مدن العراق القديم ١- اوروك : مدينة الملك كلكامش

                                                      

                            أ. فؤاد يوسف قزانجي

اوروك Uruk او اونوك او الوركاء، او كما ورد ذكرها في الكتاب المقدس (التوراة) اريك او اريخ  Erechمدينة رافدينية قديمة ، لعلها كانت قرية زراعية سكنها السومريون في الألف الرابع قبل الميلاد .

و بحسب المدونات السومرية ان الملوكية نقلت اليها بعد الطوفان ( حدث ذلك على الارجح في حدود 3000ق.م. ) و بعد ان دحرت اوروك مملكة لكش ،حينما تأسست سلالة اوروك الأولى . بنى مدينة اوروك ثاني ملك فيها و هو اينمركار اما رابع ملك فيها فهو (دموزي) الذي اصبح الهاً لاروك ثم عبد في معظم انحاء سومر، و كان يموت في الصيف و يبعث في الربيع ، و سماه الاكديون و غيرهم بالاله (تموز) . و حكم فيها الملك الخامس كلكامش2650-2600ق.م.) ابن للا البدوي ، وامه الكاهنة ننسون التي ترتقي الى مستوى الهات اوروك . و قد بنى كلكامش سورها الكبير الذي افتخر به ، و كان كلكامش في القضايا الملحة يسأل مجلس الشباب و مجلس الشيوخ رأيهم ، كما فعل في صراعه مع كيش .
 اشتهرت اوروك بملكها الجليل كلكامش الذي امسى بعد فترة من موته ، شبه اله والفت عنه خمسة روايات شبه اسطورية تتحدث عن حياته ومغامراته، و في الالف الثاني ق.م. الفت عنه ملحمة شعرية تعد اروع الملاحم الشعرية في الادب القديم، الفها الشاعر والاديب سين- ليقي-اونينني وذلك في القرن الثاني عشر على الارجح.  واشتهرت حينما وجد نصها اولا في مكتبة اشوربانيبال في عام 1858 فترجمت الى معظم اللغات الرئيسية في العالم ، باسم ملحمة كلكامش بدأت بالانكليزية  كاملة في الاربعينات من القرن السابق .
 تعد مدينة اوروك من المدن السومرية الكبيرة مثل كيش و أور و غيرهما ، و لعل الحروف الأولى في الكتابة خطت فيها ، فالأرجح ان الكتابة المسمارية نشأت فيها ، حيث عثر على اولى نماذج من الكتابة الصورية في الدور الشبيه بالكتابي في الوركاء3200-3100 .ق.م. (1) وان معظم التراث الانساني القديم للهلال الخصيب انذاك كتب بالكتابة المسمارية على الرقم الطينية .
كان يحيط بالمدينة سور عظيم محيطه حوالي تسعة كيلومترات و نصف و لهذا السور بوابتان و هو مكون من جدارين متجاورين يبلغ عرض الجدار الداخلي نحو خمسة امتار و الخارجي نحو مترين . كما تلاصق السور الداخلي سلسلة من انصاف الابراج عددها نحو (600) برج ، يعتبر القسم الشرقي من المدينة الذي تم تشيد فيه عدة معابد ، القسم الديني من المدينة و كان يدعى كولاب Kullab  حيث ولد الملك كلكامش، و كانت امه من ابرز كاهنات المعبد الرئيسي : معبد (اي- انًا ) و يعد من أفخم المعابد السومرية و اقدمها و اجملها . و معناه بيت السماء و قد شيد للالهة (اي- نينا ) اي سيدة السماء الهة الخصب و الحب و النماء. ( التي عرفت بأسم عشتار في العصر الاكدي ) و كان قد شيد في منتصف الألف الرابع قبل الميلاد . و قد زينت واجهته بالفسيفساء المتكونة من مسامير فخارية ذات الوان زاهية . و قد جدد المعبد من قبل ملك اور الشهير (اورنمو) سنة (2050ق.م.) تقريباً . كما شيدت زقورة في المدينة و هي كصرح مدرج يحوي في قمته على معبد . اما معبد آنو فهو المعبد القديم ( اي- انًا ).(2)
 سكن في هذه المدينة الاكديون و البابليون و الآشوريون و الاراميون – الكلديون اذ وجدت على احدى ابواب المعبد كتابة باللغة الارامية . كما سكن فيها الفرس الأخمينيون ثم تلا ذلك العصر السلوقي – اليوناني حيث شيد في هذا العصر معبد (بيت ريش) لعبادة الاله (آنو) و زوجته (انتم) شرقي معبد آنو . و تتكون هذه البناية من عدة افنية و ساحات مسيجة و مصليات عديدة . كما شيد السلوقيون معبد (ارى- كال) و يقع فيه قدس الاقداس في ضلعها الجنوبي و هو مشيد بآجر مزجج. كما أقيم معبد ثالث (كاريوس) الذي يعود الى العصر الهلنسي و على جدرانه زخارف هندسية و حيوانية محفورة في الآجر او الطابوق ، كما اقاموا معبد للالهة (ميثرا) . و بنيت في شمال المدينة بناية واسعة تستعمل كـ (بيت اكيتو) للأحتفالات السنوية في شهر نيسانو لعلها بنيت في العصر البابلي القديم ، و البناية مربعة الشكل طول ضلعها (140م) و تتوسطها ساحة كبيرة مكشوف تحيط بها قاعات و ممرات . كان يجري خلالها مسيرة الأحتفالات و هم يحملون تماثيل الالهة البارزة في كل عصر مثل آنو و عشتار و مردوخ و غيرهم .(3) و هناك رقيم كبير اسطواني وجدته البعثة الامريكية في اواخر القرن التاسع عشر يحتوي على وصف رائع لمدينة اوروك في عصرها الذهبي و لعله عصر الملوك الخمسة الأول ، و يتضمن قصيدة سومرية بطلها الملك اينمركار ثاني ملوك اوروك (حوالي 2900ق.م.) و ان المتبقي من القصيدة من ابيات تصف فيه السلام في العالم قبل ان يعرف الانسان الخوف و قبل ان يعرف (فوضى الألسنة . و ان محتوى هذا الموضوع الاخير يذكرنا بما حصل عند بناء برج بابل : ( لان الرب هناك بلبل لسان كل الأرض ) الأصحاح 11/اية9 – و كانت القصيدة النثرية السومرية تقرأ على النحو التالي :
في تلك الايام لم يكن هنالك افاعي ، و لم يكن هنالك عقارب ،
و لم تكن هنالك ضباع ، و لم تكن هنالك اسود ،
و لم تكن هنالك كلاب متوحشة و لا ذئاب . بل لم يكن هناك خوف و لا رهبة في تلك الايام
 كانت أرض شوبور (الشرق) موطن للوفرة ذات الاحكام العادلة
 اما أرض المارتو (الغرب) فأنها تعيش بأمان ،و كل العالم متحد .
و نحن بلغة واحدة نرفع شكرنا الى انليل .
دامت اوروك زمانا طويلا نظرا لاهميتها الزراعية والتجارية ونفوذها الذي امتد شمالا وغربا حتى وصل الى شمال سوريا، كما عرفت اوروك اول مظاهر الاستقرار والتطور الحضري مثل سبل انتاج الطعام وبناء البيوت ،ومخازن الحنطة او الشعير، والاسواق .
كان كلا من الباحثين روبرت آدامس و هانس ينسين بين الاعوام 1960-1970 قد اكملا دراسة مسحية لاثار مملكة اوروك التاريخية الواسعة . حيث وجدا انها كانت اكبر دويلة-مدينة  في نهاية الالف الرابع ق.م. وقد وضح لهما ان طولها كان حوالي عشرة كم ، وان مساحتها تقرب من 435 هكتارا. وقد وجد الباحثون ان الاختلاف الاول بينها وبين بقية المدن النيوليثيكية ،اذ جعلت قصر الملكي مركزالمدينة بدلا من المعبد الرئيسي . وانتقل الامر الى بقية المدن الرافدينية . كانت مملكة اوروك تتميز بان لها منطقتين دينيتين : المعبد الابيض في المدينة وهو موضع كبير الالهة (آن) اله السماء وكان ارتفاعه 11م، ومعبد الالهة أيننا او اينانا (القمر) في منطقة خاصة بها تدعى  كولاب .كان المعبد الابيض قد بني في عام 3000ق.م. ، وبعده بني المعبد الاخر.  وكانت الكتابة الاولى في العالم قد وجدت في هذه المدينة : اولا صورية في على الارجح في القرن الاخير من الالف الرابع ق.م. ثم مقطعية في القرن الاول من الالف الثالثة ق.م. وهي الكتابة المسمارية التي تبنتها معظم اقوام بلاد الرافدين . توسع نفوذ مملكة اوروك شمالا وغربا وبنت لها مركزا تجاريا وقرية في شمال شرق سوريا لايعرف اسمها ،لكن موقعها اكتشف على عجل قبل بناء سد الفرات ، وموقعها يدعى (حبوبا كبيرا)، وقد بقيت هذه المستوطنة التابعة الى اوروك اكثر من 150 سنة ، وكانت ابنيتها متشابهة مع ابنية اوروك .(4)
 كان اليونانيون قد سمو اوروك (اورخوي) و نالت في زمانهم نوعاً من الازدهار و من ذلك بقايا مصطبة ضخمة اقيمت حول منطقة الزقورة في منطقة المعابدة في (اي – انًا ) و كذلك شيد معبدان كبيران هما المعبد المسمى (ايريكال) اريش – كال الى الالهة عشتار المحبوبة بالأضافة الى معبد (بت – ريش ) للاله انليل و قد شيد هذان المعبدان على الطراز المعماري البابلي . و يبدو ان اوروك كانت تتمتع في تلك الفترة على شئ كبير من الاستقلال الاداري و الاقتصادي و ظلت اوروك قائمة حتى القرون الميلادية الأولى فكانت تضم اخر مدرسة قديمة لتعليم الكتاب .
كتب ياقوت الحموي عن هذه المدينة ما سمعه عنها بشكل غير دقيق و لكنه طريف قائلاً : " الوركاء موضع بناحية الروابي ولد فيه النبي ابراهيم الخليل و هو من حدود كسكر . قال ابن الكلبي لما فرق الله الألسن بعد نوح و كان اللسان سريانياً واحداً .. الخ و ذكر سلمى بن القين ،شعراً عن المدينة قائلاً :
الم يأتيك و الانبياء تسري                بما لاقى على الوركاء جان
و قد لاقى كما لاقى ضيعاً               قتيل الطف اذ يدعوه ماني
و قال فيها حرولة بن مريطة :
شللنا ماه ميسان بن قاما                 الى الوركاء تنفيه الخيول
و جزنا ما جلوا عنه جميعاً             غداة تغيمت منها الجبول .(5)
تقع مدينة اوروك الاثرية في جنوب العراق على بعد 30كم جنوب شرق مدينة السماوة . ويرجح اغلب المؤرخين ان اسم العراق مستمد من اسم اوروك: المدينة التي  بقيت قائمة حتى القرن السابع  يوم ان سميت بلاد الرافدين: العراق بعد تصفح الاسم ، ويؤيد ذلك معظم المؤرخين من بينهم المؤرخين الجليلين الاستاذين  سامي سعيد الاحمد وطه باقر  .    

المصادر:

1) باقر ، طه.مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة . بغداد : دار الشؤون الثقافية ، (طه/ 1986)ص ص 290 ، 307 ، 308 ، 424 .
2)بارو ، اندرية. سومر و فنونها و حضارتها ترجمة عيسى سليمان و سليم التكريتي . بغداد : وزارة الثقافة و الاعلام ، 1979 (ص 113 – 114 ) .
3) صالح ، قحطان رشيد الكشاف الاثري في العراق . بغداد: المؤسسة العامة للأثار ، 1987 (ص 245 – 251 ) .
4)    Gates, Charles. Ancient Cities .Newyork,Routledge,2011. p23-41
5)الحموي ، شهاب الدين . معجم البلدان . بيروت : دار احياء التراث ، د.ت (مجلد رابع/ ص454) .   

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1395 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع