شِعريَّــــةُ النَّــــصِّ قراءةٌ في قصــــة الدغل لمحمود جنداري
أ. د. بشرى البستاني
• 1
تُعدُّ الشِّعريَّة اليوم مَفهوماً رحباً واسعَ الفضاءِ ومفتوحاً لاحتواء فنون عدة ومعارفَ مُتَنَوِّعة، لكن المُصطلح انطلق أول انطلاقته من اللغة ومن الاشتغال في السِّمات التي تجعل من النَّص أدباً في مجالي الشِّعر والنَّثر، فاللغة ميدانه، وطرائق اشتغالها محاوره، ومهما تباينت الآراء في السِّمات التي تحقق شعرية النَّص في أي نوعٍ من الأنواع الأدبية إلا أنَّ الشِّعريَّة تبقى كما يؤكد تودروف فرعاً من فروع الدِّراسة الأدبيةِ والنَّقدية، فهو يبحث عن قوانين الإبداع وعن الخصائص المجردة التي تصنع فرادة العمل الأدبي ومن ثم تشكل أدبيته( ) على أن اهتمام هذا الفرع البحثي يتجه نحو تشخيص طرائق القول، أو أشكال صياغة المعنى من دون الاقتصار على ما يقوله النَّص من معنى ومضامين فالمعاني متاحة للجميع كما أكد الجاحظ من قبل، أما الفن فيكمن في طرائق التشكيل التي تضمر القدرة على تحقيق الوظيفة الجمالية إذ تثير أحاسيس المتلقي بما يحقق لديه الوظيفة الشِّعريَّة، فالقاسم المشترك بين الشعريات الحديثة أنها لم تقتصر على البحث في شؤون الأدب بل اتجهت نحو الفنون والمعارف المختلفة كالرسم والنحت والسينما والمسرح والهندسة المعمارية مؤكدة الخصائص والسمات التي تؤثر في الحواس وتثير الإحساس بالجمال، من هنا انخرطت السردية مع الشِّعريَّة في بوتقة واحدة، لكونها تندرج ضمن علم عام يعنى بقوانين الخطاب الأدبي شعره ونثره( ).وهكذا صار البحث في شعرية القصة وشعرية المسرح وشعرية الرواية وغيرها من الفنون أمرا طبيعيا مادامت الشِّعريَّة بحثا في قوانين الخطاب وما يجعل منه فنا، من هنا سنتناول قصة الدغل لمحمود جنداري مشخصين بعض تقنيات الشعرية كالرمز والإيقاع دون الوقوف عند شعرية العناصر السردية لأنها تحتاج حجما لا تتسع له هذه الدراسة.
• 2
إذا كان العنوان رسالة لغوية وبنية صغرى ذات وظائف متنوعة تتفاوت بين الإفصاح الدلالي والإغراء والإغواء واللبس والتضليل كما يؤكد الباحثون، وتلك البنية الصغرى ترتبط بوشائج شتى مع بنية المتن الكبرى هابطة وصاعدة، فإن عنوان قصة الدغل لمحمود جنداري يختصر قضية العمل بأكملها، أنه مصغر كوني يحمل في طياته كل المعطيات والمجريات والقوانين والأعراف التي تحكم الكون بكل تناقضاته، واستلاباته وعطائه، وتوهجه عنفا وسلاما، خصبا وجدبا، زهوا وانكفاءً، انه جزء متفرد من الكون تتفجر فيه الحياة، وينغمر بداخله الموت، ويتشابك الرطب باليابس إفصاحا وإلغازا، وموتا وخصبا من خلال الإشارات والرموز التي ظل وميضها يتألق في النَّص رمزا فرمزا ؛ولذلك تمكن النَّص بكليته من تشكيل رمز شمولي متحرك لتلك الحياة بكل أبعادها. ولعل في طليعة خصائص ومزايا رموز هذه القصة-وفي مقدمتها العنوان- قدرتها على التحول بانسيابية من مدلول إلى آخر حد الالتباس، فالدغل يتحول من المطلع وعبر النَّص عدة تحولات ليشكل في تحوله الأول خديجة… تلك المرأة المتفردة المعطاء (خديجة هذه بالنسبة إلى مروان مثل ذلك الدغل العجيب: ص40) (كانت خديجة الدغل موحشة غامضة، هشة لكنها متشابكة –وعبدالحق خطا بضع خطوات في ذلك الدغل…ص47) فكيف تكون المرأة بكل شفافيتها دغلا ووحشة..؟ ويجيب النَّص عن السؤال ؛ لكونها موحشة غامضة، هشة ومتشابكة. إن خديجة أمام عبد الحق هي الآخر المختلف، الآخر الذي يكتشفه من خلال حركة فعله التي كلما ادركت الذوبان فيه استرجعت ذاتها دونما استلاب، فوجود الآخر في حياتنا شرط من شروط تحققنا واكتشاف ذواتنا، فهو ذو مهمة فاعلة في الكشف عن خفايانا وفهم دواخلنا وتشكيل هويتنا التي لابد من حركيتها لكي لا تصاب بالجمود والاندثار، ولذلك يؤكد الوجوديون أن الشيء الحقيقي الأهم في الوجود هو "العلاقة بيني وبينك" في ديناميكية حرة. ثم يناور الفن القصصي ليبلور الدغل مكاناً ما في جسد الأنوثة، عضواً يمنح الحياة الخصب والاستمرار بالتواصل مع كائناتها والموجودات، ورمزا ملفوفا بالعتمة: (في الدغل المعتم، في الدغل البكر المهمل…ص61) ثم يعود ليشكل ذلك الإنسان القوي الجبار المستحوذ الذي يلف الأنوثة ويظللها من كل جانب، ليصير عبد الحق الزغبي: (كنت أريد الأرض، أن يكون رأسي على الأرض، بمحاذاة ذلك الدغل المتشابك…ص63) عبر توازيات مرسومة ما بين الذكورة الإنسانية وذكورة الدغل. والعودة إلى مفردة الدغل في القواميس تؤكد لنا ذلك التناقض والتشابك، فالدغل هو الشجر الكثيف الملتف، وقيل هو اشتباك النبت وكثرته، وقيل هو الموضع الذي يخشى فيه الاغتيال، وستر الشجر الدغل، والقف المرتفع والأكمة دغل، والوادي دغل… والجبال أدغال، والدغل الشجر الملتف الذي يكمن فيه أهل الفساد هربا، والمداغل: بطون الأدوية إذا كثر شجرها، وأدغل بالرجل: خانه واغتاله، وأدغل به: وشى، والداغلة: القوم يلتمسون عيب الرجل وخيانته، ويدغل لهم الشر أي يبغي لهم الشر ويحسبونه يريد الخير، والداغلة: الحقد المكتوم، ودغل في الشيء: دخل فيه دخول المريب، والدواغل: الدواهي من النوائب والخطوب…الخ( ).
من خلال هذه المتناقضات الجمة التي يزخر بها معنى المفردة يمكن لنا أن نتوقع كثافة الرمز وحيويته: شجر كثيف ملتف، نبت ضعيف متوار، جبل ووادٍ، خيانة، اغتيال، رطوبة، يباس، ماء وشمس وارض تلفُّ كل ذلك وتحتضنه بتماسك وعظمة. من هنا فإن قصة (الدغل) تطرح مكانا ذا مستويين، مستوى خارجي منظور، ومستوى داخلي تأويلي، وإذا كان المكان مرتبطا بالشخصية ومتلاحما بها وبالزمن، فان مكان قصة الدغل استطاع أن يجسد كل ذلك من خلال وصف لا يصور فقط، بل يستنبطن الأشياء معيدا تشكيلها من جديد.
وإذا انتقلنا خطوة أخرى نحو الاستهلال الذي يشكل بداية القصة، فإننا نجده هو الآخر يفصح عن تأكيد بنية النَّص العامة، فهو بدء الكلام ويناظره في الشِّعر المطلع وفي فن العزف على الناي الافتتاحية ، فتلك كلها بدايات كأنها تفتح السبيل إلى ما يتلو)( ) وإذا كانت أهميته في العمل السردي تضارع أهمية المطلع في القصيدة ؛ فلأنه عامل جذب وبذرة تشويق تدفع المتلقي للتواصل مع النص، فهو (بمنزلة الوجه والغرة، تزيد النفس بحسنها ابتهاجا ونشاطا لتلقّي ما بعدها إن كان بنسبة من ذلك وربما غطت بحسنها على كثير من التخوَّن الواقع بعدها)( ) واذا كان توماس ي بيرنز ينصح(بالابتداء قريبا من الذروة ما امكن)( ). فان محمود جنداري كان واعيا بهذه النصيحة، حيث يندفع الراوي معلنا عن المفتاح الرئيس الذي يكشف سر النَّص وأبعاده ودلالاته اللغوية والرمزية المثبتة عبر محاور البنية القصصية بأكملها، فهو يستهل القصة استهلالا رمزيا يحثُّ طاقتنا التأويلية على اليقظة: (في الداخل في عمق ذلك الدغل الأخضر المتشابك تماس دائم ومنهك بين كائنات عجيبة احتواها الدغل وامتنعت عنها الشمس، فاعتادت بمرور الأيام على الرطوبة والعفن، قتال خفي تنم عنه من وقت لأخر خربشة الأعواد اليابسة في الأعماق وأصوات الصراصر المتواثبة والجنادب الخضراء وأفراس النبي التي تلمع أجنحتها كلما انفلتت من ذلك الدغل، لكنها نادرا ما كانت تفلت منه، فلقد تشابك فوقها تشابكا عنيفا، قتال صامت مرير بين خضرة قاتمة وظل خفيف، بين ضعف متأصل…وبين عناد أزلي لنبتات أخرى تثب وتعرش على حساب هذا البعض المتردي في الظل الذي ينتظر اليباس…ص38)( ).
فشبه الجملة: (في الداخل…) الذي يفتتح الاستهلال لا يقبل من المتلقي مشروع قراءة أو رؤية خارجية للنص، بل يحتم عليه أن يذهب إلى الداخل، ومؤكداً: في عمق ذلك الدغل المتشابك، حيث تتوالى الرموز، ويتوالى معها جدل الكائنات والموجودات وتحولاتها. تماس دائم ومنهمك بين كائنات عجيبة، حيث يظل الصراع سمة أزلية لحياة تضم بين جنباتها المتناقضات كلها ومن خلال جدل التناقض تندحر كائنات ضعيفة وتتلاشى لتنهض أخرى ذات قوة واقتدار مهمتها الأساسية العمل على حماية الحياة ومواصلة بنائها. إن محاولة التخفيف من وطأة الواقع المعبَّر عنه لا تلبث ان تكشف عن نفسها برغم التمويه القصصي؛ لان الأمر في الحقيقة، قتال خفي بين مخلوقات تتصارع، قتال صامت مرير بين كائنات متفاوتة القوى، متباينة الطاقات، وهي بالرغم من انتمائها جميعا للأرض، وبالرغم من علاقات الجوار والتماس الدائم إلا أنها تصطرع، والصراع يقوم بين عناصر الحياة الأزلية ذاتها..
إن الاستهلال يقدم لنا لوحة تشكيلية رسمت بظلال كثيفة، واشترك في تشكيلها مجموعة من الأفعال والأسماء والنعوت النابضة وحروف الربط التي شدّت نسج السرد، في حين كان وصف الأم النائمة في الغرفة الطينية يهتم أكثر بالتفاصيل، تفاصيل دقيقة حركية رمزية في بعضها ملامح جنسية، لا بل كان الوصف في هذا المطلع افتتاحية موسيقية تعلن حركة الأثر ونبرته، فضلا عن مهمات الوصف الأخرى كونه يوسع المنظورات السردية، ويلون إيقاعاتها، لأنه يحدث نوعا من الاسترخاء بعد مرور الحدث، أو يثير توترا عندما يقطع السرد في لحظة حرجة... ( ). وفي وصف الأم النائمة يكمن أكثر من رمز، إنها زمن كان مخصبا بدليل الأمومة ثم مضت معه عوامل الخصب فاستكان وقطع العلاقة ببؤره المتوهجة. والاستهلال بـ (الدغل) استطاع أن يحقق التناغم الإيقاعي بين المناخين الطبيعي والإنساني، حتى لقد شارك المكان هنا مشاركة فاعلة في البطولة الإنسانية للقصة، فقد كان يعانق، يلوب، ينتفض، يخمد، يظمأ، يروي: (أما الدغل…كل الدغل وما ينضوي عليه من كائنات تعجيبة فهي لا تعمل شيئا سوى القفز من اتجاه إلى آخر، ومن محور كوني إلى آخر…ص 62) فالسارد يعلن بوضوح أنه يشتغل في هذا النَّص انشغالا كونيا. إن خضرة الدغل والتفاف النبت فيه لا تعكس خصوبة فوقية هي خصوبة السطح المنظور حسب، بل هي خصوبة تحيل على خصوبة أخرى اكثر عمقا وابعد دلالة، واكثر تماسا بجوهر الحياة والكائنات… تلك هي خصوبة الفعل الإبداعي الذي يحافظ على جوهر الحياة ويعمل على ديمومتها واستمرارها وعلى خصوبة العقل الذي يمتلك سلطته على الطبيعة وعوامل الفعل فيها، وإذا كان خصب الدغل يوحي بالتشابك والغموض وزحمة الأشياء، فان العقل الإنساني وما ينتج من معارف وفنون وإبداع لا يقل خطورة عن الدغل في هذه الحقيقة، إن كليهما يحتاج إلى تحقيق التوازن لكي تهدأ الأشياء وتستقر، وإذا كان العقل متوازنا فانه لا يكف عن التوجيه والسيطرة على الإرباك الذي يعمل على اضطراب سيرورة الحياة، من هنا كان أبطال هذه القصة ينطلقون من المحسوس إلى المجرد حيث ينتقل النور من العقل إلى القلب… وحيثي واصلو نحلم هم في اتجاه المجهول من اجل العثور على الطابع الفعلي للحب( )… وفعلا وجده عبد الحق الزغبي مع خديجة كما وجدته هي معه، وكما يسعى مروان الحسن إلى ذلك الوجود مع المرأة ذاتها: (المرأة الوهج الغامر الناث كالمطر ليغطيه ويشطره بعنف وصلابة … 47) ويسجل العنوان مرة أخرى أهميته المتفردة في القصة من خلال انتشاره على جسد النَّص فقد تكررت مفردة الدغل (38) مرة، في حين تشظى المطلع وانتشرت أجزاؤه في تحولات عدة تغلغلت عبر مقاطع النَّص وصفحاته اكثر من (35) مرة متلونة تلون سياقاتها، مما أضفى على البنية التركيبية للقصة تلاحما وانشداداً يؤكدان التماسك الحي ما بين تشكلات المعنى وصياغاتها، بين الدلالات وتركيبها منذ بداية القصة وحتى جلوس بطليها على قمة الزهو الإنساني يملؤهما (فرح الإنسان بالوجود…)( )وهو يظن انه ممسك بأصابعه القوية سر الحياة وبهجة المستحيل.
إن الاقتتال الحاد الذي يموج داخل الدغل –الاستهلال، كان بحاجة إلى فعل إنساني يعمل على إعادة التوازن إلى الأشياء، ويمسك بزمامها، ويدفعها باتجاه الانسجام والتوافق والعزف على نغم هادئ، ففي أرجاء القصة تناقض صامت بين عوامل الحياة والموت، بين الانفصال والاتصال، بين الوجود والتلاشي وباختصار هناك صراع بين الموت- الغياب والظمأ والإقفار وبين الحياة –الوصال والتوحد، يتم كل ذلك من خلال واقعية تزخر بالرموز المتحولة المتداخلة تداخلا يشبه تداخل الدغل، هكذا تقبل علينا البنية الكلية للقصة كثيفة، مليئة بعناصر التوهج الرافض للجدب واليباس.
إن الغياب الذي يقاتل مروان الحسن من اجل دحضه على طول النَّص لا يلبث ان يتراجع مندحرا أمام إصرار عوامل الحياة المتمثلة في الرجولة القوية والأنوثة المعطاء: صنبور الماء، الضوء الذي يفلق القمة إلى نصفين، القمة التي تفلق وهج قرص الشمس إلى عمودين، الأرض المشرعة للارتواء حيث تتبدى الطبيعة منذ البداية معلنة عن نفسها بشموخ وخصب من خلال حضور اللون الأخضر الباعث على الاستقرار والتوازن وسط صراع الكائنات ثلاث مرات في المطلع وحده: (الأخضر، الخضراء، خضرة) مستنهضأً كل المعطيات الدلالية في القصة من اجل موازاة هذا الحضور الطاغي الذي يسعى إلى تحقيق وجوده، وكأن هذا الوجود لا يمكن له أن يتحقق بعنفوان إلا من خلال تلاحم أخاذ تندرج في غلالته الذكورة والأنوثة معا حيث التوحد الذي يعلن بداية الشروع في الارتواء: ارتواء الدغل، الأرض، التراب، الكائنات المحيطة، الجو المسائي والريح الراقصة ثم…التوازن: (لكن الأرض الرطبة كانت باردة ومسالمة.. ص62) (واستفاق على انبجاس شيء رطب يغمر جسده وامتد ليشمل كل الدغل المحيط بنا.. ص 64) كل ذلك يتم من خلال قضية كبرى هي قضية التواصل مع الحياة، ودحض عوامل الاستلاب والعقم والظمأ والانتصار عليها، والوسيلة لتحقيق ذلك رجولة مقتحمة: عبد الحق الزغبي، مروان، وخديجة التي تخرج من دائرة الأغلال الثقيلة التي تلقي بكاهلها على حياة الناس في الريف ولاسيما في القضايا التي تتعلق بمنظومات قيم عتيقة تلقي بحد السيف على رقبة كل امرأة ظنوا ولو مجرد الظن أنها يمكن أن تلحق بتلك المنظومات (في عرفهم) أي نوع من الأذى …ان خديجة تستبد لخضوعها للأعراف و التقاليد الثقيلة المثقلة بالقمع والذبح والاضطهاد بالانفتاح على كل القيم الإنسانية من خلال إقبالها على نداء الحياة بعفوية واعية تطفح بالصدق من خلال تعاملها مع العلاقة بكلا الرجلين: (لكنني يجب أن افهم منه شيئا الآن وقبل أن يتمادى…كانت تريد أن تعرف إلى أين سيفضي هذا التشابك وماذا يبغي ابن العجوز الخائفة، كان عبد الحق عندما أخذها في تلك المزرعة الموحشة يعطيها اليقين بأنه سيتزوجها في الغد، وفعلا كان عبد الحق عند نهاية نهار اليوم التالي يطلبها من أهلها وتزف إليه بنفس الليلة…ص71).
• 3
إن بنية النَّص في قصة الدغل تسعى بكل الجزئيات المنبثة فيها إلى تحقيق التوازن مع الذات الإنسانية من خلال ذلك التكامل المتفرد الذي يتحقق في مشهدين اثنين يتخللان جسد النَّص وينبثان في أرجاء الطبيعة المحيطة بذلك الفعل المتناغم عبر خلايا الأشياء والكائنات حيث يعاد بناء الشخصية الإنسانية من جديد وسط ظروف تنتصر فيها الحرية على كل عوامل القمع والإرهاب فإذا الهدوء يشمل كل شيء: (كانت أعماقه المحترقة يخف فيها ذلك الوجيب، وينزوي منها الاستياء المقيم …ص 72) لماذا الاستياء المقيم في دواخل الرجل، ما أسبابه..؟ لا تفصح القصة بل تشير إشارات وامضة، (كانت رطوبة الأرض تتحول إلى نبع هادئ …كائنات الدغل لا تريد أن تحتمل كل هذا السكون… هذه الجنادب الملونة من أين لها كل هذا البريق والزهو…ص62) هكذا ينحل توتر الأرض ويهدأ شجاها، ويزول ما بها من حرارة وظمأ وإرباك. إن خلق هذا التناسق الكوني الشامل هو هدف الفعل الإنساني، فامتثال المرأة بعفوية واعية لكل قوانين الحياة ملغية كل القيم القاتمة المصنوعة بظلامية والتي امتلكت سلطتها عبر تاريخ طويل من التسلط، إنما هو امتثال لعوامل الخصب في الكون، ورفض للأعراف التي تحاول خنق الحياة، والحد من انسيابيتها.. (هو الذي يمشي وأنا اتبعه …ص 57 كنت انتظر ان يفعل كل شيء بيديه…ص58).
إن الجنس في هذه القصة كما هو عند لورنس (دافع لاستمرار الحياة ليس بمعنى التناسل، وإنما بمعنى استمرار الصراع الذي يدفع بالحياة إلى أمام …)( ) كما يقول الطيب صالح، واستمرار البناء الذي يعمل بإصرار على إيقاف الهدم وعوامل التشيء، وأبطال القصة لا يذهبون من المعنوي إلى المادي كما هو معتاد في مثل هذه العلاقات، بل ينعكس الأمر لديهم إذ نجدهم يحولون بالجنس –الرمز (ما هو مادي إلى حقيقة إنسانية) ( ): (كنت أريد الأرض، أن يكون رأسي على الأرض…ص63) (وكانت رؤوسنا على التراب، وكان التراب عزيز اعلينا…ص 64) ان كل شيء في هذه القصة ينهض بتشكيلات كونية (وكان التراب عزيزا علينا)،لأنه تراب الكون الإنساني، وما يجري عليه من فعل هو فعل شمولي ؛ إنها حكمة الرائي الذي يدرك ما يقول لأنه رأى بأم عينه ما أعطى التراب وما يُعطي لقد أعطى التراب بالأمس آدم وحواء وما انبث منهما من بشر وصراع وكينونة، وقدرة على تشكيل الجمال، وفي أعماق التراب تثوي الكنوز والجواهر، ويثوي الماء سر الحياة وينبوعها، وسر الورد والثمر والحدائق.
ان كل شيء في القصة ينهض بتشكيلات كونية، لأنه لا يخصص مكانا ولا مدنا ولا يضع حدا لفضاء، فهو التراب وما يجري عليه وفيه ، وهو يشهد الحياة واندثارها، والوقائع والأحداث وانسرابهما. إن المرأة هنا شخصية متمايزة، لا تتكامل شخصية الرجل إلا بها ومعها ومن خلالها بالرغم من اهتمام النص بفردية الإنسان الخالصة من التبعية ، فالحب هو التعبير الكبير الباذخ عن الحرية هذا ما تسعى معظم شخصيات جنداري إلى تحقيقه بعيدا عن عقد التسلط والتشويه الجنسي التي كان يعاني منها مصطفى سعيد في (موسم الهجرة إلى الشمال) إنه الجنس المنتمي إلى الإنسان بكل ما في الإنسان من نبل وقيمة، وهو واحد من تلك الصور والمواقف الحية التي رسمها كتاب كبار من أمثال همنغواي في (لمن تقرع الأجراس…) رمزاً للسلام المفقود، وجورج اورويل في (1984) رمزا للحرية والتحرير، وحن امينا في (الياطر) رمزا لتحقيق التوازن الإنساني، لا أنانية ولا حرص على البقاء حسب، بل نشدانا لعناصر الحياة الأساسية التي تديم ذلك البقاء بشكل جمالي: الأمن، السلام، الحرية، التوحد والتناسق والانسجام، كل ذلك من شأنه استمرار الحياة بشكلها المتناغم، الحركي، أما النسل والتوالد فقد يتم من خلال العلاقات الآلية ما بين أي ذكر وأنثى، ولذا لم يكن ذلك هم عبد الحق الزغبي –البطل: (هذه البطن يجب أن تبقى ضامرة إلى الأبد.. ص65) وهو وعي للتعب الإنساني المتوارث في ذلك المكان: قرى جنوب الكرة الأرضية وأريافها ومعظم مدنها، وأمكنة الوطن العربي والعالم الثالث المقهور بالاستغلال والسلب والنهب والتخلف تقدمه القصة مشحونا بالمصاعب والشقاء والمكابدة المرّة في الربع الأخير من القرن العشرين: (إننا نشقى كثيرا يا خديجة، عاهديني على الا ننجب أحداً يرث عنا هذا النكد…ص 65). (ولنؤجل إنجاب الأطفال لندفع عن أنفسنا التعب يوما إضافيا ص41) والنكد متأت هنا من واقع بائس يموج بمظاهر التخلف… (البيوت الطينية والأغنام والدجاج والناس المتعبون…ص51) وعبدالحق الزغبي يدرك سر العوامل التي تنخر واقعه وتعطل مسيرة الحياة فيه، أليس هو الذي أوقف الجرة بشكل مقلوب على الأرض: (لماذا جعل فمالجرة على الأرض والقاعدة إلى السماء…؟ ص59) لم يجب احد عن تساؤل خديجة لكن ذلك الفعل لايخلو من محاولة جادة لهز وتحريك تلك القيم الساكنة السائدة منحوله، فهذا الاتساق السكوني القديم في موجودات مجتمع القصة يجبان يتخلخل ويطاله التغيير من اجل خلق تناسق جديد متحرك وأكثر انسجاما وملاءمة مع العصر والأشياء…
فعدم الإنجاب إذن محاولة لتأجيل أو إيقاف الجهد والنصب والكد المتواصل بغية البحث عن بدائل لحياة اجمل واكثر بهاء، وليكون الجنس في النهاية مشروع تلك الحياة بما فيها من تواصل وبناء وعمل إيجابي: (هذا الدغل ليس كثيفا فدعه يرتوي ليشتد تكاتفه…ص73) إشارة لواقع يشكو الظمأ والفراغ وفقدان الركائز الأساسية التي يتطلبها بناء حضارة معاصرة. ولعل القصة تطرح تلك المكابدة من خلال افتقاد الإنسان لاثنين من اهم المقومات الأساسية للحياة ولمشروع التحضر فيها: الماء والكهرباء، وما يعانيه الناس في محاولة الحصول على النزر اليسير منهما بالرغم من وجودهما بوفرة في ذلك المكان. الا ان هذا الوجود مصحوب بالهدر والإرباك، لان التصرف بهما وطرائق التعامل معهما مصابان بالعطب والبدائية، فلا علم ولا تخطيط ولا قدرة على تفعيل الطاقات الثاوية في هذه الأرض.
• 4
تطرح القصة صراع القيم من خلال الرمز منذ الصفحة الأولى، والقديم بالرغم من التمزق الذي لحق به عبر مرور الزمن الا انه ما يزال بارز العناوين، راكزا في الأرض، واضح الصور، لكنه يظلُّ ملاحقا بالمقاومة والتمرد القويين: عيون مروان الحسن رمزا لشباب يميز ببصيرة ووعي، (في تلك الفسحة جلس مروان يحدق في نتف جريدة قديمة تناثرت منذ زمن في هذا المكان، وظلت عناوينها المقطوعة بارزة على القصاصات ذات الزوايا الراكزة في الأرض عناوين باللون الأحمر، وطائرات سوداء في بحر كثيف من الدخان ….ص29). ان عوامل الهدم والإفقار محيطة بناس هذه الأمكنة، يرمز لها اللون الأحمر إشارة للدم النازف عليها والطائرات السوداء التي ظلت لها بالمرصاد عدوانا وانتهاكا وتعتيما للرؤية وما ينتج عن ذلك من إرباك للحياة. وتواصل الرموز حركيتها الجدلية داخل البنية الكلية للقصة وفي إطار موضوعها العام حيث يعكس معظم هذه الرموز مدلولات مكانية ومجتمعية وفي طليعتها دلالات جنسية تنتظم مع بعضها في نظام خاص تمليه فنية القصة وحركة نموها، ففضلا عن صنبور الماء، الجرة، السر الذي يكمن في قطعة مطاط في الداخل، نشهد تحولات رمزية في الصفحات 46، 47، 48 عبر سقوط وهج قرص الشمس على القمة الشاهقة الماثلة أمام عيني مروان الحسن غروب كل يوم حيث يتولى الوصف رسم لوحة تشكيلية مفعمة بالإيحاء، وحيث تكون القمة وقرص الشمس كلاهما قادرين على استيعاب وتمثل رمزي الأنوثة والذكورة في ان واحد، مرة عندما تستقبل وهج الشمس وتمتص شعاعه لتحوله باسترخاء إلى دم متوهج، ومرة أخرى عندما تشمخ القمة لتصير عبد الحق…هكذا يناور الفن من اجل ان يقدم لنا الذكورة والأنوثة ملتحمين في رمز واحد بعد مقاومة عنيفة –معوضد– في عملية جذبو مقاومة إذ يتم الاستسلام في النهاية معلنا اندغام الأشياء في نبض الحياة: (كانت القمة الرفيعة العالية تقاوم، وتخترق بجهد عنيف ذلك القرص النازل على الجانبين بصمت…. ان عبد الحقه والأجدر بان يكون القمة ….ص47)،إذن: علي ان أكون القمة التي يتمزق فوقها ذلك القرص، وتتسلقها تلك الأعمدة من الشعاع الكثيف…ص48) وإذ تتألق الأنوثة بذلك الشموخ فان قرار الاقتحام يتطلب طاقة تليق بالهدف ولذلك كان عبد الحق:( القمة الحادة التي تشطر قرص الشمس وتبدد شعاعه الأصفر العميق على السفوح والمرتفعات …ص48) لتفرش الأمومة ظلالها على الكون وتنعم الكائنات بحنان دافئ وثير….
ان الرمز في قصة الدغل لا يرد موظفا للكشف عن دلالة ولا يقتصر على توضيح هدف معين، بل هو كما في كل عمل إبداعي مثير مهم من المثيرات الفنية، مثيرٌ قد يشوِّش على القارئ الجاد ويغريه مضللا وصوله ليغويه بمواصلة البحث عن المعاني الثاوية في التشكيلات اللغوية التي انتظمت في النَّص..
كان عبد الحق قمة متوهجة ص49 = ذكورة
وكانت القمة تغيب ص49 = أنوثة
فخديجة تنسحب من المكان وقت الغروب كما تنسحب باقي الفتيات كل يوم، فينطفئ شعاع الأمل الذي يغازل الكون …(كان منظر القمة الشاهقة يشغله بدون انقطاع…ص50) فما المقصود بالقمة الشاهقة ، فرد أم موقف أم حلم أم قيمة ..؟ ليس ذلك ما يعني النص لأن ما يعنيه حضور قمة ما مثيرة وشاغلة في رؤية البطل ، وبالرغم من جدلية الحركة المتبادلة ما بين الرمزين ذكورة وانوثة ، الا أن فن محمود جنداري يصر على تميز المرأة وقدرتها اللانهائية على العطاء واحتضان الكون فالضوء هو الاسمى والأشم والأكثر شفافية ولطفا، بغيابه يسود الظلام، وتغيب القمم إذ تتعطل الرجولة عن الفعل والتوهج، ولذلك كان بطله مصرا على انه هو القمة الملتهبة أبدا، وهي خديجة التي تنشطر ذلك الانشطار المثير الذي ينهمر وهجا كثيفا على الجانبين. وهو إذ يحملها مسؤولية ذلك الدور الإيجابي الخلاق فلانه يؤمن بوعيها الكبير لمسؤوليتها في اختيار الحياة، وفي الانحياز التام لها، ووعي الحرية فيها على انها ممارسة دائمة للوعي الإنساني وحضور يقظ في ساحة الوجود.
كذلك تتنوع وتتحول الدلالات التي يرمز لها (العرق النافر أو العرق الناتئ …) فمرة هو عرق الرقبة، ومرة هو الكائن الناتئ بعظمة… عبد الحق الزغبي، وأخرى يتبلور الرمز ليصير ذلك العرق الذي يحدث في الأعماق تدميرا ما (ص 60، 61، 62، 63، 64).
• 5
إن السرد في العمل القصصي يعد(المجال المتميز الذي تتمثل عبره وفيه عملية الإبداع الأدبي لهذا العمل أو شعريته اكثر من أي مجال أخر، فهو يشكل ذلك الحيز الأساس الذي يتمحور عنده فن الصياغة الأدبية جاعلا منها في التشكيل الخاص الذي يسمها به نصوصا فنية ترتقي قيمتها الجمالية بالمدى الذي يرتقي فيه فن انتظامها السردي إذ أن هذا الانتظام هو المعطى الذي يحكم جميع المعطيات الأخرى القائمة في النَّص القصصي)( ). من هنا يتمحور فعل القراءة على الطرائق الفنية التي يتمظهر فيها فعل السرد بحثا عن جمالية التفرد في النَّص وفي بؤر توهجه.
تبدو القصة مروية من خلال راوٍ خارجي، وهذا الراوي يتسم بمقدرة عالية على تحقيق علاقة وثيقة بينه وبين المتلقي لطبيعة اللغة التي اتسمت بالشِّعريَّة والتشويق معا، لذلك كانت شخصيات القصة حاضرة بالرغم من قلة المشاهد الحوارية في النص، ذلك أن عبد الحق الزغبي، خديجة، مروان الحسن، الأم العجوز تمكنوا من تحقيق علاقة حميمة مع القارئ، وبالرغم من تفاوت حضورهم فقد كانوا جميعا رواة في الداخل، كما شاركوا في تقديم عناصر القصة وبلورتها، وحينما كان التأزم يشتد، ويدرك الراوي ان شخصية ما بحاجة إلى تقديم حدثها بنفسها فانه ينسحب متيحا لها الفرصة كي تقدم ذكرياتها عن طريق المونولوج الداخلي كما فعل مع خديجة، حيث قدم مونولوجها بؤرة الحدث محتلا اكثر من ربع مساحة النَّص (تسع صفحات من ست وثلاثين صفحة…).
ان سرد (الدغل) سرد له منطقه الداخلي الخاص المعتمد على الثنائيات المتناقضة مرة والمؤتلفة أخرى، وعلى تداخل الألوان المباشرة وغير المباشرة، فقد كان للألوان هنا منطقها الخاص داخل السياق، كل ذلك في استراتيجية تسعى باتجاه بلورة الحدث والشخوص والأشياء من خلال تداخل تقنيات عديدة كالاسترجاع عودة للماضي والاستباق والمساواة والحذف و الإيجاز والإجمال، والقطع والوصل…. إلى آخر ذلك، وقد كان المونولوج هو أداة الشخصية هنا في التذكر واسترجاع لحظات لم تنقض ، بل ظلت موصولة بالزمن الراهن من خلال استمرار قدرتها على الحضور.
واذا كان هدف المونولوج الداخلي هو توصيل الهوية الذهنية( ) قبل كل شيء، فان خديجة استطاعت ان تستقطب كل الجزيئات المضيئة في ماضيها لتتألق من خلال مونولوجها قصيدة تنبض، تشتعل، تضيء، ثم تذوب وتتلاشى عبر انفعالات جسّدها الفتي في اجمل نسج وادق تصوير، إذ تلتحم اللغة في عملية نظم متفردة، فالنسق الذي يتم به الكلام البليغ كما يرى الجرجاني هو (نظير الصياغة والتحبير والتفويف والنقش، وكل ما يقصد به التصوير …)( )، بهذه الحلة بدا المونولوج وهو يتدفق بمكامن الشعور مستلا إياها من أعماق النفس، معبرا عن تداعي الأفكار بتدرج، فما قدمته البطلة هو سلسلة من الذكريات لا يعترضها مؤثر خارجي، ذكريات تنساب بمنطق تغلب عليه طبيعة البوح الحار والبث الوجداني المتواصل …( ) ؛ لأنه يعبر بصدق عن مشاعر تنضح بالحيوية والبهجة والانتشاء بالرغم من فقدان عبد الحق الزغبي، ذلك لان خديجة تتعامل مع الحياة بوعي متفرد ، وغياب فرد مهما كان ذلك الفرد غاليا لا يعني تغييبا لعوامل الحياة الزاخرة حولها، ثم ان عبد الحق لم يمت، وهو لم يغب كذلك، لان حضوره كان يملأ كل شيء، ويتجلى في كل سمات الحياة الطافحة في ذلك الدغل الأخضر المتشابك، انه يواصل الحضور في ذهنها ومشاعرها معا، وفي ذهن مروان الحسن كذلك، كما يواصل الحضور في كل مظاهر القوة والذكاء والعنفوان الذي عرف به…. اجل لم تمت في ذاكرتها القيم التي مثلها عبد الحق، ولكن الذي مات هو الزمن الماضي، فالزمن يمضي دون عودة لكنه يظل باقيا بمنجزه وآثاره، وقيم عبد الحق ووعيه هي المنجز الذي ظل شاخصا في روح خديجة ومروان الحسن. إنها إذ تقف الآن بين يدي مروان قرب صنبور الماء لا تعيش زمن عبد الحق، بل تعيش لحظتها الراهنة، وكأنها تدرك بالفطرة أن الزمن لحظات معلقة بين عدمين هما الماضي والمستقبل، فتجدد الزمن يفترض الموت، لان الزمن لا يستطيع أن ينقل كينونته من لحظة إلى أخرى لكي يكّون من ذلك ديمومة …لكن الإنسان يستطيع فيه أن يرتقي إلى الأبدية، وذلك ما يتجلى في مظاهر الخلق والإبداع…( )وهذا ما تجلى في فعل عبد الحق إنسانا وعاشقا ومقتولا قبل الأوان.
إننا لانعرف من قتل عبد الحق، ولماذا قتل، وكيف، وما هي (النهاية المجيدة التي اختارها لحياته) ص51. أن مقتله يظل غامضا في القصة غموض الدغل وما في داخله من أسرار، إلا إننا ندرك ان الحياة الزاخرة بالصراع هي التي قتلت عبد الحق، وان عوامل القبح المتصدية للخير والوعي والجمال عبر العصور هي التي قتلت عبد الحق، ورد فعل خديجة الإنسانة، وهي تفقد حبيبها العاشق لم يكن جزعا ولا تمردا أو عزلة سلبية، لأنها امرأة تنتمي إلى الحياة وتعيها وعيا ناضجا يجعلها تقبل الأمور بواقعية، وتقبل البدائل لو كانت خلاصا.. أهي التي دفعته إلى الموت (وهي المرأة التي تدفع زوجها لان ينهي حياته…ص56) كيف، ولماذا …؟ أمور ظلت غامضة في النَّص ومسكوتا عنها وذلك مما زاد القصة ولعا، إذ لا احد من الشخصيات يبوح بالسر، ولذلك تظل القصة محاطة بغلالات من الغموض التي تشيع في أطرافها كثيرا من السحر والافتتان وتشويق الباحث عن أجوبة لكثير من التساؤلات التي تطرح نفسها عبر النص، وهذا ما يزيد الأثر الأدبي غنى وكثافة وانفتاحا على المزيد من الاحتمالات والإحالات والتأويل…
•6
وإذا كان البحث سيتناول التكرار في المونولوج فلأنه الظاهرة الأسلوبية الأكثر بروزا والأشد هيمنة على أجواء النَّص بالرغم من احتواء القصة على ظواهر أسلوبية كثيرة في مقدمتها التصوير والإيجاز والحذف والأطناب والمساواة وتنوع التقنيات من خلال رجوعات واستباقات تتداخل كلها بالحاضر، وتحيل بإشارتها الخاصة على المستقبل، حتى ان دلالات البنية لا تنفك تعلن عن شعرية النَّص لتؤكد حقيقة ذلك التشابك من خلال الدراسة والتحليل.
امتد المونولوج من مطلع الصفحة السابعة والخمسين حتى منتصف الخامسة والستين عبر حيرة ووجد يموجان ما بين الصوت والمعنى بنظام علاقات متفرد وتكرار مثير، كلما ابتعد القارئ عاودت الفاصلة والتوازيات تكرارها لتعاود القارئ دهشته وليلتفت إلى الوراء متابعا هذا التلوين في تكرار العبارة، كل مرة بلون جديد يختلف عما سبق لكنه ينشد إليه بأكثر من آصرة، فالنغم يتلون من خلال تحريك الضمائر غيابا وحضورا، تذكيراً وتأنيثا، إفرادا وجمعا، ومن خلال تغير صيغ الأفعال ذات الجذر الواحد، أو الصيغة الصرفية الواحدة ليفاجئ المتلقي فإذا به يلتفت يمينا وشمالا ويسعى إلى أمام وهو يتأمل هذا الانشداد الحميم بين أطراف النَّص في وحدة عضوية أخاذة وعصية على التجزء، إذ اختلف مفهوم الوحدة العضوية عما كان عليه في الماضي فقد كان يسعى بالأمس إلى خلق ترابط مؤتلف بين البنيتين السطحية والعميقة بينما يتجلى مفهوم هذه الوحدة اليوم في البحث عنه داخل البنية العميقة حين تتسم السطحية في النص المعاصر أكثر الأحيان بالتشذير والتشتيت، ولذلك احتاجت مثل هذه النصوص لقراءة معمقة قادرة على الإمساك بتشتيت النَّص وتنافره لتحيل ذلك التشتيت على الوحدة والانسجام، فقد كان النَّص يعمل على تفجير كل ما في الطبيعة من نغم كامن ووجد دفين، ولواعج معقدة، وطاقات مضمرة، فما بين نعم ولا يكمن سر المخاطرة الإنسانية الرهيبة كما يكمن سر المغامرة الأزلية التي أوقعت ادم وحواء وما تزال توقعهما في شرك دائرة اللهب …لا، ونعم، بين هذين القطبين كان مونولوج هذه القصة يتحرك ببوح دافئ، حيث الفعل في مد وجزر، وحيث تتجلى شعرية النَّص في ابهى ما تكون من خلال أنواع التكرارات بالحرف والتجمعات الصوتية، بالمفردة والجملة، بالتوازيات من اجل تحقيق أعلى مستويات التنغيم التي خلقت إيقاعات مبهرة:
هو الذي انتهكني بعينيه الحادتين ص57
جذبني …هو الذي جذبني ص57
توقفنا …هو الذي أوقفني ص57
إن التوازي الذي شكله التكرار بين هذه الجمل يعيد رؤية الرائي في جلجامش عبر تناص تركيبي يجمع وقائع وأحداثاً زمنية، فتكرار الضمير والاسم الموصول في الجمل الثلاث يؤكد إسناد الأنثى الفعل إلى (هو) ثلاث مرات مما يؤكد اعتراف خديجة بوعي الرجل الجمالي في سعيه نحو الكشف بحثا عما في السر من يقين..
كان خصري يتخدر، هو الذي يفعل ذلك ص57
هو الذي يمشي، وانا اتبعه ص57
أوقفني مرة أخرى، هو الذي أوقفني ص58
هو الذي علمني القسوة ص58
ضمني بعنف، فدفع بي إلى حافة الشلل النهائي ص58
إن الإحالة بضمير الغائب (هو) يعمل على توفير فضاء اكبر للسرد لبعد المسافة الزمنية بين المتكلم وبين الشخصية التي شكلت الحدث في الماضي والتي تعد اليوم غيابا، مما يوفر للخطاب فرصة أوسع مما لو كان الحدث بين المتكلم (أنا) والمخاطب (أنت) لان الأمر هنا سيتسم بالمباشرة التي يتطلبها خطاب الحضور، بينما يمثل (هو) الغياب الذي يوفر للقراءات تعددا وللتأويل أكثر من مجال. إن الضمائر من الروابط المهمة في النَّص فهي – ولا سيما في الإحالة– تعمل على تماسك النسج النصي كما تكثف المروي مبعدة إياه عن التكرار غير الموظف الذي يؤدي بالنص الى الملل والتفكك، فضلا عن وظائفها المرجعية والانفعالية والإدراكية وكلها وظائف مشتركة ذات فاعلية خاصة بين المبدع والمتلقي.
إن التكرار الذي يشكل أصل التوازي وتعمل تردداته الصوتية على تشكيل شعرية أي نص أدبي يتجلى بفنية عالية في نص جنداري عبر التلوين والتحولات والإغراء والمراوغة من اجل تشكيل يتفوق على النظم في كثير من الأحيان:
قلت له …عبد الحق الزغبي ص58
انه يدفع بي إلى حافة الشلل النهائي ص58
قلت له …نحن وقوف يا عبد الحق ص58
إنه هو الذي فعل ذلك ص58
قلت له …الجرة يا عبد الحق ص58
قلت …الوقت يأخذنا يا عبد الحق ص59
كان عرقه يسيل من ذلك العرق الناتئ ص59
كنت أضيع وأنسى كل شيء، أهو الدوار ص59
كان يتلقفني من الوسط، انه يفعل ذلك، ودائما من الوسط ص59
قلت له … أنت تريد فضيحتي يا عبد الحق ص59
قلت له: هذا عذاب لا يحتمل يا عبد الحق ص59
إن المناوبة ما بين كان وكنت عملت على تشكيل حركة فنية عارمة بجمال التحول، فضلا عن ان الحوار المقطوع الذي يُوجه من طرف واحد متواصلا دون جواب، لم يُلحِق خللا في النَّص بل هو كثف الدلالة، ودفع المتلقي لتفعيل القراءة من خلال البحث بتأمل وتأنٍ عما يمكن أن يكون جوابا للفعل " قلتُ " لكن جواب " قلت " لا يأتي قولا على قول، بل يواصل الفعل منغمرا بتلبية نداء الحياة وهو يُشعل الطين من أجل أن يضيء إبداعا، بينما يواصل الحدث وقائعه الاسترجاعية:
كان جسدي ينتفض، يخمد، يثور، يذوب، اهو الدوار ص60
جاء فمي على العرق النافر من رقبته ص60
إنه هو الذي فعل ذلك ص60
إن جنداري يُعوِّل كثيرا على جمالية الصياغة وهي تتجاوب مع تناقضات الشعور في طباقات متقابلة ما بين ينتفض / يخمد ، ويثور / يذوب وكلها أفعال مسندة إلى الجسد متشكلة بجمل فعلية جاءت أخبارا للفعل الناقص (كان) . إن العلاقة بين شخصيتي القصة هنا لا تحيل على إنتاج تمثلات تقليدية اختزالية للرجل والمرأة وذلك بربط الأول بمواصفات الذكورة والثانية بنعوت الأنوثة، هذه الثنائية التي تعتمد على الفصل بين القوة والضعف، بين الفعل العام والممارسة الحميمة، بين امتلاك العقلانية وامتلاك الجسد والعواطف، بل كان كل من البطلين يمتلكان نوعين او ثلاثة انواع من انواع الرضا، الرضا الجسدي ورضا الفرد عن ذاته التي تولد فعلا حرا، وهذان النمطان غالبا ما يوجدان في حالة تفاعلية، فضلا عن معيار ثالث يضيفه بعضهم هو تثمين الذات( )، من هنا لم يحضر الجسد في القصة بصفته البايولوجية المجردة، بل كان عبر النص كله ملتحما بأرقى المشاعر الإنسانية من خلال وعي إدراكي لأهمية حضور الجسد في العالم حيث تلتحم الجوانب النفسية والجسمية عبر سيميائية انشغلت بالفعل والإشارة وبلاغة الحركة عن الوصف الكاشف مما جعل النص مكتنزا فتح للخيال مجالات رؤيوية واسعة المدى إذ صار للجسد دلالة، ولحركة كل عضو فيه معانٍ يبحث عن أبعادها المتلقي. إن تكرار لازمة التحذير والحرص على سلامة الجرة تأكيد على أهمية ما لجسد الأنثى من خطورة في الوعي الجمعي وفي وعي المرأة بذاتها:
تابعت قطرات العرق الصغيرة البيضاء المتشبثة بذلك العرق النافر لامست شفتي ذلك العرق الناتئ المثقل بقطرات عرق صغيرة بيضاء.. ص60
قلت له، الجرة يا عبد الحق، حاذر ... ص60
لكن الكائن الخرافي الذي ينتفض أمام عيني الآن جميل ورائع ومغر ص60
فتحت شفتي قليلا، بل هما اللتان انفتحتا ص60
كان الجسد الخرافي حارا إلى درجة كبيرة ص60
أغمضت عيني، بل هو الذي فعل ذلك ص61
قلت له …الجرة يا عبد الحق، حاذر ص61
تحررت يداي فتحركت أحداهما إلى رقبته تتلمس ذلك الكائن الناتئ بعظمه ص61
هو الذي فعل ذلك
إن خديجة هنا تعمل بوعي على تفعيل مفردات جسدها ، إن محمود جنداري يمنح الأنثى جرأة على قول الجسد ؛ لأنه يمنحها القدرة على أن تكون حرة وان تعيش حريتها لترتبط بالوجود من أجل ذاتها أولا ومن أجل التفاعل معه في قضيتي الكشف والتحقق. ، من هنا نجد ضمير المتكلم يشتغل بانسيابية وشجاعة لا تفتر ، تابعتُ ، لامستْ شفتي ، أمام عيني ، فتحت شفتي ، أغمضت عيني ، تحررت يداي ، فتحركت إحداهما إلى رقبته. لتأخذ حركة أعضاء الجسد الأنثوي مداها الموازي لمشاعرها في مدٍّ متواصل : ص61
كنت اركض وراء أصابعي، بينما الجنادب تركض خلف بعضها البعض، كنت اركض وراء شفتي، وراء ذلك العالم الساحر الذي خلقته تلك الرائحة المفجعة ص61
إن الموازاة بين الركض الأنثوي وراء الأصابع التائهة على جسد الذكورة والجنادب التي تركض خلف بعضها بعضا تأكيد لكونية الطرح الذي أكدته قصة الدغل بعمقها ووعي بطلتها الحركي، فالمخلوقات كلها تركض بفاعلية من أجل تشكيل الحياة كلٌّ بقدرته على إدامة ذلك الفعل الحيوي فيها ومن اجلها.
قلت له …هذا لا يطاق يا عبد الحق ص61
قلت له …لقد أحرقتني يا عبد الحق ص61
انه هو الذي يعمل…عبد الحق ص62
رفعت راسي فوقعت عيناي على ذلك العرق الناتئ ص62
قلت له …. آخ يا عبد الحق ص62
وقفت … أنا التي وقفت ص62
لابد انه قد تخيلها قبل أن تحدث ص62
انه هو الذي يفعل ذلك ص62
نهض وشدني من الوسط ص62
لابد انه تخيله قبل أن يحدث ص62
استفقت على العرق الناتئ يحدث في الأعماق تدميرا لذيذا ص64
كانت ضربات قلبه تعيدني إلى هذا الدمار اللذيذ في الداخل ص64
ان النص من خلال ما يجري من فعل متوهج لا يعير اهتماما لشكل الجسد الخارجي لكلا الرجل والمرأة ضمن المعايير المتداولة قبولا ، ولا يتوقف عنده كما في أعمال الأدب التقليدية ومعاييرها الجمالية الكلاسيكية، فلا وصفٌ ظاهر لوسامة الرجل وقوته العضلية، ولا إبانة نعتية لسمات المرأة الجمالية ، لأن كل ذلك بدا منصهرا بحميمية الفعل الإنساني، وباديا من خلاله ، لكن الرضا الجسدي يتجلى لدى الطرفين من خلال جمالية التجاوب وحيويته وقدرته على التواصل. ان النص يعطي للأنثى فضاءً لفعلين، فعل القول وفعل الاستجابة والتواصل، بينما يمنح الرجل فعله التواصلي حسب، وكأنه يدرك وهو منهمك باستجابة الجسد المنفعل بالمشاعر أنه لا يمكن أن يجيب إلا من خلال الفعل، وهي تدرك ذلك وتفهم قيمة تلك الأجوبة وفاعليتها ولذلك تستمر بحوارها من خلال تكرار الفعل: قلتُ.
إن الجمال لا يشخصه الوصف المباشر هنا ، بل يفصح عنه الإيحاء ، إن العيون التي تتركز فيها جمالية الوجه والتي (كانت أداة الإحساس بالمسافة أصبحت الأداة المفتاح للاحساس بالحداثة لانها سمحت بالاتصال ، وتركت المتخاطبين على قائمة الاحتياط) ( ) ولذلك يكتفي النص بما توحيه العين وهي بين حالي الإغماض والفتح ، وكما في حركة الشفتين تماما ، وحركة اليد ، ذلك أن هذه الحركات ليست هي المقصودة ؛ لأنها إشارة ، بل المقصود دافعيتها وما تشير إليه ، ومن هنا تكتسب حركة الأعضاء أهميتها بحيث اعتقد بعضهم ان الجسد ( بناء رمزي وليس حقيقة في ذاتها)( )
هكذا كان البطل يعزف على لحن هادئ صاخب، ملتاع سعيد موجع، وكانت هي ترقص رقصا هادئا صاخبا ملتاعا سعيدا، ونحن نسمع اللحن ونبصر الرقص مأخوذين بذلك التناسق العجيب.إن تأكيدها المتكرر على إسناد الفعل إليه:
هو الذي، بل هو الذي، انه هو الذي، محاولة مغرية لتبرئة الذات من المشاركة، وتأكيد للمتلقي على إقبال الأخر عليها وقتاله من أجلها، لكن هل يستطيع ذلك التأكيد أن ينفي الفعل عنها…؟ إن تكرار إسناد الفعل إليه عملية مضادة ورد فعل عكسي يشعرها بوعي أو دون وعي بلذة الرغبة بها والاقبال عليها من خلال مشاركتها وانغمارها بالفعل:
-إنني احترق يا عبد الحق.
كانت تبعده عنها لتتمكن منه، ولتمكنه منها، كانت لا تبتعد إلا لتقترب ولا تمنع الا لتعطي، شانها في ذلك شان الحياة تماما في إقبالها والصدود.
ان تأكيدها إسناد الفعل اليه استدراك منها على اعترافها بالمشاركة بل وبالمبادرة كذلك: (توقفنا …هوالذي أوقفني… 57) (كان خصري يتخدر…هو الذي يفعل ذلك…57) (سقط راسي على صدره.. انه هو الذي يفعل ذلك…ص60). إن أجواء القصة وحركة أبطالها تشير لعالم من الصفاء الكوني مذكرا بنقاء أول الخلق حيث لا عقد ولا تشويه ولا إيديولوجيا ولا هيمنة فحولة أو نسويات تحكم البطلين سلبا أو إيجابا، وإنما فعل ينساب بعفوية إنسانية جمالية بلا افتعال خصوصيات تتعلق بالمرأة تارة وبالرجل أخرى، ولا إدانة للذكورة أو الأنوثة ولا انحياز لأبوية رمزية تحفظ لعالمنا العربي قوته الفحولية بالتمييز بين الذكر والأنثى ولا التفات لتبعية تقهر إرادة المرأة وتسمها بالانكفاء( ).
واذا كان هذا المبحث لم يؤكد تكرار المفردات في السياق كما هو معتاد في تحليل الشعر، فلان تكرار المفردة هنا كثير كثرة لافتة للنظر، ولا يفي به بحث موجز كهذا من جهة، ولان إيقاع المفردة في الشِّعر له طابعه الخاص المختلف عن طابع الإيقاع في السرد القصصي، إذ يتمحور الإيقاع في الأخير حول الجملة السردية ذاتها، ويتشكل من خلال تلونها داخل السياقات المتعددة، فبينما توظف الجملة الشِّعريَّة الطاقة الإيقاعية لمفردتها أقصى توظيف، يندمج إيقاع المفردة في الجملة السردية مندغما بإيقاعها العام.
ان التكرار هنا ذو وظائف شتى فضلا عن تأكيد الدلالة، فهو (حركة ارتدادية، وهذه الحركة لا تتعامل مع الماضي على انه زمن انقضى، بل على أنه لحظات قابلة للتكرار، لان ما يحدد قيمة فعل من أفعال الإنسان هو إمكان تكراره أو بالأحرى هو مستقبل سوف يتخذ من التراث الماضي ليصبح قابلا للعودة باستمرار)( )فهو بؤرة دلالية كلما تكررت عملت على شد النَّص وتحقيق التواصل بين مقاطعه، وحالات التكرار هنا تنطوي على التلوين والمغايرة، هذا التلوين يهدف إلى التقاط التباينات الصغيرة وإبراز أهميتها، وهو هنا يؤشر التشابه والاختلاف معا، ليس في رصد الحركة حسب بل وفي تباين الهواجس المحركة كذلك ونحن مع المعتقدين ان تكرار الوحدة النغمية الكاملة أو تكرار الجمل الملون هو مرحلة تالية للتكرار اللفظي، ذلك أن التقسيم النغمي للجمل المكررة يبرز حركة الشعور النفسي بصورة أكثر وضوحا، وان كان لا يعتمد على الإيقاع العالي الذي يحدثه التكرار اللفظي لأنه نتاج تطوير واع إلى حد كبير لهذا التكرار( ).
فالتكرار في هذه القصة، وفي المونولوج بشكل خاص لا يرمي إلى تأكيد الفعل فقط، أو توزيع بؤر التوازن في النَّص والانسجام والتناسق في الصوت، بل كانت مهمته الواضحة إضفاء أبعاد نفسية وجدانية رمزية يجلوها السياق.
ان الضمير المكرر واسم الموصول بعده يعمل كلاهما على ربط الكلام وتأكيده، والتكرار بهذا الأسلوب يشكل بؤرا نصية كل بؤرة بلون يختلف عن الآخر،وخلال توقع المتلقي اختلاف الألوان المرسلة يفاجئه النَّص بالعودة إلى لون سابق من خلال تكرار يتماثل مع واحدة من الجمل الماضية مع نوع من المغايرة التي تلون النَّص وتحركه جماليا، فضلا عن كثرة الأفعال الحركية في بداية الجمل.. انتهك، جذب، أوقف، جعل، ضم، يتلقف.. إلى أخرالصيغ الفعلية حيث يتابع النَّص منهجه من المادي إلى المعنوي إذ انتقل من الانتهاك والجذب والإيقاف إلى المعنوي المجرد: هو الذي علمني، إلى اختلاط الأمرين في فعل واحد: (فعل) ست مرات اربعٌ منها بصيغة الماضي واثنان بصيغة المضارع، حيث يعلن النَّص عن استمرارية هذا الفعل الإنساني من خلال: انه هو الذي يعمل…انه هوالذي يفعل ذلك ، وكأنه يصلي أو يؤدي طقسا سحريا.
لكن عبد الحق لم يكن يصلي وحده، كما لم يكن منفردا في ذلك الطقس الأسطوري، ان خديجة كانت معه، وتراتيلها التي جاءت على شكل ترنيمات قدسية في اثنتي عشرة جملة من جمل النداء داخل المونولوج تؤكد ذلك، وكأن الطبيعة تتجاوب مع بعضها حينما تمد القصة وشاج إلى ذلك العالم الفطري البعيد، الذي يعبر عنه مثل هذا النظم المترع بالعفوية والصفاء والمتضمن أعلى سمات التنغيم والتنوع الصوتي الذي يتجلى في طرائق التشكيل داخل النظام الذي هو اختيار المبدع وحده لكون التنغيم لا يتأتى من البعد الصوتي حسب، بل ومن التركيب النحوي الذي يساعد التنغيم على تنظيم حالات الانفعال ما بين صعود في حالات الشوق واللهفة والتعجب حسب قوة المثيرات التي تستفز التجربة، وهبوط في حالات الذبول والألم واليأس، فطبيعة المواقف والسياق يحددان درجات النغم في صعوده عن الخط المستوي أو هبوطه أو استقراره في الاستواء.
ان تكرار الجمل التي احتوت اسم (عبد الحق) وبصيغة النداء جميعا وبهذه الانسيابية المنضبطة بعيدا عن الملل والرتابة لا بد وان يحقق مهماته البنائية والدلالية والإيقاعية:
عبد الحق الزغبي ص58
نحن وقوف يا عبد الحق ص58
الجرة يا عبد الحق ص59
الوقت يأخذنا يا عبد الحق ص59
أنت تريد فضيحتي يا عبد الحق ص59
هذا عذاب لا يحتمل يا عبد الحق ص59
قلت له.. الجرة يا عبد الحق.. حاذر ص60
قلت.. الجرة يا عبد الحق حاذر ص61
قلت..هذا لا يطاق يا عبد الحق ص61
قلت لقد أحرقتني يا عبد الحق ص62
قلت له.. آخ يا عبد الحق ص62
و أقول كما تشاء يا عبد الحق ص65
ان شيوع التكرار في هذا المقطع وفي أرجاء المونولوج كلها ولا سيما تكرار الفعل " قلت " واسم العلم "عبد الحق "، وهيمنة صوتي القاف والعين على معظم مقاطع المونولوج أشاعا فيه فتنة وجمالا نهضا بجمالية المشاعر وتوهجها معا، فالقاف والعين لا تدخلان على كلام الا حسنتاه لأنهما أطلق الحروف، فالقاف امتن الحروف وأصحها جرسا، والعين انصع الحروف جرسا وألذها سماعا، فإذا كانتا أو إحداهما في بناء حَسُن لنصاعتهما( ).
ان التوازيات الصوتية الحاضرة في المونولوج والمتسمة بالتماثل لا التطابق، تشكل نسقا من الأنساقالأسلوبية وأحد العناصر التنظيمية التي تعمل على تنسيق الشكل الأفقي للنص في بنيته السطحية بينما ترفد البنية العميقة بمضمراتها الدلالية الناجمة عن الائتلاف والتضاد معا وهما يشكلان انسجام النص. إن أهمية التوازي تكمن في كونه يشتغل على مستويات عدة أولها الصوتي الذي يعمل على بلورة بؤر زخرفية جمالية في المستوى الأفقي تقابلها بؤر دلالية في المستوى العمودي، ذلك ان التوازي مصطلح قادم من العلوم الهندسية إلى ميدان النقد الأدبي، فهو (تنمية لنواة معنوية سلبا أو إيجابا بإركام قسري أو اختياري لعناصر صوتية ومعجمية وتركيبية ومعنوية وتداولية ضمانا لانسجام الرسالة)( ) وكشفا عن الدور الذي يلعبه البعد الصوتي بتشكيلاته الإيقاعية في إنجاز الدلالة.
(كان النبض يشتد،وكان التنفس يشتد وكان الصمت يشتد)
ص61
إن التوازي هنا يمثل شكلا من أشكال التنظيم النحوي المعتمد على عنصر ثابت هو فعل الاشتداد وما في الفعل الناقص كان من زمن ماضٍ، بينما يتغير المسند إليه من جملة لأخرى ما بين: النبض، التنفس، الصمت، يعززه التطابق الإيقاعي بين الصيغ الصرفية لكل مكونات الجملة الفعلية " كان.... يشتد " مع الترددات التي وفرتها أصوات الفعل يشتد المكرر نهاية التراكيب الثلاثة وما في ذلك من تعميق لشعرية النص،إذ لا يخلو أي تواز من تكرار أيا كان نوعه، وبذلك يكون التوازي (تأليفا لمجموعة من الثوابت والمتغيرات، فالثوابت عبارة عن تكرارات خالصة في مقابل المتغيرات التي هي بمثابة اختلافات خالصة) ( ).أما بلاغة الفعل التي يحتويها (الصمت) فقد زادت النَّص كثافة وقدرة على الإيحاء لما في الصمت هنا من دلالات تعجز اللغة عن الوفاء بمكنوناتها، لأن البوح بها سيفقدها الكثير مما بقي نابضا في خفايا مستوياتها التركيبية.
إن وظيفة النداء عموما هي إشاعة النشاط والحركية في النَّص من خلال الحاجة لاستحضار المنادى، والنداءات هنا تنساب في سياقات مختلفة من اللوعة في النداء الأول حيث حذف حرف النداء، إلى التحذير في الجمل الثلاث التالية إلى التعنيف الملغوم بالإغراء في النداء الخامس حيث توشك المقاومة ان تتلاشى ليبدأ التجاوب من النداء السادس إذ تطغى نداءات الانغمار والاستجابة على التحذير، إلى ان يزول التأزم من خلال الاندماج بالفعل حيث يتحقق التوازن من خلال نداء مليء بالرضا والاستسلام: (كما تشاء يا عبد الحق)، إذ تكرر الفعل (قلت) ومعه الجار والمجرور (له) احدى عشرة مرة، ليتحول في النداء الأخير من الماضي إلى المضارع ولتفرض الصيغة الجديدة استمرارية التوحد والانسجام في صنع القرار على الزمن الآتي. إن تكرار الفعل (قلت) تأكيد على الوعي بالفعل داخل الحدث، وتأكيد على إيجابية الحركة على المستويين: الداخلي والخارجي، وفي إطار النفي والإثبات معا ليتحقق التواصل الشامل في النهاية، على الرغم من التهديد المستمر لعوامل النفي الخارجية التي تهدد البطلة.
أما تكرار نداء عبد الحق فبالرغم من اختلاف سياقاته الا انه في كل تلك السياقات كان يدور في النهاية حول دلالة تكاد تكون واحدة هي الاستنجاد طلبا للخلاص من خلال ترتيل اسم ذلك الرجل العاشق بما ينسجم وتلك اللواعج الداخلية المعقدة التي لم تكن البطلة قادرة على الإفصاح عنها، فكانت لا تجد ملجأ منها غير اسم (عبد الحق) تردده كل مرة في سياق، وتلجأ إليه في بث، وتدعوه بلوعة، وتلوذ به وتناجيه بلذة وحنين طافح بطقوس ذي خصوصية شعائرية تقربها من التراتيل الدينية القديمة المحاطة بأجواء من القدسية والضراعة التي تعبر عن اللهفة في تحقيق المراد، وذلك ما يطلق عليه بالرقية السحرية المستدعية( ).
ان ما رسمه المونولوج هو مشهد يجمع بين سلوكيات وانفعالات تبلور الاستجابة الطبيعية لمثير تتمظهر استجابته على شكل فعل تفصح عنه الأصوات، فالنسيج الصوتي يؤدي مهمة تكوين تيار خفي للدلالة، ويعطي قوة غامضة للكلمات بما يسبب استثارة الخيال والنفاذ لصميم المتلقي( ).
• 7
ان راوي جنداري يدخلنا في سرد قصصي محكم، لكن هذا السرد يمتاز بضراوة شعرية عارمة إذ تتخلله وتتألق داخله جمل تتمتع بقرار إيقاعي مستقر، والمقصود بالقرار الإيقاعي المستقر هنا اكتفاء الجمل بنفسها من حيث التركيب والدلالة بالرغم من تجاوبها الكامل مع الجو القصصي المحيط بها في القصة( )ومن خلال أواصر عديدة تمكنت من توظيف كل أدوات الربط المتاحة ولا سيما الربط بإحالة الضمائر لما قبلها:
(أصابعه تهبط كالجمر المحرق تنساب بهدوء عجيب..
تشويني على مهل
ص59
فالأخبار المتعددة: (تهبط، تنساب، تشوي) على الرغم من اكتمال المعنى بالخبر الأول (جملة تهبط) إلا أنها لا تنقطع عن المبتدأ بل ترتبط به من خلال إحالات الضمير العائدة عليه.
(كانت رطوبة الأرض تتحول إلى نبع هادئ
وكانت الموجة المعرشة في الرأس تشتد
كثر تقافز أفراس النبي، واشتدت حركة بداخل الدغل…
إن مثل هذه التوازيات التي نشرت إيقاعات مؤتلفة مختلفة في آن واحد، ورسخت دلالة التصاعد والاستمرار المكثف في اشتغال الفعل تتحول / تشتد /، وتغاير المسند إليه في التقابل ما بين رطوبة الأرض والموجة المعرشة في الرأس، ومثلها كثير في القصة استطاعت أن تشكل بؤرا كثيفة تضيء فتجعل النَّص أكثر قدرة على تفجير طاقته الصوتية، ونشر ظلال المعاني وتلوينها، فشعرية النَّص هنا لا تتأتى من التكرار وفنونه حسب، بل تتعدى ذلك إلى تركيبة الجمل التي تم التكرار من خلالها أولا، ومن المحتوى وتأكيد الدلالات والإحالات التي احتوت عليها هذه الجمل ثانيا، حيث اتسمت بسمات هي من أهم خصائص الشِّعر وحده: الكثافة والإيحاء وتحولات المسند اليه حيث تبادل الرمز الواحد أكثر من مهمة دلالية ضمن شبكة علاقات محكمة، كما اتسمت الجمل المكررة بتبادل الشحنة وتواصل الإيقاع وانقطاعه، فالسرد يستعير من الجملة السابقة شيئا من تركيبها ليبدأ بالشروع في بناء بؤرة جديدة وإيقاد شحنة أخرى تصير امتدادا لسابقتها، لكنها تزيد في تألق خطوط السرد الصاعدة الهابطة المتداخلة والنابضة أبدا بالجديد:
توقفنا..هو الذي أوقفني
أوقفني مرة أخرى..هو الذي أوقفني
ضمني بعنف، فدفع بي إلى حافة الشلل النهائي
انه يدفع بي إلى حافة الشلل النهائي
فمن خلال هذه الجمل ومثلها الكثير في النَّص تبدو لنا أهمية الدور الذي تلعبه الموهبة في تحريك وتحوير البنى، ومن خلال الأفعال التي تكررت داخل الجمل، والتحوير في صيغتها ومواقعها والبيئة اللغوية المحيطة بها. فالجملة السابقة التي تكررت لا تظهر أهميتها إلا من خلال تكرارها بجملة جديدة، لان الشحنة تتبادل الفعل والحركة المتصلة عن طريق ذلك التكرار، حيث تشيع الشحنة توهجاً يضيء النَّص ويعمل على جمع أطرافه.
ان الشِّعريَّة هنا تحتوي السردية ولا تتقاطع معها هنا، بل تندغم الواحدة بالأخرى في تداخل فاتن ومناور، تداخل يقطع ليوصل، ويوصل ليقطع مع تنوع في الضمائر، وغموض ولبس دلالي يكتنف القصة ليزيدها إثارة وفتنة.
• 8
وبعد فهل استطاعت الذات الراوية ان تقول ما تريد...؟هذا ما تحدده النهاية المنفتحة على احتمالات وتأويلات لا تضيع فيها حقائق الأشياء بل تتألق وسط الحزن والفرح والمكابدة، من خلال مسلمة يتوهج بها كل سطر من النص، ذلك ان الخصب والقوة هما اللذان عليهما ان يحكما منطق الحياة الحقيقية، وما دون ذلك فهو الظل الذي يقع ضمن التشابك المغلف بالظلام الممتد عبر القواعد المحكومة بالقمم، يبدو ذلك من خلال عوامل الخصب الطافحة بالقصة، فقد تكررت مفردة (الماء) حوالي (39) مرة، بينما تكررت المفردات الدائرة في فلكه أو التي تحيل عليه من صنبور، وجرة، ورشح، ورواء ورذاذ…وغيرها اكثر من (178) مرة، في حين لم ترد مفردات الانفصال والقطيعة المتمثلة بالظمأ والاحتراق واليباس والضعف والجدب أكثر من (50) مفردة قليل منها كان مباشرا، والأكثر ورد مؤولا في السياق..
ان مفردات الخصوبة وعوامل الحياة كانت تنساب عبر النَّص مزيحة عوامل الإفقار والشحوب لتتبلور في الختام بتصميم عارم على مواصلة التحدي واستمرار المقاومة في واقع يزخر بالجهد والنصب، وهذا ما يفسر معظم رموز القصة التي اتسمت بالازدواجية، فقد كانت أدوات اتصال وانفصال في آن واحد فصنبور الماء والجرة، وفانوس النور، وقدر الماء النحاسي، ووهج قرص الشمس والقمة، هي جميعا أدوات اتصال في حالة الإيجاب والعطاء، وأدوات نفي وانقطاع في حالة الغياب والسلب، فضلا عن التقابلات الدلالية ما بين الداخل والخارج، ففي داخل البيت كان نوم الأم / الزمن الماضي يبعث شخيرا بأصوات قابلة للتأويل في اتجاهات عدة، بينما كانت حركية الشباب في الخارج تشتعل بالخصب والإقبال على تجديد الحياة وتفعيل عوامل استمرارها بيقظة وتوهج. إن وعي جنداري بتحول مفاهيم الجمال من تقليدية ذات معايير سكونية تنزع للثبوت إلى علاقات جدلية قادرة على احتواء اللبس القائم بين المتضادات دليل على سعة ادراك شمولي ورحابة أفق واستيعاب حركي لمنطلقات الحداثة وما بعدها.
هل الخاتمة لحظة تنوير حقا كما وصفها النقاد، أم أن وصفهم كان محددا بأعمال مرحلة من المراحل عبر توجهات لا تنطبق سماتها على توجهات النصوص المعاصرة ومنها النَّص الحالي...؟
إن خاتمة النصوص المعاصرة سواء في الشِّعر أو النثر الأدبي بأنواعه المتعددة لم تعد تلزم نفسها باشتراطات الإفصاح أو التنوير، موكله ذلك لإشارات تنشرها على جسد النص،ملقية على القارئ مهمة تشكيل النهاية وهي تحرص على إبقاء النصوص مفتوحة مطالبة المتلقي التفنن بتشكيلها، كذلك فعل محمود جنداري في نهايته التي أودع فيها أكثر من سر من أسرار الدغل/ الحياة، لكنه لم يألُ جهدا في بث مقاصده عبر جمل موجزة، موحية، مكتنزة بالمعنى. إن التوازن بين الاستهلال في القصة وبين الخاتمة قضية مهمة لتحقيق الانسجام النصي لأنهما يشكلان بؤرتي البداية والنهاية، فالبؤرة الأولى تدفع المتلقي نحو الفضاء الداخلي للنص بعد أن تمهد عبر إشاراتها لمضامين متنه،(فتكون جملة الاستهلال أثناء الكتابة هي العامل البنائي الأساس والمولد، وبعد الانتهاء من الكتابة تبدأ قوة جملة النهاية بالظهور ليس كمحصلة لصراع الجملتين في النَّص فقط،وإنما كقوة بنائية جديدة تعيد تركيز الفعل فيها،وكأنها تسحبه من جملة الاستهلال) ( )، بينما تحيله الثانية نحو الخارج نصي ليقوم هو بتشكيل احتمالات دلالية للنهاية المفتوحة، إذ لم يسع راوي جنداري إلى إغلاق النهاية على حل معين يُلزم به المتلقي وهذا ما يوسع أفق النَّص ويفتح فضاءاته على أكثر من توقع وتأويل، ان تناظر الاستهلال مع الخاتمة يحقق دوما وظائف تتقابل بفن، منها زج القارئ في أتون الحدث بالنسبة للاستهلال وخلق حالة إدهاش بالنسبة للخاتمة والعمل على خلق علاقة ترابطية ما بين الاستهلال والخاتمة مع العنوان، وخلق علامات لتشكيل إحساس القارئ وفتح أفق انتظار المتلقي ما بين الاستهلال والخاتمة( )، مما يحتم القول بضرورة دمج جملتي البداية والنهاية معا في متن النَّص دون أن يكونا منفصلتين إلا بكونهما تقعان في مكانين مختلفين واحدة بداية النَّص وأخرى في نهايته مع أنهما يولدان معا منذ بدء القصة، لكن جملة البداية ستكون نبضا كامنا في رحم جملة الاستهلال التي تكون قوية وحاملة لنوى النَّص كله بما فيها نوى النهاية( ).ليكون النَّص منجزا ما بين المبدع والمتلقي بأرقى ممكنات القدرة الفنية التي يمتاز بها الفنان وهو يُقابل ما بين الداخل والخارج ففي الداخل كان الزمن الماضي يغط بسكونية الغياب ، بينما كانت حركية الشباب تُشعل الخارج بالخصب والإقبال على تجديد الحياة وتفعيل عوامل خصبها، وأسمى ما يمكن من طاقة ثرية على الاستقبال وتشكيل الجمال لدى المتلقي.
المصــــادر والمراجــــع
•أبحاث في النص الروائي العربي، د. سامي سويدان، مؤسسة الأبحاث العربية، ط1، 1986
•استراتيجية القراءة، التأصيل والإجراء النقدي، بسام قطوس، مؤسسة حمادة ودار الكندي، اربد، الأردن، 1998.
•انتروبولوجيا الجسد ، دافيد لو بروتون ، ترجمة محمد عرب صاصيلا ، 40 ، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع ، بيروت ،1997 .
•تحليل الخطاب الشعري، د. محمد مفتاح، استراتيجية التناص، محمد مفتاح، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، بيروت، ط1، 1985.
•تيار الوعي في الرواية الحديثة، روبرت همفري، ترجمة: د. محمود الربيعي، دار المعارف، مصر، ط2، 1975
•ثقافة الجسد، قراءة في السرد النسوي العربي، عبد الغفار العطوي، مؤسسة السياب، لندن، ط1، 2013
•حدس اللحظة، غاستون باشلار، تعريب: رضا عزوز وعبد العزيز زمزم، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 1986
•الحصار، محمود جنداري، وزارة الثقافة والفنون، بغداد، 1978.
•دلائل الإعجاز من علم المعاني، الإمام عبد القاهر الجرجاني، (ت 471 هـ) دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت، 1978.
•الشعرية، تزفتيان تودوروف، ترجمة شكري المبخوت ورجاء بن سلامة، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، ط2، 1990.
•شعرية القصة القصيرة جدا، جاسم خلف الياس، دار نينوى، دمشق، 2010.
•الصورة في الشعر العربي حتى آخر القرن الثاني الهجري، د. علي البطل، دار الأندلس، ط2، 1981
•الطيب صالح عبقري، الرواية العربية، مجموعة دارسين، إعداد وتقديم احمد سعيد محمدية.، دار العودة، بيروت، ط1، 1976.
•ضريبة السعادة، الإشهار وتوثين الجسد، د. الصادق رابح ، مجلة عالم الفكر، الكويت، المجلد 37، العدد 4 / 2009 .
•عالم الرواية، رولان بورنوف وريال اونليه، ترجمة: نهاد التكرلي، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، ط1، 1991.
•فن الخطابة، أرسطو طاليس، ترجمة عبد الرحمن بدوي، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، ط2، 1986.
•فن كتابة الأقصوصة، مجموعة مقالات ترجمة كاظم سعد الدين، الموسوعة الصغيرة، بغداد، 1978
•في الشعرية العربية، قراءة جديدة في نظرية معاصرة، طراد الكبيسي، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 2004.
•القصة السيكولوجية، ليون ايدل، ترجمة: محمود السمرة، المكتبة الأهلية، بيروت، 1959.
•لسان العرب، ابن منظور، (ت 711 هـ)، مادة دغل، دار صادر، ط3، بيروت، 1994.
•اللغة الشعرية، دراسة في شعر حميد سعيد، محمد كنوني، دار الشؤون الثقافية، بغداد،ط1، 1997.
•مارتن هيدجر والكينونة، د.مطاع صفدي، مجلة الفكر العربي المعاصر، 3 / 1980.
•ما يخفيه النص، قراءات في القصة والرواية، ياسين النصير، تموز، ط1، دمشق، 2012
•مباحث في علم اللغة ومناهج البحث اللغوي، د. نور الهدى لوشن، المكتب الجامعي الحديث، الإسكندرية، مصر، 2008.
•منهاج البلغاء وسراج الأدباء، أبو الحسن حازم والقرطاجني (ت 684 هـ)، تحقيق محمد الحبيب بن خوجة، دار الكتب الشرقية تونس، 1966.
•الوثوب والاستقرار، دراسة أسلوبية لقصيدة شاذل طاقة، خالد علي مصطفى، بحوث ندوة آداب الموصل، 1989.
742 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع