"الأمة العربية بين الثورة والانقراض"
علاء الدين الأعرجي
استعراض موسّع لمحاضرة في مركز الحوار العربي – منطقة واشنطن.
العاشر من حزيران/يونيو 2015
أكرر شكري الجزيل وتقديري الكبير لـ"مركز الحوار العربي"، وعلى رأسه المفكر الكبير الأستاذ صبحي غندور، على دعوته لإقامة هذه الندوة. وقد نجح هذا المركز الجليل في أن يجمع حوله عدداً كبيراً من المثقفين العرب في أمريكا، خلال أكثر من عشرين عاماً من عمر مركز الحوار، حيث عقد مئات الندوات الأسبوعية مع كبار الأكاديميين والمفكرين والسياسيين والأدباء للتعامل مع مختلف القضايا العربية الفكرية والاجتماعية والتاريخية والسياسية الساخنة، وبذلك قدّم خدمات جليلة للقضية العربية في المهجر.
ولئن اقترحت أن يشكل هذا المركز المتميز، نواةً لمؤسسة علمية ثقافية اجتماعية سياسية، تهدف، بين أمور أخرى، إلى خدمة بلادنا الأم ومحاولة إنقاذ هذه الأمة من هذه الغمّة، لاسيما وأن الشعب العربي في المهجر حافل بالأكاديميين والمفكرين والعلماء المقتدرين، الذين يتمتعون بحرية الفكر والتعبير والتنظيم؛ بيد أنني علمت أن الأخ صبحي غندور غير غافل عن ذلك، بل يسعى إليه منذ فترة، بالتعاون مع عدد من الأشخاص والمؤسسات، ومن بينها "مكتبة الحكمة" الثرية بمجموعتها العربية النادرة وبمديرها الناشط الأستاذ الفاضل ضياء السعداوي الحريص على خدمة مختلف الأعمال الثقافية العربية المتميّزة. وبهذه المناسبة أود أيضاً أن أشير بإكبار إلى مؤسسة "توفيق" العلمية الرائدة، التي أنشأها الأخ الدكتور عبد الهادي الخليلي.
ولابد أن أتقدم بالشكر الجزيل والتقدير الكبير، لجميع المشاركين في هذه الندوة، الذين يمثلون نخبة متميزة من المجتمع العربي في منطقة واشنطن، والذين تفضلوا فحضروا المحاضرة وناقشوا المحاضِر بكل موضوعية، ومنهم: د. داود خير الله - د. عبد الهادي الخليلي - د. لوئي بحري - د. وديع حمندي - أ. زيد حمندي - د. أميرة عرفات - د. مساعد الحسيني - د. جميل فايز - د. ملاك بن سالم - د. صفي الدين حامد - أ.عمر خالدية - أ.ضياء السعداوي - د. محمد الطريحي - أ.غبريال حبيب - أ.عبد الله حسن - د. نعيم عطية - د. عبد الغفار موسى - د. فضيل عرفات، وغيرهم. كما أشكر الشاب النشيط الأستاذ حسام الصروي على جهوده الكبيرة في تسجيل المحاضرة بالصوت والصورة ومساعدتي في السفر إلى واشنطن.
***
وفيما يلي فحوى محاضرتي، الذي أعترف أنه قد لا يكون مطابقا ًتماماً للأصل، وذلك لعدة أسباب، أهمها أن المحاضرة كانت مُرتجلة، وثانياً، إنها كانت مقتضبة بسبب محدودية الوقت المتاح للمحاضِر، وإتاحة الفرصة للمناقشة، وثالثا، بغرض إضافة أو توضيح بعض النقاط التي لم أفِها حقها في المحاضرة، وذلك لإتمام الفائدة. علماً أنني تعمدت أن أفصّل وألوِّن بالأحمر العناوين الرئيسية، لإتاحة الفرصة للقارئ أن يختار منها ما يشاء.
1 -التخلف الحضاري
أفترض في كتابي هذا: "الأمة العربية بين الثورة والانقراض" أن "تخلفَنا الحضاريّ" ولاسيما الفكري والعلمي والتكنولوجي، هو الذي أدى إلى جميع الإشكاليات والنَكَبَات التي حصلت وستحصل للأمة العربية. وليس لي فضل في اكتشاف هذه الفرضية، لكنني اقتنعت بها من خلال تلمذتي على يد أستاذي علي الوردي أولاً،[1] ثم زادت قناعتي بها خصوصاً، بعد أن خاب ظني بالثورات/الانقلابات التي حصلت منذ منتصف القرن الماضي،(مصر، العراق، ليبيا سوريا، (الجزائر التي كانت ثورة تحرير شعبية بكل معنى الكلمة ...)، والتي كانت قد حصلت على تأييد الشعوب العربية بداية.
فبعد مرور نصف قرن على تلك الثورات التي حررتنا من الاستعمار الأجنبي، لاحظنا، ونلاحظ اليوم أكثر ( منتصف عام 2015 )، أن أوضاعنا قد تردت (ولاسيما بعد ظهور داعش) على نحو ننزلق فيه إلى هاوية ليس لها قرار، أي "الانقراض"(كما سيأتي شرحه). فاستنتجت أن العيب في "الأنا" أكثر كثيراً من أثر "الآخر" ودوره السالب. فلولا ضعفنا وتشتـتـنا لما استطاع "الآخر" اختراق صفوفنا.
نعم، للاستعمار دور في تردي أوضاعنا، ولكنَّ المسؤولية تقع علينا كعرب، في المقام الأول، ولاسيما على المثقفين والأنظمة، بسبب تقاعسنا وفشلنا الذريع في تطوير قدراتنا للحاق بركب الحداثة. وقد تَبَلْوَرَتْ لديّ هذه الفكرة خصوصا بعد هزيمة الـ 67 التي أكدت اقتناعي بنفس السبب.
وكنا نأمل من الثورة الشعبية العربية الأخيرة، التي انبثقت منذ مطلع عام 2011، أن تكون فاتحة لنهضة عربية جديدة،[2] إلا أن بعض الحركات الإسلامية الرجعية، التي تُمَثِلُ قِمة التخلف، ولاسيما المتطرفة والتكفيرية، انتعشت وتمددت، وتمكن بعضها من الاستيلاء على أجزاء كبيرة من أراضي الوطن العربي، وأصبح يهدد جميع البلدان العربية الأخرى. وهذه الحركات وعلى رأسها "داعش" تمثل أقصى درجات التخلف والجهل.
وفي هذا الجو المختلط والمفعم بالعواصف والصراعات والحروب الأهلية والبينية، قد يشترك "الآخر" (إسرائيل مثلاً) بشكل غير مباشر، في تأجيج النار، أو/ و تحريض أحد الأطراف على الآخر، بل مساعدته للمضي في الصراع دون هوادة، لتحقيق أهدافه في إنهاك العرب واستنزاف طاقاتهم، ثم تقسيم البلدان العربية وتفتيتها.
وهكذا كانت فكرة التخلف محوراً رئيسياً لمعظم كتاباتي. وقد فصّلتُ في الفصل الأول من هذا الكتاب تحت عنوان "الثورة العلمية والتكنولوجية نعمة أم نقمة؟"، أبعاد هذا التخلف وتأثيره على فشل مشروع النهضة العربية.
2-الفجوة الحضارية وسيطرة الآخر
ونتيجةُ هذا التخلفِ أيضاً، حصلتْ فجوةٌ حضاريةٌ، وخصوصاً معرفية؛ علمية وتكنولوجية، وبالتالي بنيوية، بيننا وبين العالم المتقدم، (بما فيه إسرائيل) وهي تتزايد بمرور الزمن. وكلُما ازدادتْ الفجوةُ عُمقاً واتساعاً، ازدادتْ سلطةُ "الآخر" علينا، بشكل مباشر أو غير مباشر. لذلك نرى إسرائيل تصول وتجول، وتضرب أهدافاً معينة في عمق الوطن العربي ولاسيما في سوريا، بلا رادع. وهذه رسائل موجهة إلى جميع البلدان العربية الأخرى، تقول: نحن لكم بالمرصاد، فتأدبوا!!! هذه النقطة، -أقصد الفجوة العلمية والتكنولوجية بيننا وبين الآخر ولاسيما إسرائيل- تكاد تكون غائبةً عن اهتمام المفكرين والمعنيين العرب، مع أهميتِها وخطورتِها. وقد أثرتُ هذه النقطة في حواري المسهب مع المفكر محمد عابد الحابري. [3]
3-انقراض الأمة العربية
وأرى أن هذا التخلفَ، إذا استمر على هذا المنوال، سيؤدي في النهاية إلى انقراض الأمة العربية، باعتبارها كياناً يتميز بـ"عقل مجتمعي" يتكون من منظومة ثقافية تتشكل من لغة وتاريخ وتراث مشترك، وطموحات وإشكاليات مشتركة. ونحن نعلم أن الأمم/ الحضارات، تظل على فراش الموت مئات السنين، قبل أن تسلم الروح. وقد توقع المؤرخ المعروف أرنولد توينبي للعرب والمسلمين هذا المصير في كتابه الموسوعي "دراسة للتاريخ" Study of History . [4]
4 - بعض مؤشرات السقوط:
وقد وضعتُ في كتابي هذا عشرة مؤشرات، من بين عشرات أو مظاهر أخرى، تؤكد مسيرتَنا في طريق الانقراض. منها: 1)الاحتلال الاستيطاني المباشر المتمدد، وغير المباشر المتشعب (إسرائيل)، الذي يواصل سريانه في شرايين الأمة وتخومها كالسرطان، لاسيما إذا تحقق التطبيع أو بالأحرى، التطويع. 2)الحروب الخارجية والبينية والأهلية المتواصلة منذ أكثر نصف قرن، على الأقل. 3) النزوح الداخلي والخارجي: الهجرة الجماعية والفردية للملايين من مختلف البلدان العربية ولاسيما أثناء الصراعات المسلحة كما يحدث اليوم، وهجرة العاطلين والفقراء إلى الخارج للبحث عن لقمة العيش. 4) تفتيت البلدان العربية إلى دويلات صغيرة وضعيفة، على أساس طائفي أو مذهبي أو عرقي. 5) تزايد الفجوة الحضارية بين العرب والمجتمعات الحداثية، بتقدم الزمن، كما أسلفنا. 6) إفراغ البلدان العربية من العقول النيّرة، بتصفية العلماء والمتخصصين، كما حدث في العراق بعد الاحتلال، أو بدفعهم إلى الهجرة خارج الوطن.7) محاربة أصحاب العقول النيّرة من ذوي العقل الفاعل (الوردي، أبو زيد، فودة)، من الداخل، من جانب القوى الرجعية، ولاسيما الدينية المتزمتة.8) والأهم من كل ذلك، غفلة الأمة أو عدم وعيها الكافي لهذا المصير الوشيك الذي يتهددها. بل نُلاحظ أن الكثير من العرب المسلمين يساهمون، دون وعي، في تعجيل هذا المصير بسلوكهم غير المسؤول في كثير من الحالات، منها على سبيل المثال، نشر بذور الفتنة الطائفية بين مختلف فئات الوطن الواحد، بسبب اختلاف المذهب أو الطائفة أو الدين. إن مجرد التعصب لمذهب المتكلم ورفض المذاهب الأخرى أو تسخيفها، أو وضعها في موضع أدنى، يؤدي إلى ردود فعل متشنجة، معاكسة، وبالتالي إلى إشعال نار الفتنة.
"يفعل الجاهل بنفسه ما لا يفعله العدو بعدوه"
وفي الحديث الشريف "إن الأحمقَ يصيب بجهله اكثرَ من فجور الفاجر" (عن أنس بن مالك)
ويقول الشاعر:
لا يُدرك الأعداءُ من جاهل ما يدرك الجاهل من نفسه
5- السؤال الكبير، الجواب؟
السؤال الذي طرحته على نفسي، وهو نفس السؤال المطروح منذ قرنين تقريباً: هو لماذا تخلفنا وتقدم الآخر؟
ومع أن هذا الموضوع قد أعيا جمهور المفكرين العرب، وكتب فيه الكثير، لاسيما في العصر الحديث، ومنهم علي الوردي ومحمد جواد رضا وزكي نجيب محمود وحسن حنفي وفؤاد زكريا ومحمد عابد الجابري ومحمد أركون وغيرهم الكثير. إلا أنني تجرأت في أن أدليَ بدلوي الصغيرة بين دلاء عمالقة الفكر العربي المعاصر. وذلك سعياً لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، كمحاولة لمعالجة هذا التخلف كواقع قائم. لذلك حاولنا تشخيص الداء قبل كل شيء، باعتبار أن تشخيص الداء قد يكون نصف الدواء. فطرحنا ثلاث فرضيات/ نظريات متواضعة تحاول تشخيص المرض، وربما وصف الدواء، هي: نظرية العقل المجتمعي، ونظرية العقل الفاعل والعقل المنفعل، ونظرية عدم مرور العرب بمرحلة الزراعة قبل وصولهم إلى الحضارة، أو بالأحرى "التحضر"، أي مجرد سكنى المدن، وليس الحضارة بمعناها الحديث، الذي يتضمن الرقي الفكري، المادي والمعنوي، كما شرحناها سابقاً.[5]
وأنا أطرح هذه النظريات على حضراتكم وآمل بكل إخلاص مناقشتها ونقدها، معترفاً بأنني قد أكون قد جانبت جادة الصواب، لذلك أتوقع ملاحظاتكم، التي أرحب بها بكل سرور.
النظرية الأولى
تفترض أن لكلِ مجتمعٍ، بصفته كياناً اعتبارياً مستقلاً، عقلاً" خاصاً به، أطلقنا عليه مصطلح "العقل المجتمعي"Societal Mind,. وهو يمثِّل سلطةً خفيَّةً قاهرة تتحكَّم بسلوك أفراد المجتمع وتصرُّفاتهم، دون وعيهم بها. وتتكوَّن من منظومة واسعة من القِيَم والمبادئ والأعراف والعادات والمعتقدات والمسلَّمات... السائدةً لدى الجماعة، والتي تَخَلّقَتْ وتبلورتْ خلال مسيرة المجتمع التاريخية وصيرورته التطورية، أي من خلال تفاعلات الأحداث والمجريات الديالكتيكية وتراكماتها البنيوية، منذ أقدم العصور حتَّى يومنا هذا.
ونحن كأفرادٍ نخضعُ لهذا العقل، لأننا نتغذى، من مبادئه وقيمه، وأوامره ونواهيه، منذ طفولتنا المبكرة، بل نكتسب معتقداتِنا منه تلقائيا وبلا شعور. وبناءً على هذه النظرية، ليس لإرادتنا الشخصية المحضَّة، في الغالب، أيُّ دورٍ في اختيار قيَمنا وعقائدنا بل نظرتنا إلى العالم. فلو نظرنا إلى أنفسنا بعمق للاحظنا أننا صنيعة محيطنا: من أسرتنا إلى أصحابنا إلى مدرستنا. فمعتقداتنا الأساسية نأخذها من أسرتنا. فنحن نصبح مثلاً مسلمين (شيعة أو سنة) أو مسيحين أو يهود لأننا نتربى على هذه العقيدة أو تلك. فأين إرادتنا الشخصية المحضة؟ ولكن هناك استثناءات تفسرها نظرية العقل الفاعل والعقل المنفعل المذكورة أدناه.
وهناك مثالٌ مفترض ولكنه ممكن، أسوقه أحياناً لتوضيح هذه النفطة. فلو تصورنا امرأتين في مستشفى، إحداهما مسيحية والأخرى مسلمة، يُنجبان في الوقت نفسه تقريبا ولدين. فقد يختلط الوليدان، كأي خطأ بشري محتمل، عند قيام الممرضة، أو الممرضات القابلات، بتحميم الطفلين، أو عند وضع سوار الهوية، فيأخذ الطفل المسلم السوار المخصص للمسيحي ويأخذ المسلم السوار المخصص للمسيحي. وينشأ كلٌ منهما في بيئته العقائدية المعينة، وقد يصبح أحدهما قسّاً ملتزماً والآخر شيخاً أصولياً، وقد يلتقيان في مجال المناظرة الكلامية، فمن الطبيعي أن يدافع كلٌ منهما عن عقيدته بحماسة شديدة وبكل الحجج والبراهين الممكنة.
والحقيقة المضحكة المبكية أننا جميعا تقريباً كعرب، صنيعة هذه السلطة القاهرة، أو "سجناء" في سجنها المحاط بأسوار محكمة، ومراقبين مراقبة شديدة من جانب سجانين لا يرحمون، هم أنفسهم مسجونون معنا، ولكنهم لا يعلمون!
النظرية الثانية
هي "نظرية العقل الفاعل والعقل Passive Mind Active Mind and ، التي تختص بالفرد بدلاُ من المجتمع. وهي تترابط وتتكامل مع النظرية الأولى، مع أنها تتميز عنها تماماً. وكلاهما ينطبقان على جميع المجتمعات، في كل زمان ومكان.
العقل الفاعل هو تلك المَلَكة الطبيعية التي منحها الله للإنسان منذ ولادته، والتي تُميزه عن الحيوان. وأهم ما تتسم به هذه الملكة هو الفضول أو حُبّ الاستطلاع وقد طوَّرَها عالم النفس "بياجيه Jean Piaget " إلى مبدأ الميل نحو المعرفة. ويرى أن البنى المعرفية للطفل هي استعدادات توجد لكل طفل، وهي بمثابة قوالب فارغة لدى الطفل الوليد.
ونحن نضيف أن "العقل المجتمعي" هو الذي سيقوم بدوره في ملء هذه الفراغات، لأن الطفل يأخذ ما يتوفر حوله من قيم وعادات وأعراف ومسلّمات جاهزة في العقل المجتمعي، كما أسلفنا.
ولكن قد تظل هذه الملكة حيّة(أقصد ملكة العقل الفاعل)، أو تستيقظ بعد نوم طويل، لدى بعض الأشخاص القليلين الذين يميلون إلى التفكير العميق، لاسيما إذا توسعت آفاقهم العقلية والمعرفية عن طريق الاطلاع على مختلف الاتجاهات الفكرية . وقد ترقى إلى حد الشك بمبادئ العقل المجتمعي السائدة، فيُشرع صاحب العقل الفاعل بتمحيص تلك المبادئ ونقدها، وقد يكتشف في بعضها ضرراً للمجتمع نفسه. وسأشرح هذه النقطة أكثر في فقرة قادمة.
أما العقل المنفعل فهو ملكة مكتسبة من المحيط، الذي يُمثّله "العقل المجتمعي"، يستخدمها الفرد في التعامل مع مجتمعه، وفي اتخاذ قراراته ويميز بها بين الخير والشر والصالح والطالح، والصحيح والخطإ، وذلك بناء على اعتبارات "العقل المجتمعي" السائدة،(كما حددناه أعلاه)، التي يتخذها معياراً لجميع أحكامه. ويتكون العقل المنفعل لدى كل فرد تدريجيا، أثناء مرحلة الطفولة المتأخرة، وما بعدها، على حساب العقل الفاعل، الذي يتراجع لصالح العقل المنفعل، بسبب ضغوط العقل المجتمعي. وفي مراحل العمر المتأخرة، يظل الفرد العاديُّ محافظاً على عقله المنفعل، بسبب سلطة العقل المجتمعي القاهرة.[6]
6-القاعدة والاستثناء
إذاً يصبح هذا العقل المنفعل المسيطر الوحيد على أفكار الفرد وتصرفاته، وينسى وجود عقله الفاعل، الذي يتضاءل أو يتلاشى تدريجياً. وهذا التنظير يسري على الفرد العادي في كل زمان ومكان. ولكن هناك استثناء.
الاستثناء، هو أن بعض الأشخاص في المجتمع، يعودون إلى إحياء عقلهم الفاعل، فيشرعون بالتشكيك بمبادئ العقل المجتمعي وقِيَمه ومُسَلماته، بل قد يلاحظون مدى ضررها على المجتمع نفسه. وقد يفصحون عن ذلك، فيلقوَن الأمرّين من حُرّاس العقل المجتمعي، ومنهم الكثير من رجال الدين ورجال السلطة الحاكمة. وأولئك المشككون، أصحاب العقل الفاعل، هم الذين تُضفى عليهم صفة الريادة، ومنهم الفلاسفة مثل سقراط الذي أعدم، والأنبياء من أمثال موسى وعيسى (صُلب) ومحمد (اضطُهِدَ وكاد يُقتل). وفي بداية عصر النهضة الأوربية، القس جوردانو برونو(أحرق حياً لاتهامة بالهرطقة) وغاليلو الذي حوكم لينكر دوران الأرض حول الشمس،كما صرح، بناء على نظرية كوبرنيكس. وفي العصر الحديث نذكر منهم الشيخ علي عبد الرازق، صاحب كتاب "الإسلام وأصول الحكم"(طُرد من القضاء والجامعة، وحُرم من درجة العالِمية) وعلي الوردي صاحب كتاب "وُعّاظ السلاطين" وغيره (اضطهدته السلطة والناس من ذوي العقل المنفعل)، ونصر حامد أبو زيد، صاحب كتاب" مفهوم النص" وغيره (طُلِّق من زوجته باعتباره مرتداً). وفرج فودة صاحب كتاب" الحقيقة الغائبة" (قُتل) و الشيخ محمود محمد طه،(أُعدم).
أي أننا نقتل كل من يحاول أن يجتهد، أو ينقدَ بعقله الفاعل، علماً أن هؤلاء هم الذين يبنون صرح الحضارة.[7] ومن جهة أخرى فإن هذه رسائل يُبعث بها لكل من تسوِّل له نفسه ممارسة النقد أو الاجتهاد أو كشف الحقائق بعقله الفاعل، قائلين له: سيكون مصيرك كمصير فرج فودة مثلاً. وهكذا نعيد إنتاج تخلفنا الحضاري. بل هكذا وصلنا إلى هذه المرحلة من التردي في جميع مجالات الحياة بل إلى هاوية الداعشية.
النظرية الثالثة التي تفسر تخلف العرب
تفترض أن العرب لم يمروا بمرحلة الزراعة التي من شأنها محو الخصائص البدوية الراسخة في عقلهم المجتمعي. فقد انتقل العرب بعد الإسلام من حالة البداوة إلى حالة التحضر"، أي سكنى المدن، وليس "الحضارة" بمعناها الحديث. فعندما حقق العرب المسلمون فتوحاتهم الكبرى ولاسيما في منطقة الهلال الخصيب ومصر، رَحَلَ الكثير من سكان وسط الجزيرة العربية، الذين كان معظمهم من البدو الرُحَّل- والذين كانوا يعيشون غالباً على حافة المجاعة، فيغزون بعضهم بعضاً، إلى تلك البلدان كفاتحين- حيث كان رَغَدُ العيش والثروة بانتظارهم. سأل الخليفة عُمر مبعوثَ أحدِ عُمّاله في العراق: "كيف حال المسلمين؟‘ فقال: "إنثالتْ عليهم الدنيا، فهم يهيلون الذهبَ والفضَّة". ومن جهة أخرى، فالعرب كانوا يكرهون الزراعة. وينسب إلى الرسول(ص) أنه قال "ما دخلتْ هذه السكة دار قوم حتى دخلها الذُل"، يقصد المحراث. (عن البخاري)
والعقلية العشائرية(العقل المجتمعي البدوي) ما تزال سائدة في بعض البلدان العربية ولاسيما في بلدان الخليج وفي العراق وسوريا والأردن وليبيا. علماً أن المجتمعات الخليجية تمر اليوم بنفس المرحلة التي مرّ بها العرب بعد الفتوح الإسلامية، من ناحية عدم مرورهم بمرحلة الزراعة.
وقد شرحت هذه النظرية تفصيلاً في كتابي الصادر مؤخراً بعنوان" الأمة العربية الممزقة بين البداوة المتأصلة والحضارة الزائفة": http://www.e-kutub.com/index.php/2012-11-20-00-14-54/1559-2015-05-24-06-14-40
7-فصول الكتاب
يتألف كتاب "الأمة العربية بين الثورة والانقراض" من ثمانية فصول، وعدد من الملاحق، منها ملحق بالمشاريع العملية التي طرحها المؤلف كمحاولة لتفعيل مشروعه النظري وتطبيقه على أرض الواقع. ومنها إنشاء "مركز ثقافي عربي أمريكي" في نيويورك. على غرار معهد العالم العربي في باريس، قد يشكل مركزاً للحوار بين الحضارات. ومشروع إنشاء”موسوعة التراث العربي الإسلامي”، ويكمّله مشروع “إعادة كتابة التاريخ العربي الإسلامي”، حيث يدوَّن تاريخنا وتراثنا بمنهج موضوعيٍ نقديٍ دقيق وموثّـق. ومشروع إنشاء "منظمة شعبية عربية" أو "جامعة شعبية عربية" تمثل الشعوب العربية، تقف إلى جانب الجامعة العربية الحالية، التي تمثل الحكومات العربية فقط، أي لا تمثل الشعوب.
أما فصول الكتاب فأوجزها فيما يلي:
في الفصل الأول، أبحث في مسألة تحصيل العلم والتكنولوجيا وتقصيرِنا الفاحش في الأخذ بها، على الرغم مما يملكه الوطن العربي من ثروات طبيعية وبشرية. بينما تمكنتْ أممٌ أخرى كانت تعتبرُ متخلفة قبل نصف قرن، من التقدم واللحاق بالدول المتقدمة، ومنها كوريا الجنوبية ودول النمور الآسيوية(سنغافورة وهونغ كونغ وتايوان).
وحاولنا في الفصل الثاني، "مدخل لإرساء نظرية الحرب العامة"، تأصيل وتنظير ظاهرة الحرب التي رافقت البشرية منذ بداياتها، وخلفت مئات الملايين من الضحايا؛ وتساءلنا لماذا يتزايد أوار الحرب بزيادة التقدم الحضاري؟ بدليل أن ضحايا الحروب التي حدثت في القرن العشرين، وهو أكثر القرون تقدما، قد بلغت قرابة175 مليون، بل بدأت الحروب الطاحنة تتزايد منذ مطلع هذا القرن، الحادي والعشرين، ما أسفر عن عدة ملايين من القتلى والجرحى والمشردين والمعوقين.
ونبحث في الفصل الثالث إشكالية الصراع بين "التراثِ والحَداثـة"، باعتبارها تشكل إحدى مظاهر "أزمة التخلف الحضاري في الوطن العربي". وقد حاولنا في هذا الفصل أن نستعرض باختصار مختلف الاتِّجاهات السائدة بشأن تلك الإشكاليَّة، ابتداءً من الاتِّجاهِ السَّـلَفيِّ المُعارض تمامًا للحَداثة، إلى السَّلَفيِّ المعتدل الذي يُوافقُ على الأخذ ببعض جوانب الحداثة، التي لا تـتعارضُ مع قِـيَمـِنا ومعتقداتِـنا وشريعتنا، إلى الـحَداثيِّ الذي يرى أنَّ التراثَ يُشكِّـلُ عِـبئًا على الأمَّة ينبغي وضعُه في المتاحف لمُجرَّد (الفُرجة)، إلى الـحَداثيِّ المعتدِل الذي يرى أن نأخذَ من التراث ما لا يـتعارضُ مع الحداثة".
ونبحث في الفصل الرابع في موقف المؤلف الذي يُعارض كُلاًّ من موقف الرافضين للتراث، وموقف الرافضين للحَداثة. وفيه أحاول التقرُّب نحو النهج الذي أجدُه مُلائمًا لمعالجة هذا الموضوع، من خلال الاستفهامِ عن الأسباب الجذرية التي جعلت من ثُنائيَّةِ التراثِ والحداثة إشكاليَّةً مُستعصية لدى الأُمَّة العربيّة خاصَّةً، والمجتمع الإسلاميِّ عامَّة. أي أن مجرد اعتبارها إشكالية، ما زلنا نعانيها ونختلف بشأنها، لاسيما منذ أكثر من قرن ونصف تقريباً؛ أقول هذا الأمر، ضاعف من درجة تخلفِنا، إذ شكّل واحداً من أهم الأسباب التي أدت إلى ما نتعرض له من كوارث وويلات، لاسيما الاقتتال الجاري اليوم على أساس طائفيٍّ/مذهبيٍّ تعود أسبابه الجذرية إلى أحداث وقعت قبل أكثر من أربعة عشر قرناً مضت، قد تتعلق بالصراع بين بني هاشم وبني أُميّة، الذي كان قائما منذ قبل الإسلام، والذي تفاقم بعده. مع أن الرسول(ص) حاول رتقه عند فتح مكّة.
ثمَّ أتناول، في الفصل الخامس، دورَ "العقل المُجتمَعيّ العربيّ" المتخلف في تكريس إشكاليَّة التراث والحداثة وتفاقُمِها، الأمر الذي أدَّى إلى إعادة إنتاج التخلف. فأشرع في إرساءِ نظريَّة "العقل المجتمَعيّ"، وأبحث في ارتباطِها بإشكاليَّةِ التراث والحداثة. فألاحظ أن العقل المجتمعي العربي يحمل تراث الأمة العربية، بجميع ما فيه من إيجابيات وسلبيات. واستنتج: إذاً، قد نستطيع استكشاف الجوانب المجهولة أو المنسيَّة، صدفة أو تعمداً، من تراث الأمة عن طريق سَبر مخزونات العقل المجتمعي. أو أننا يمكن أن نعمل على تحديث العقل المجتمعي عن طريق إعادة كتابة التراث. وهنا نؤكد على المشروع الذي طرحتُـه على "مركز دراسات الوحدة العربية" في بيروت حول إنشاء "موسوعة التراث العربي الإسلامي".[8]
أما الفصل السادس المعنون "خصائصُ العقلِ المجتمعيِّ: من الكشفِ عن مجاهيلِ التاريخ إلى تكريسِ العوْلَمة"، فهو تتِمَّةٌ لسابقِه، وتفصيلٌ لِبَعض خصائصِ العقلِ المجتمعيِّ، ابتداءً من كونِه سِجِلاًّ دقيقًا لتاريخِ المجتمعِ إِلى اختلافِه وتنوُّعِه بِتَنوُّعِ "الوحداتِ المجتمعيَّة" وتفرُّعاتِها حتَّى علاقته بالعَولَمة.
وفي الفصل السابع، المعنون" خصائصُ العقلِ المجتمعيِّ: قراءةُ التراثِ في النصِّ الديني"، نطرح خاصية تحفظية مهمة للعقل المجتمعي، الذي قلنا عنه، في الفصل السابق، أنه يسجل وقائع التاريخ، ويكشف عن مجاهيلها؛ وهي أن العقل المجتمعي لا يسجل الحدث، كما حدث فعلاً، بل يسجله، من خلال انطباعات الناس عنه وفهمهم ورؤيتهم له. لذلك فقد تختلف تلك الانطباعات رهناً بـ"الوحدة المجتمعية"[9] التي تسجل الحدث. وتمثل هذه النقطة خاصية مهمة للعقل المجتمعي، تنــْصَبُ على التفاعل الديالكتيكي الكثيف، بين الوحدة المجتمعية وعقلها المجتمعي.
ويأتي الفصل الثامن والأخير تحت عنوان" القضاء والقدَر مقابل مسؤولية الإنسان من تجليات العقل المجتمعي"، ليبحث واحدة من أهم الظواهر التي تعيد إنتاج التخلف الحضاري عند العرب، ألا وهي مسألة "القضاء والقدر"، من حيث علاقتها بالتواكل والكسل بل اليأس، أو دفع العتب وتأنيب الضمير. لذلك حاولت أن ألقي بصيصاً من الضوء على جذورها في التاريخ العربي الإسلامي، ولاسيما إشكالية "الجبرية والقَدَرِيّة"، التي طُرحت بكثافة خلال الحكم الأموي، وتداعياتها السياسية. وخصصت فرعاً لبحث" "المُلْك العضوض" فأقول: إن الاستبداد والقهر يترسخان مع الأعتقاد الخاطئ بالقضاء والقدَر، وبالتالي حصول التواكل والقعود والجمود.
***
الكتاب محاولة جدُّ متواضعة لمواصلة تشخيص أصل الداء، ووصف بعض معالم الدواء. وهو جزء ثانٍ من عدة أجزاء، صدر أولها منذ سنوات. وصدر الجزء الثالث مؤخراُ تحت عنوان" الأمة العربية الممزقة بين البداوة المتأصلة والحضارة الزائفة". وسيليه الجزء الرابع تحت عنوان "علاقة التخلف الحضاري بإشكالية التربية والتعليم في الوطن العربي"، بإذن الله.
وأرى ختاماً أن الأمة العربية مهددة بالانقراض إذا استمرت في مسيرتها التخلفية الراهنة، ولئن أحذِّر من هذه الكارثة، أهيب بجميع المعنيين التصدي لهذا الخطر، ومحاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه. علماً أنني أكدت أثناء المحاضرة على الدور الحاسم الذي يمكن أن يضطلع به المثقفون العرب في المهجر.
ختاماً أرجو مراسلتي على العنوان التالي:
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
إذ أرحب بأي تعليق أو نقد للمحاضرة.
كما أتمنى أن يطلع الجميع على الكتب الثلاثة قدر الإمكان من خلال الرابط الآتي:
https://play.google.com/store/books/details?id=msukCQAAQBAJ
----------------------------------------
[1] - تأثير الوردي ينطلق من فهمي لنظريته في بداوة المجتمع العراقي، التي وسَّعتها لتشمل معظم أجزاء المجتمع العربي، كما ناقشته في ذلك عندما كنت طالبا. وتمخض هذا التوسع عن نظريتي في عدم مرور العرب بمرحلة الزراعة عند انتقالهم إلى التحضر، كما يحصل أمامنا اليوم بالنسبة للمجتمع الخليجي خلال الخمسين سنة الماضية، حيث انتقلوا من حالة البداوة إلى حالة "التحضر" أي سكنى القصور فقط، وليس الحضارة بمعناها الحديث، بدون المرور بمرحلة الزراعة. انظر كتابي الصادر مؤخراً" الأمة العربية الممزقة بين البداوة المتأصلة والحضارة الزائفة".http://www.e-kutub.com/index.php/2012-11-20-00-14-54/1559-2015-05-24-06-14-40
[2] - يمكن اعتبار تونس البلد العربي الوحيد الذي نجح نسبياً في تحقيق قدر من نتائج قد تعتبر إيجابية على صعيد الديمقراطية وحقوق الإنسان. وذلك لأن العقل المجتمعي التونسي أكثر تطوراً من معظم العقول الفرعية العربية الأخرى، لأسباب تاريخية خاصة. ومع ذلك هناك صراع لم يُحسم بعد، بين القوى الإسلامية (عقل مجتمعي سلفي) والقوى العلمانية ( عقل مجتمع متطور). وفي هذه الأثناء تنتهز فلول النظام السابق الفرصة لتقفز إلى سدة الحكم، كما يبدو. وما يزال الموقف مضبباً، لاسيما بالوجود الداعشي المتنفذ على حدود تونس الشرقية الطويلة(ليبيا).
[3] - الأعرجي، "حوار صريح ومثير مع المفكر العربي المعروف محمد عابد الجابري"،
صحيفة القدس العربي، لندن، 18/7/2006 .
[4] - منح خوري، التاريخ الحضاري عند توينبي، بيروت، دار العلم للملايين، 1960، ص15و16.
[5] - الأعرجي" أزمة التطور الحضاري في الوطن العربي بين العقل الفاعل والعقل المنفعل" بغداد، دار عدنان، ط 4/ 2015 ،ص 56، تعريف الحضارة.
[6] - انظر تفصيل ذلك في كتاب "أزمة التطور الحضاري في الطن العربي"، الفصل الرابع. ولاسيما ص 106، في الطبعة الورقية الرابعة.
[7] - انظر كتاب "أزمة التطور ..." المرجع السابق، الفصل السابع، فصل" العقل الفاعل ينشئ الحضارات"، ص 189.
[8] - انظر الأعرجي، في كتاب الأمة العربية بين الثورة والانقراض، ص238.
[9] - "الوحدة المجتمعية"، مصطلح جديد طرحناه باعتباره بديلاً عن تعبير "المجتمع" السائد. لأن هذا الأخير يوحي بكتلة كبيرة من البشر، في حين أننا نقصد بـ "الوحدة المجتمعية" كل جماعة من البشر تتميز بخصائص مشتركة تختلف قليلاً أو كثيراً عن غيرها. وهكذا فالوحدة المجتمعية تشمل الشعب والأمّة، كما تشمل العشيرة والقبيلة والحزب الديني أو العلماني الذي له مبادئ معينة، أي الذي يمكن أن يكون له عقل مجتمعي متميز. وقد شرحنا ذلك في الكتاب موضوع المناقشة.
1354 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع