د. سيّار الجميل
خصوصية تاريخ العراق العام
قلت في مقالة سابقة قديمة نشرتها 2008 وعنوانها :" إشكالية - التاريخ - في الثقافة العراقية " (الحوار المتمدن-العدد: 2295 - 2008 / 5 / 28): " لكن للتاريخ طعم خاص لدى العراقيين .. وله مناخات لا حصر لها من أنواع متعددة وفضاءات متنوعة .. صحيح أنه مضطرب ومنقسم ومزدحم التناقضات في ذاكرتهم ، إلا أنه يحتل كل تفكيرهم ، فمنهم من يثلمه ، ومنهم من يقصيه ، ومنهم من يعيش بعض تناقضاته ليل نهار وبعض من يتملكه ويحتكره لنفسه ضد غيره .. بل إن رواسب التاريخ وبقاياه هي الأقوى في المجتمع العراقي مقارنة بغيره من المجتمعات ! " ..
إن الدعوة الى ان يكون تاريخ العراق موحدا ومتفقا عليه في مثل هذه الايام ، عملية صعبة بل وأجزم انها مستحيلة ، ولكن ينبغي ان تكون مهمة اساسية ولكل مؤرخ له وطنيته وغيرته على مصير بلده من الانقسام والتشرذم .. والمأساة ان البعض من العراقيين لا يؤمن بوجود العراق اصلا ، ولا يعترف بحدوده الجغرافية ، فكيف به يؤمن بتاريخه الوطني المحدد .. كما ان هناك اليوم من لا يؤمن ايضا بوحدة المجتمع العراقي ، ويعتقد ان العراقيين مجموعات متناثرة من اصول متباعدة ، وهو مجتمع " لملوم " لا توحده اية عوامل او غايات ، فكيف يؤمن امثال هؤلاء بتاريخ وطني للعراق ، علما بأن العديد من المؤرخين والمستشرقين غير العراقيين وصفوا العراق بـ "صاحب اثقل تاريخ في الدنيا " ، كونه قد شحن بالاحداث الكبرى ، وكان مركزا لحضارات متوالية وثقافات متنوعة واديان عدة ، كما كان منبعا للأساطير والملاحم لدى البشرية.. وكان معبرا لاقتصاديات الدنيا ، وتجسدت فيه زعامات قوية مذهلة كان لها تأثيرها على تاريخ العالم .. اضافة الى ان العراقيين كانوا على امتداد التاريخ من اذكى الاقوام البشرية وقد ابدعوا في مختلف العلوم والآداب والفنون .. ولكنهم باتوا اليوم على غير ما كان آباؤهم واجدادهم ، وقد نخرتهم عوامل داخلية وخارجية ، فأمسوا وقد افتقدوا هويتهم الوطنية جراء ما اتبع من سياسات خاطئة على امتداد خمسين سنة مضت منها ذهبت باتجاه اقصى الشوفينية واليوم باتت في اقصى الشعوبية ، وكان يلازم هذه او تلك اسوأ انواع التعصّب والتطرف والتفرقة والكراهية مما احيا العصبيات الطائفية والمحليات الجهوية والعشائرية .. ولم اجد من خلال دراستي المتواضعة لتاريخ العراق ان مرّ المجتمع العراقي بحالات قاسية ضد نفسه كما يعيشها اليوم .. وكلما يمتد الزمن مع وجود مثل هذه العوامل التي انضجتها طبقة سياسية حاكمة مهترئة ، كما زاد امر العراق سوءا !
هكذا بلاد سميت ببلاد وادي الرافدين او بلاد ما بين النهرين كانت اليوم بحاجة الى ان تخرج للعالم بأجندة متحضرة متمدنة تعتز بتواريخ العراق وتثمن رموز تاريخ العراق .. وانها تدافع عن كل العراق وتاريخ كل العراقيين لا ان يتشاكل التاريخ العراقي سياسيا بأيدي فرقاء او خصماء ، وتنتقل العداوة السياسية الرعناء والكراهية الطائفية المقيتة الى جعل التاريخ حقلا للمقايضة والتسقيط والتأليه والتجريم ، وكأن العراقيين اليوم هم من المسؤولين عن تواريخ مضت منذ مئات السنين ! وكأن الحاضر مسؤول عما قضى به السلاطين والخلفاء او صرح به الائمة والفقهاء ..
العراق : جيوتاريخية مركّبة
كما هي جغرافية العراق الطبيعية والبشرية مركبة ، كذلك هو تاريخه القديم والوسيط والحديث له مركباته الصعبة . إن التاريخ في العراق ليس بتاريخ واحد موحد ، بل يتركب من عدة تواريخ مضاد بعضها للآخر ، ولا يمكن البتة ان يُعتمد اي تاريخ وطني لكل العراقيين ان بقوا منقسمين ليس على واقعهم ومصيرهم ، ولكنهم منقسمون حتى على تحديد إطار تاريخهم المتشعب والمتصارع والمشرذم سياسيا .. ان العراقيين في ما مضى من السنين كانوا منجذبين الى تاريخهم الوطني او العربي كونهم تربوا على أطر تربية مدنية ووطنية وحضرية بعيدا عن كل الادران الماضوية .. وكانوا يعتبرون انفسهم خلفية لتأطير الأحداث التاريخية التي يعتزون بها وبرموزها بعيدا عن التشاكل وخلق الاضداد وبالتالي خلق النزعات الكريهة في اوصال المجتمع .. وكانت المناهج الدراسية في درس التاريخ خصوصا تشدد على درس تاريخ العراق القديم وحضاراته الاولى ، ثم الانتقال الى درس التاريخ العربي الاسلامي والوقوف عند الادوار التاريخية المجيدة للعراق ومكانته القوية في العصور الوسطى ، وتعزيز ثقة الاجيال الجديدة بالايجابيات الحضارية دون المثالب والسلبيات السياسية والقضايا المذهبية .. كي لا تعمل على تعزيز احتمال وقوعها.
ومما يدل على ذلك أن المؤرخ العراقي لا يثقل الروايات بالأحداث التاريخية ولا يجانب الصواب فيها ولا ينحرف عن موضوعيته ، ولم يذكر التواريخ الحساسة إلا باحتراس فهو حريص على تغليب الموضوع على الذات ، والواقع اليوم على اخيلة الماضي وحشوه بالأساطير والاكاذيب والعواطف والتفاهات ، وعيا منه بأن كتابة التاريخ لا ترتبط بدين ولا بمذهب ولا طائفة ولا بأخيلة ولا بعواطف ولا بجماعة مقدسة .. انه يؤرخ لمرحلة معينة في الحاضر وان ما يتطلبه الحاضر من ضرورات هي اكبر بكثير من اجندات الماضي . وهذا هو الفرق بين ما يقوله المؤرخ الحصيف وما يردده السياسي التافه او الشخص العادي الذي ما تمنحه هامشا من الحرية ليقول ما عنده في شؤون معينة من الأحداث التاريخية ، إلا وانبرى ينكّل بها بكل عواطفه كي يصفي حساباته مع من يتخيل او يعتقد انهم خصومه .. في حين يعمل المؤرخ الحيادي على إعادة تمثيلها دون أن يجرؤ على قلب الحقائق وتمويهها.
التشاكل التاريخي : حالة تضاد للوحدة الوطنية الحديثة
السؤال الآن : ان التشاكل التاريخي في العراق لا يقف عند طرف دون الطرف الآخر ، فلا يمكن لأي طرف ان يدعو الى حكم شرعي / ديني دون ان يسمح للطرف الآخر ان يقيم حكمه الشرعي / الديني ايضا ، فكيف يقام في العراق اي حكم شرعي / ديني بوجود هذا التشاكل الخطير بين طائفتين ؟ وعليه ، لا يمكن ان يعمل اي حزب او منظمة او تحالف على اسس دينية او مذهبية او طائفية .. كي يشرعن الصواب لنفسه من دون ان يسمح لغيره من حزب او منظمة او تحالف يقوم على اسس دينية ايضا ! وسواء كان النظام جمهوريا او ملكيا او اميريا او رئاسيا او برلمانيا ( او حتى قبليا او عشائريا ) .. فلا يمكن ان تعمل فيه اية قوى دينية تؤمن بأشياء وتطبق اشياء اخرى .. لا يمكن لأي حياة ديمقراطية ان تنجح في نظام تتعرّى فيه التناقضات كونها " ديمقراطية كاذبة ، ان ضمت عناصرها حركات واحزاباً دينية كون هذه الحركات والاحزاب في عملية سياسية كسيحة لا تؤمن ايمانا حقيقيا بالديمقراطية التي لها ركائزها واسسها ونظمها في الحياة السياسية الحديثة ، وهي لا تعمل باستقامة ولا حتى ببدائية ان كان الوعي بها معدوما او شبه معدوم اولا ، وان كانت الحياة العامة قد انعدمت منها الحريات كاملة ، والحريات انواع تبدأ بالحريات الشخصية ثم الجمعية ثم الرأي وحرية الفكر وانتهاء بالحريات السياسية والحريات العامة . فكم ستمنح الحكومات الدينية من حريات الى المجتمع ؟ فهل فكّر البعض ممن يصفقون للاحزاب الدينية كيف يمكن بناء دولة حديثة مع تفاقم التناقضات العقيمة التي يذكيها التشاكل التاريخي وتعقيداته القديمة ؟
ولما كانت الحياة السياسية الحديثة لا تقوم إلا على اسس ديمقراطية او ليبرالية او اشتراكية ، فان كل من يفرض اجندة عقدية او دينية او مذهبية او طائفية لا يمكن له ان يعمل اليوم في ظل حياة مدنية لا تشاكل تاريخي لديها مع الماضي البعيد .. ان الحياة السياسية والفكرية والاجتماعية المعاصرة المتقدمة اليوم في العالم ، لا تقيم وزنا للماضي كي يكون اساسا للحكم في هذا العصر ، او ان يكون حكما بين الحاضر والمستقبل ! وهي نقطة جوهرية لقوم يعلمون ويعقلون لا لقوم يناورون وينافقون ويكذبون على ربهم وعلى انفسهم وعلى الاخرين .. ( وكم شرحنا وحللنا ذلك قبل سنوات سواء في مقالاتنا او في حواراتنا ، واخص بالذكر جادة حوار بيني وبين الصديق المفكر الدكتور كاظم حبيب حول موضوع الديمقراطية ) .. ان الدولة مهما كانت طبيعتها او طبيعة نظامها السياسي ، لا يمكنها ان تكون اداة طيعة بأيدي اعضاء اي حزب حاكم ، او طغمة متسلطة ، او فئة حاكمة ، او طبقة مسيطرة ، او قبيلة متنفذة ، او عائلة مستبدة ..الخ فكيف اذا تسلطت فئة متعصبة متورمة وهي تسيطر على المجتمع بأكمله باسم دين او باسم طائفة او باسم مذهب او باسم ميليشيا ؟ وهذا ما امكن توقعه منذ زمان مضى .. وستكون نتائجه وتداعياته التاريخية خطرة جدا على مستقبل العراق والمنطقة اجمعها !
والخلاصة : غياب المسؤولية وغيبوبة المؤرخين والمفكرين المحدثين
إن العراق سيبقى يعاني طويلا من أشلاء دولة فاشلة ليس باستطاعة طبقة سياسية جاهلة يقودها نفر ضال من المسؤولين المتعصبين والمنافقين وعديمي المعرفة والاخلاق الذين يشكلون اليوم طبقة حاكمة تحكم على اسس طائفية ، وهي طبقة توازي في التعصب والجهالة الطبقة السياسية التي حكمت العراق سابقا ، ولكن هذه " الطبقة الجديدة " لم تقتصر على جعل الدولة صاحبة مؤسسات فاشلة وعقيمة ، إلا انها سمحت للمجتمع لأن يتفسخ لسماحها بالصراع بين اطيافه وبث الكراهية والاحقاد واتباع سياسات التهميش ضد العراقيين ، وانها التزمت بما أسمي بالمحاصصة اسما ، واعتمدت على أسوأ العناصر في القيادة وصنع القرار .. ولم تمتلك تلك العناصر ادنى درجة من الوطنية ، فضلا عن تعامل المسؤولين مع شعبهم من ابراج عاجية ، فهم معزولون عن كل الشعب لا كرها له فقط ، بل خوفا منه ايضا .. ان العزف المؤلم على اوتار الطائفية البائسة قد خلق ردود فعل ساخنة جدا في كل المجتمع العراقي . بحيث شمل الاستخفاف ليس بالوطن والارض والجغرافية ، بل إقحام التاريخ ومعضلاته في قلب الازمات السياسية اليوم كي يصفق هذا على حساب البطش بذاك !
إن التشاكل التاريخي الذي يمر بالعراق سياسة ومجتمعا منذ اكثر من 12 سنة سوف ينتج المزيد من الادران والامراض التي ستبقى مزمنة ومتوطنة في العراق لأزمنة قادمة .. والمشكلة الحقيقية ان لا احد باستطاعته ان يفصح عن طبيعة المرض الذي يسري عند كل العراقيين ، وخلا الجو من الحكماء الذين باستطاعتهم ان يقولوا : كفى عبثا بالمصير .. وكفى ترديدا للكراهية ، وإحياء للمعضلات القديمة .. وخلا الواقع من مؤرخين عراقيين باستطاعتهم لجم افواه من يريد سحق التاريخ الوطني وحرق رموز تاريخية متوازنة بين الجميع ، وخلق حالات من التشرذم .. وكل هذا وذاك من اجل خلق شحن طائفي كريه ، للوصول الى تصفية حسابات تاريخية لا تنتج إلا الويل والثبور وعظائم الامور على حساب مستقبلنا ومصيرنا . فليس امام العراقيين ، الا القطيعة التاريخية مع تشاكل الماضويات السياسية لبناء تاريخ حضاري معاصر حقيقي من خلال رؤية تاريخية موازية ومعرفة حقيقية واعية . فهل وصلت رسالتي الى كل العراقيين ؟
389 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع