زينب حفني
كيف تبني الأمم حضاراتها؟ لماذا هناك بلدان اندثرت أمجادها، وأخرى وصلت للذروة بعد أن كانت نكرة؟ اليابان أكبر مثال! فليس سرّاً أن هذا البلد الآسيوي الذي يُفاجئنا كل يوم باختراعاته المذهلة وبقدراته الخارقة، كان قد زار وفد منه مصر عام 1862 للاطلاع على تجربتها النهضويّة الحديثة وأسباب تقدمها على يد مؤسسها محمد علي باشا الكبير. حصل هذا من خلال إرسال بعثة أطلقوا عليها اسم (بعثة الساموراي)، كانت تُمثّل الطبقة المثقفة بالمجتمع الياباني آنذاك.
وها هي اليابان التي استفادت من دروس الماضي، ومن تجارب الآخرين، تُصبح في مصاف الدول العظمى بعد أن نفضت عن نفسها آثار هزيمة الحرب، وتحدّت مواردها الفقيرة، واعتادت الصمود أمام الكوارث الطبيعيّة التي تجتاح أرضها بين آن وآخر.
لا شك بأن مصر اليوم التي كانت ذات يوم محط أنظار العالم، قد تراجعت مكانتها الحضاريّة وريادتها المعرفيّة، بعد كانت بالأمس قبلة العرب جميعاً! وأصبح شأنها شأن أغلبية أوطاننا العربية في تخلّف شعوبها فكريّاً وعلميّاً نتيجة انحدار مستوى التعليم بمختلف مراحله، القائم على الحفظ والتلقين وعدم إعمال العقل. وتجاهل جامعاتنا ومعاهدنا أهمية البحوث العلميّة وربطها بقاعدة الحلال والحرام، مما أدّى إلى تخرّج شباب أميين غير قادرين على تطوير مجتمعاتهم! إضافة إلى تدجين العقول العربيّة وتصنيفها حسب عقائدها، بسبب هيمنة رجال الدين على كافة مرافق الحياة في مجتمعاتنا! وارتفاع معدلات الأميّة نتيجة تزايد الفقر.
كانت قد لفتت انتباهي عبارة كتبها خبير جودة التعليم بكوريا الجنوبيّة الدكتور «فيكتور شيا»، يقول فيها:«لا تُوجد دولة تتحمّل إنتاج جيل كامل دون تعليم جيّد، فهذا الجيل سيُدمّر الدولة داخلياً لتتفتت وتفقد وجودها! الشرق أهمل التعليم والآن يدفع الثمن». عبارة جميلة وتحمل مضامين خطيرة! والحقيقة أن أوطاننا لم تُهمل تعليم جيل بل سلسلة أجيال للأسف! وكلما نظرتُ حولي وشاهدتُ الحال التي وصلت إليها أمتنا العربية، أحس بالقهر وأضع اللوم على الجميع دون استثناء! فمؤسساتنا العلميّة والتعليميّة نفضت أيديها سنوات طويلة من مسؤولية أبنائها، مما أدّى إلى نشوء أجيال متعاقبة لا تحمل فكراً واعياً ولا تملك عقلية مستنيرة وليس لديها قدرة على الابتكار والتجديد وغارقة حتّى أذنيها في لجج التطرف الفكري، بسبب احتلال مناهج التعليم الدينيّة مساحة كبيرة في مناهجنا الدراسيّة التقليديّة، وتجاهل متعمّد للمواد العلميّة الحديثة وكأن الحياة ليست دنيا ودين!
عند حلول موعد جائزة نوبل من كل عام، أنتظر بفضول أسماء الفائزين، وأداري وجهي خجلاً من الأسماء اليتيمة التي حصلنا عليها بعد كل هذه السنوات الطويلة منذ تأسيس هذه الجائزة، كأنّه لم يكن لدينا حضارة عظيمة، وكأننا عشنا في فراغ دائم! قد يقول لي البعض هازئاً بأنها جائزة مسيّسة، وأن أغلبية المثقفين لا يعبئون بمن ينالها! ولكنني لم أقصد جائزتي الأدب والسلام التي تخضع للحسابات السياسيّة، وإنما قصدتُ مجالي الطب والعلوم بفروعها والتي تُمنح لمن يُقدّم خدمات جليلة للبشريّة!
حُلمي أن نطرد الفكرة المسيطرة على أذهاننا بأن جائزة نوبل لا يأخذها سوى عربي عاش مغترباً، كان للغرب بإمكانياته الضخمة فضل عليه في تفجير طاقاته وتبنّي ابتكاراته! حُلمي أن أرى تغييراً جذرياً بمناهجنا العقيمة والقيام بثورة علميّة وتعليميّة شاملة تقوم على تنشيط العقول التي دخلت في سبات عميق منذ عقود طويلة! حلمي أن تُشجّع النشء الجديد على الابتكار والاختراع، حتّى يُصبح عندنا في المستقبل علماء نفتخر بإنجازاتهم الفريدة. حُلمي تأسيس معامل متطورة للتجارب والأبحاث بعيدة عن ضغوطات رجال الدين، كون انعدام مناخ الحريات أكبر عدو للحضارة الإنسانيّة!
628 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع