روح التحدي..... ذكريات من عالم الطيران في العراق

                                                                   
                             

                                         فارس فاضل الجواري

                       مهندس طائرات

                       

لايمر يوم علينا ألا وتطل علينا أحدى القنوات الفضائية أو وسيلة من وسائل الإعلام بخبر عن ما يجـري في العراق من اقتتال داخلي يحمل طابع طائفي مرة ويحمل طابع أجرامي مرة أخرى وكــــأن العراقيين لا يشغل بالهم سوى هذه التفاهات من الصراعات والتناحـر على أمور كثيرة تحصل في العالم من تطور وتقدم تكنولوجي , وهذه الصورة المؤلمـة التي نراها على الشاشات والمواقع الالكترونية هي من تدبير كل من يريد أن يدمر حضارة وادي الرافدين الممتدة لآلاف السنين من  محتل الأجنبي وتابع له, شجعتــه على التغلغل داخل مجتمعنا والسيطرة عليه من خلال قتل وتهجير كل الكفاءات العلميـة والثقـافية التي يزخــر بها عراقنا وتشهد له كل المجتمعات الأخرى , والإبقاء على ضعفاء النفوس والعقول المتخلفة علميا وثقافيا داخــل البلد وتقويتهم وجعلهم كما نراهم الآن.

لكن الواقع أن الصورة مشوهة كثيرا وغير حقيقية عن العراقي .... أبن الحضارات والقيم الرفيعة والتاريخ المشرف والمزدهر بالبناء والعمران , العراقي الذي لطالما عرف عنه امتلاكه لروح التحدي لكل المصاعب والشدائد وحبه للتطور ومواكبة العالـم في تقدمه العلمي والتكنولوجي حتى في أحلك الظروف التي مررنا بها , وكان من أصعبها وأشدها الحصار الـذي فرض علينا في تسعينيات القرن الماضي والذي طال كل جوانب الحياة العلمية والاقتصادية والاجتماعية لفترة امتدت لأكثر من اثنا عشر عام, برزت خلالها العقول العراقيـة المحبة للحياة والمواكبة لهذا التطور العلمي من خلال الاستمرار في بناء مرافق الحياة كافة حتى تستمر عجلته فبرزت في تلك الفترة إنجازات عظيمة في مختلف جوانب الحياة جعلت من العراقي مفخرة لبلده وأمته العربيـة والإسلامية بمختلف الميادين الهندسية والطبية والعلوم الأخرى.

واحدة من هذه التجارب الكثيرة تجربتي الشخصية بعملي كمهندس طيران في قيادة طيران الجيش العراقي, وكان الحصار الذي تكلمنا عنه يشملنا وبدأنا نتأثر به كون أن  الطائرة تلك الآلة الحساسة تحتاج إلى تواصل مستمر مع الشركات المصنعة لها لترفدنا بأخر التحسينات والتطويرات التي قد تحصل في عالم الطيران, وهذا ما منعنا عنه  بتلك الفترة.
 كما معروف للعاملين بمجال الطيران أن عمل الطائرة محدد بوقت لايجوز بكل الأحوال تجاوزها تنفيذا لتعليمات السلامة الجوية التي تصدرها المنظمات العالمية المتخصصة بهذا المجال, وتسمى بكتب الصيانة للطائرات ب(العمر التقويمي) وهي الفترة الزمنية التي تقاس بعدد من السنين لا تتجاوز الخمسة عشر سنة  أو (العمر الزمني)  وهي ساعات التشغيل للطائرات التي تبدأ بخروج الطائرة من المصنع وبداية الطيران لها ولحد عدد ساعات تتحدها الشركة المصنعة, ولا تقل عن 1500 ساعة طيران,حفاظا على سلامتها وسلامة الطاقم الذي يقودها.

 خـلال فترة الحصار كانت معظم طائراتنا قد تجاوزت الأعمار المحددة لها (التقويمي والزمني) وأصبحت خارج خدمة الطيران  حسب ماتنص عليـه قوانين الشركات المصنعة لها , وفي هذه الحالة يتحتم علينا إرسالها للشركة لغرض أجراء  الفحوصات   المختبرية والعملية عليها وإجراء عملية صيانة دقيقة وعميقة تبدأ بتبديل بعض  الأجزاء المنتهية أعمارها والعاطلة وتبديل التسليك الكهربائي للطائرة والذي يقدر بعدة مئات من الأمتار, والفحص الدقيق للمحرك وناقلات الحركة ومحاوره وغيرها من التفاصيل المعروفة للعاملين بمجال الطيران, وتنتهي بإعادة صبغ الطائرة وغيرها من الكماليات,  وإعطائها عمر جديد وصلاحية جديدة لتبدأ عملها وكأنها أنتجت حديثا , وكان هذا العمـل مستحيلا بسبب ظروف الحصار المفروض على العراق , مما جعلنا كمهندسين وفنيين أن نهم بغيـرة العراقي المعروفـة في وقت المحن والشدائد  و نبادر بأجراء عملية الصيانة العميقة المعروفة عندنا بأسم (التصليح العام) لهذه الطائرات بقدراتنا الشخصية وخبراتنا الهندسية بهـــذا المجال والتي حصلنا عليها خلال سنوات العمل الطويلة على الطائرات وبعض المعلومــات المتوفرة في كتب الصيانة التي جهزنا بها مع الطائرات.
 حيث تم في حينها وضع خطة علمية مدروسة لإجراء أعمال التصليح العميق للطائرات المتوقفة عن العمل وتصليــح أجزائها العاطلة وتمديد أعمار أجزائها الصالحة والمنتهية العمر لعدد أضافي من سنوات العمـــل والطيران وذلك بإنشاء منصات تصليح وفحص لها (فواحص) وبأيدي عراقية وكلف رخيصة توازي بكفاءتها ما موجود في الشركـات المصنعة لهذه الطائــرات , وكانت النتيجة التي حصلنا عليها خلال فحوصات الطيران التي أجريت للطائرات فوق المتوقع والمخطط له, وبدا ذلك واضحا من خلال زيادة صلاحية عدد الطائرات المتوقفة عن الخدمـة إلى 80% من عددها الكلي .... حتى أن أحدى هذه الطائرات كانت تطير وتنفذ واجباتها  بدقة وعمرها تجاوز الثلاثون عام ( أي بخمسة عشر سنة أضافية فوق عمرها المقرر لها من الشركة المصنعة) .
هذه التجربة فتحت أمامنا أفاق جديدة للعمل, حيث قمنا بجمع الطائرات المحطمة خلال الحــروب القديمة التي مر بها بلدنا لكي نبدأ بعملية أصلاحها وذلك من خلال جمع الأجزاء الصالحة  لهذه الطائرات المحطمة وإجراء  الفحوصات اللازمة على منصات الفحص التي صنعت من قبلنا وبالبدء بتجميع طائرة مروحية كاملة من هذه الأجزاء المصلحة  محليا.
 وبالفعل نجحنـا بطيران هذه الطائرة المروحية التي تم تجميع أجزائها من عدة طائرات محطمة وخارجة عن الخدمة ... ودخلت الخدمة وعملت قرابة السنتين ,وكانت نتيجة غيـر متوقعة للشركة المصنعة لتلك الأنواع من الطائرات , حيث أن في  أواخر عام 2002 عندما كنا ننشر نتائجنا على شبكات الانترنت , جعل هذه الشركات ان تطلب منا الوثائق الفنية الخاصة بهذه الطائرة وخطة العمل للتصليح الذي أجري عليها, وظلوا  يتابعوا معنا طيران هذه المروحية باهتمام .

 علمنــا بعد حين أن هذه الشركـة اعتمدت النتائج الناجحة التي حصلنا عليها من خلال تجاربنا  وقامت بزيـادة عدد سنوات الضمــان التي تمنحها الشركة لنفس النوع من الطائرات الحديثة المصنعة حديثا لديهم وبدون أي تعديــل على المواصفـات الفنيــة لها وبالتالي زيادة أسعارها وبنسب عالية جدا كل ذلك اعتمادا على التجربة العراقية.

هذا هو العراقي ... الذي تفوق بقدراته العلمية التي حصل عليها نتيجة المثابرة والتطلع على كثير من أقرانه ممن توفرت لهم فرص الإبداع وبظــروف أحسن من التي مر بها..... أليس حريا بنا أن نفخر بعراقيتنا ونرفع رأسنا ونقول نحن عراقيين ونفتخر بعراقيتنا بمــــــا قدمناه ليس بهذا المجال وحسب , وإنما هناك المئات من الإعمال الإبداعية التي برزت بتلك الفترة في المجالات العلمية الأخرى , حيث كنا نسابق الزمن لمواكبة التطـور الحاصل في العـالم واستمرار عجلة الحياة لدينا.

فارس فاضل الجواري
مهندس طائرات

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

376 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع