سيّار الجميل
(1) القطيعـــة التاريخيـــة: ضـرورة مستقبليــة
معنى التشاكل التاريخي
التشاكل التاريخي مصطلح يستخدم في تواريخ الارض وعصورها الجيولوجية ، وهو يعني ان الازمان لا تتغير بسرعة مهما يصيب الطبقات في الارض من عفن او تقادم او صلاح ! ويحظى اغلب الامم بتواريخ وطنية / قومية مهما بلغت درجتها من التنوع والتعدد والالوان بالتماثل homogeneity مما يكسبها قيمة في المجال التواصلي بين الاجيال . فمن دون ذلك لن يتحقق التواصل على النحو الأمثل. وربما نجد تواريخ اخرى لأمم اخرى لها تعقيداتها كونها تفتقد الاتساق consistency ، ولكنها تبقى موحدة ضمن اهداف متقدمة وجديدة ، بل وان مجتمعاتها منتظمة التفكير مهما بلغت فيها عوارض التواصل " وهي في الحقيقة عوامل تشويش" مختلفة تحول دون إيصال المحتويات إلى المتلقين مع تواصل الاجيال .
ولهذا ينبغي على العراقيين ان يكونوا في الوسط دوما في قراءة تاريخهم كله ، وان يعتمد المواطن على كمية إضافية من المعلومات ويتربى على اقصى ما يمكن من الحيادية كي لا يبدل الرموز التاريخية ويجعلها بمثابة آلهة مقدسة يتعبد في محاربها ، تؤجج عواطفه ومشاعره وتشغله عن حياته ، بل وتعمي بصيرته عن مصيره ومستقبله .. وعليه ، فالانتظام في التفكير بحيث يفرق المرء بين ما مضى وما هو حي يضمن وجوده كإنسان معاصر في مجتمع حديث يؤمن بالتفكير النسبي لا التفكير المطلق ، وان المطلقات عادة تمزق حالة الانتظام , constancy وتجعله يعيش هوس الماضي ويجعل من نفسه حكما يفصل في قضايا خطيرة مضى عليها مئات السنين .. فيصطدم مع غيره من ابناء وطنه ، فيتشكل اكثر من تاريخ واحد في وطن واحد ، كل طرف يفسره حسب اهوائه ، فهذا يسحبه ليجعل منه صفحات لامعة يتفاخر بها وبرموزها واسمائها وكل عناصرها ، وذاك يحسبه صفحات سوداء يدينها ويجعل من رموزها مجموعة من المجرمين القتلة ، بل ويضع نفسه خصما لكل التاريخ وصناعه !
وهذا ما أسميه بـ " التشاكل التاريخي " Historical uniformity وهذا التشاكل الذي استفحل اليوم في العراق جراء تطبيق سياسات مؤدلجة رعناء منذ اكثر من نصف قرن ، قد عبثت بالوعي الوطني تحت مسميات شتى ، ومزقت نسيج الحياة الاجتماعية ، واضرت جدا بفاعلية التواصل بين الاجيال زمانيا وبين ابناء المجتمع مكانيا . واليوم في ظل نظام الحكم المهترئ الحالي ، يلجأ كل من هو مهووس بالماضي العقيم وترسباته وبقاياه المتعفنة الى استخدام ابشع الوسائل لبث الكراهية والبغضاء ضد كل من يخالفه من اجل تعزيز ما يؤمن به او ما يعلنه من مانشيتات واعلانات ونصوص وآيات ، وبالرغم من كونه يجهل تاريخه جهلا مطبقا ، وانه يردد ما يسمعه عبر وسائل الاعلام ، او يقال له من قبل ابناء طيفه، او ما يردده الملالي الجهلة لهذا الطرف او ذاك ، فهؤلاء جميعا مجرد ادوات تشويش وعناصر تجتمع فيها كل الادران وليس عندها الا النفاق والكذب والدجل وهي تعيق فهم محتويات المجتمع ومتطلباته في الحاضر .
وعليه ، فان هناك من يعتبر " التشاكل " مفهوما ملطفا" للدلالة على تواتر المقولات الدلالية المتواترة والساذجة والمشوهة التي تجعل القراءة الموحدة للنص التاريخي غير ممكنة ، وكل ما يدور من كلام غير علمي ، انما يأتي لاغراض مؤدلجة سياسيا او دينية عقدية او مذهبية طائفية للتنكيل بوحدة المجتمع والوقوف بوجه نموه وتطوره وحداثته ، هنا يغدو التشاكل التاريخي عقبة كأداء امام التقدم كونه اداة لتمزيق ليس المجتمع وحده ، بل الامة كلها .. وان العراق اليوم يعد اصعب بلاد تعاني من التشاكل التاريخي المعقد ، فمثلا يعد العراق مركزا حيويا باستقطاب بغداد للخلافة العباسية التي دامت دولتها اكثر من خمسة قرون 750- 1258 م وعاشت اكثر من عصر تاريخي ، وغدا العراق مركزا للعالم الاسلامي من اقاصي المغرب الى اعماق المشرق .. وكان للعرب المسلمين دورهم الحضاري في تاريخ البشرية إبان العصور الوسطى ، وان مؤسسها الاول كان حفيدا للعباس بن عبد المطلب عم الرسول الذي تسمّت الدولة باسمه .. لم تعترف الشيعة الامامية بهذا " الحكم " معتبرة اياه مغتصبا للسلطة من أتباع الامام علي ، وهي لم تعترف بالخلافة الاموية من قبله والتي دامت بحدود 92 سنة ، بل ولم تعترف بكل من الخلفاء الراشدين ابو بكر وعمر وعثمان ..
ان التشاكل العراقي يكمن هنا اساسا بين طرفي السنة والشيعة ذلك ان الطرف الاول من السنّة يعتبر ما حدث في التاريخ قضيّة سياسية وتاريخية اسوة ببقية القضايا الاخرى التي توالدت عنها نزاعات وصراعات وحروب .. في حين يعتبرها الشيعة الجعفرية الاثنا عشرية قضية شرعية ومقدّسة ، وان الحكم كله مغتصب من اصحابه الشرعيين ، بالرغم من ادعاء العباسيين انفسهم انهم من آل البيت كونهم من سلالة العباس عم الرسول ، ولكن الحجج الشيعية تقول بأن الشرعية منحصرة ببيت الإمام علي بن ابي طالب فقط ! واعتقد السنّة ان الخلاف لم يكن شرعيا ، ذلك ان التلاقي الاجتماعي لا السياسي كان ثابتا ، فالإمام علي اعتبر واحدا من العشرة المبشرة بالجنة .. وان الزيجات كانت موجودة بين الطرفين بحيث نجد – مثلا - ان الامام محمد الباقر كان متزوجا بأم فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق ، وهي التي انجبت منه الامام جعفر الصادق . وهناك عشرات الامثلة التاريخية تؤكد ان التلاقي كان موجودا ، ولكن كلما كان الزمن يتقّدم الى الامام ، نجد ان الشقة تتوسع بين الطرفين ، ويحل الافتراق محل التلاقي ..
المجتمعات الواعية والمتقدمة خالية من التشاكلات التاريخية
إن المجتمعات المتقدمة لا تشاكل تاريخي فيها ، كونها قد مارست القطيعة التاريخية بينها وبين الماضي ، فلا اجندة مفروضة من قبل سدنة التاريخ ومقدسات الماضي على الذهنية الحديثة ، فلا يهمها ان تصفي حساب طرف على طرف آخر بعد مئات السنين ! ولا يهمها ان تأخذ بالثأر لمقتل قديس او امام او خليفة من احفاد قتلته ! ولا يمكنها ان تصارع نفسها من اجل مشكلات سياسية او فكرية حصلت قبل الف سنة ! ولا يمكنها ان تخلط سياسات الحكام والزعماء مع توجهات خصومهم .. انها تعزل اللاهوت عن السياسات .. انها تعتني بقضايا الاديان بعيدا عن تاريخ الحروب الدينية او المذهبية .. لقد تشكلت قطيعتها التاريخية مع تضاعيف القرن الثامن عشر وثورة عصر الانوار وتحطيم هيمنة رجال الدين على الحياة بعد سحق الباستيل وفسح المجال للحرية وتقييد الفكر الذي كان يهيمن على الاذهان ..
ولعل اهم ما اصاب التغيير في التطلع الى الحداثة الرؤية الموحدة للانسان والمجتمع بعيدا عن انقساماته التاريخية وحروبه الدينية وصراعاته المذهبية .. وتركوا التاريخ لمن يعمل عليه من مؤرخين ومختصين ودارسين ونقاد وعلماء .. تركوا لهؤلاء دراسة التاريخ والتعامل مع تواريخ الامم والزعماء والعلماء والمقارنة بين الاديان والوعي بالتجارب .. لم يتدخل العامة في الشؤون التاريخية .. ولم تشغل النخب بالها وافكارها بالقضايا الماضوية .. ولم تشتعل مجتمعات اليوم باستخدام مشكلات قديمة منذ العصور الوسطى واتخاذها ذريعة لتمزيق المجتمع ! ولم ينحدر زعيم دولة او رئيس وزراء اي امة ليتكلم باسم مذهب ضد مذهب ، فيساهم في احراق بلاده ! سيسجل التاريخ في المستقبل صورة تراجيدية مأساوية وكئيبة عن هذه المرحلة التي يمر فيها العراق ، والذي يشهد اليوم اخطر مهزلة عرفها في تاريخه وما سيترتب عليها من آثار وتداعيات بحق الاجيال .
العراق ومكانته في التاريخ البشري
ان لكل امة من الامم تاريخها الذي تحترمه وتعتز به مهما تضمن في بعض ثناياه من حسنات وسيئات ، او كم عاش في جوانبه من حماة وطغاة ، او ما تمتع به من انتصارات وانكسارات .. ولكنه يعد في النتيجة : حصيلة تجارب حيّة تعيش في ذاكرة الشعب لكي يستفيد منها ، وكل شعب يعتز بآبائه وأجداده ، او حتى بأزمنة شهدت حالات من الترقي والتطور الحضاري .. وان لكل عصر تاريخه وعناصره واحداثه وشخوصه .. ولم اجد انكليزيا ولا ألمانيا ولا فرنسيا او سويسريا او إسبانيا او غيرهم جميعا لا يعتز بتاريخ امته ، بل يعتني بقلاع اجداده في العصور الوسطى وحياتهم وآثارهم وقصور اباطرتهم وملوكهم وقياصرتهم .. ويشكل كل عصر من العصور بنية تاريخية له تتباين عما سبقها من عصور وتختلف عما يتلوها من ازمان ، فلا يمكن ان يبقى التاريخ على ما هو عليه ، بل انه يتجدّد دوما ، ويتقدم على ما سواه جراء ما يتراكم فيه من متغيرات لم يكن السابقون قد عاشوها او وعوا بها ابدا .
كان العراقيون يهتمون بتواريخ متنوعة عاشها العراق اهتماما كبيرا ، وكانوا يعتزون بهذا " التاريخ " اعتزازا كبيرا ، ولكنهم باتوا اليوم ويا للأسف الشديد لا يقيمون اي اعتبار لتاريخ وطنهم ، بل ويتجاوز البعض عليه تجاوزات فظّة ومنكرة ، ويسيء اليه والى عناصره والى رجاله والى صفحاته واحداثه اساءات كبرى .. بل وبلغ الامر الى حد الشتام والسباب علنا ومن دون اي وازع اخلاقي او ادبي يراعي فيه القيم الحضارية والاجتماعية بعيدا عن السياسة والتاريخ السياسي .. ومن جانب آخر ، كثرت الاساءات البالغة والتشويهات المتعمدة مع التزويرات .. او النقولات التي تبالغ في تحريف المعلومات وصبغ الحقائق بصبغات كاذبة شائنة .. ان تاريخ العراق هو ملك لكل العراقيين ، ولا يمكن ان يتم نخره وتشويهه وتزويره والاساءة اليه بمثل ما يجري عليه الحال هذه الايام ، وخصوصا في وسائل الاتصالات الحديثة . ان التشاكل التاريخي واحد من اهم العوائق التي تقف وراء اي عراقي مضطرب التفكير ضعيف المواطنة محدود الافق كي يستهجن تاريخه .. ويستقبحه علنا ، علما بأنه يدري او لا يدري بأنه سليل وطن يكتنز بتاريخ ثقيل جدا وغني جدا ، فالعراق له مكانته العليا في تاريخ البشرية .
ان الضرورة باتت ماسة الى توظيف مبدأ " القطيعة التاريخية " من اجل فهم التاريخ فهما معمقا ، لا الايمان به ايمانا اعمى .. والقطيعة انك تقطع صلتك بالماضي وتبقى حياديا في معالجتك التاريخية كجزء من مهام فهم التاريخ الوطني .. وان تتعامل مع كل التاريخ برؤية واحدة ، شريطة ان تكون مجردة من كل ادران الحاضر وسياساته ومؤدلجاته واجنداته العقيمة .
363 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع