فنانة بلجيكية تكتب في لوحتها أسئلة الإنسان أمام اللامتناهي.
صلاح راشد/العرب:يتكامل الشعر مع الفن التشكيلي ليخلقا عوالم روحية قبل أن تكون فكرية، وفكرية قبل أن تكون حسية، وحسية قبل أن تصبح مساحات للتأمل المفتوح. وهكذا نقف أمام لوحات الفنانة والشاعرة البلجيكية جينيفيف جيفارا، التي أتقنت صياغة سمائها وبحرها لتلقي بنا بينهما في لذة التأويل.
تبدو لوحة الفنانة التشكيلية البلجيكية جينيفيف جيفارا كأنها ارتحال في كثافة لونية غامرة، حيث ينهض الأزرق بما يحمله من طبقات رمزية ودلالات روحية ليغدو فضاء يفيض على العين كبحر داخلي، لا تحده ضفاف ولا يقيد اندفاعه سوى ذلك التماوج الأبيض الذي يخترق عتمته ككائن نوراني يشفّ عن حضور خفي.
إننا أمام سطح بصري يتجاوز فكرة التمثيل ليعانق اللامرئي، فالأثر هنا ليس مشهدا يُرى بقدر ما هو أثر يُستشعر، نداء يتوزع بين الصعود والانغمار، بين التفتت والتماسك، حيث تنبض اللوحة ككائن يتنفس عبر مساحات اللون المتشابكة.
البصري والروحي
الفن لا يصف العالم بل يوسع حدوده
في لوحة جيفارا هناك ضربات حرة للفرشاة تتخذ طابعا انفعاليا، لكنها في الوقت ذاته تنسج نظاما داخليا صارما، كأن الفوضى الظاهرة ليست إلا غطاء لحركة أعمق تحاول أن تعيد ترتيب الفوضى الكونية وفق إيقاع داخلي.
إن البياض الذي ينهض في المركز ليس مجرد عنصر بصري، بل هو مقام روحي، جسد من نور يتكثف ليصير علامة على إمكان التجلي، بينما الأزرق الداكن المحيط به يبدو كغلاف كوني، يعكس قلق الوجود وانفتاحه على احتمالات الغياب.
هذا التوتر بين العتمة والضياء يمنح اللوحة طابعا وجوديا، فهي تكتب بلغة اللون أسئلة الإنسان أمام اللامتناهي: أين يبدأ الحضور وأين ينتهي الغياب؟ وكيف يمكن للعين أن تلتقط ما لا يقاس؟ وكيف يمكن للجسد أن يذوب في محيط أبدي لا يحده سوى صرخات اللون وإيقاعات الفرشاة؟
ضمن هذا العمق، يتسلل الأخضر بدرجاته كأثر أرضي، يذكر بأن هذا التجلّي الروحي لا ينفصل عن الطبيعة، بل ينبع منها ويعود إليها، كأن اللوحة تعيد كتابة دورة العناصر: من زرقة السماء إلى خضرة الأرض، من بياض النور إلى سواد العتمة.
تجربة الفنانة جينيفيف جيفارا هنا تُحيلنا إلى مقاربات بصرية وفكرية عديدة، فهي تقترب من عوالم كاندينسكي في بحثه عن الروح في اللون، كما تلامس البعد الروحي في أعمال مارك روثكو حين يختزل اللوحة إلى مساحات مشحونة بالوجد، لكنها في الوقت ذاته تحمل فرادة تنبع من حساسية شخصية تجعل اللون أقرب إلى نص شعري مفتوح. إنها لوحة تنتمي إلى سلالة الأعمال التي لا تُقرأ بعين المتلقي فقط، بل تستدعي قلبه وروحه كي يشارك في ارتحالها نحو اللامرئي.
ما يميز هذا العمل في خلاصة الرؤية أنه لا يقدم صورة بصرية ثابتة، بل تجربة روحية مفتوحة على الاحتمال، حيث يتحول اللون إلى لغة للغياب والحضور، والضوء إلى كيان يتجلى وسط كثافة العتمة. إن قوة اللوحة تكمن في طاقتها التأويلية، فهي لا تنغلق على معنى واحد بل تنبض بكثافة رمزية تسمح للعين والروح أن تعيش ارتحالًا متجددا في كل مشاهدة.
بهذا تصير لوحة جيفارا مساحة يتقاطع فيها البصري مع الروحي، الجمالي مع الوجودي، وتغدو فعلا فنيا يؤكد أن الفن الحق لا يصف العالم بل يوسع حدوده.
تتنامى اللوحة في انسياب شعري متدفق، كما لو أن اللون نفسه يتحول إلى قصيدة تُكتب على قماشة الروح، وليس من الغريب أن يتبدّى هذا النفس الشعري العميق، فالفنانة جينيفيف جيفارا شاعرة قبل أن تكون رسامة، تحمل في رصيدها قصائد تنبض بعذوبة داخلية ورؤى مترفة بالخيال.
إن انخراطها في فضاءات المعارض ومواكبتها للمنتديات الأوروبية والعربية لم يكن مجرد حضور عابر، بل كان رافدا زاد من عمق تجربتها، ووسع مداركها البصرية، وأسهم في صقل حساسيتها، حتى غدت ضرباتها اللونية أشبه بارتعاشات صوت داخلي، يُحوّل اللوحة إلى فضاء تتجاور فيه التجربة الشعرية مع التجربة التشكيلية، في تلاحم لا يُفرق بين الكلمة واللون، بين الإيقاع البصري والموسيقى الخفية التي تسكن النصوص.
حكمة التشكيل الناضج
لوحة جيفارا فضاء تتجاور فيه التجربة الشعرية مع التجربة التشكيلية في تلاحم لا يُفرق بين الكلمة واللون
عند مقاربة هذا العمل بما تقدمه جينيفيف جيفارا في أعمالها السابقة التي اعتادت نشرها وعرضها على صفحتها الشخصية، يتبدّى بوضوح أننا أمام نقلة في الكثافة التعبيرية وعمق التكوين. ففي أعمالها الأولى كثيرا ما كانت تميل إلى البوح المباشر باللون، حيث الأزرق والأخضر يتوزعان على السطح بجرأة لا تخلو من عفوية، وكان الخط البصري أقرب إلى البحث عن إيقاع داخلي غير مكتمل، كأنها في حالة تمرين روحي على القبض على المعنى.
أما هنا فنجدها قد تجاوزت مرحلة البوح الأولي لتبلغ درجة من النضج اللوني، حيث يتكثف اللون في طبقات تتناوب بين الانفتاح والانغلاق، ويغدو البياض عنصرا جوهريا لا مجرد مساحة مضيئة، بل كيانا محوريا يوجه حركة العين ويعيد ترتيب العلاقات بين الضوء والعتمة.
هذا العمل يختلف أيضا من حيث البنية الإيقاعية: ففي لوحاتها السابقة كان الانفعال يتقدم على البناء، بينما الآن يظهر وعي تركيبي أكثر صرامة، يجعل من ضربات الفرشاة مسارا هادفا لا مجرد أثر عابر. ومع ذلك فهي تحافظ على توقيعها الخاص، على ذلك الانفلات الحسي الذي يمنح اللوحة طابعها الشعري، لكنها تضيف إليه هنا أبعادا صوفية تجعل التجربة أكثر عمقا واتساعا.
يمكن القول إننا في هذا العمل أمام ثمرة تراكم خبرة وتطويع للعين وهي تتجول وتشارك في المعارض والمنتديات الفنية، والتي شكلت معرفتي بها حيث لم تعد جينيفيف جيفارا التي تكتفي بالتعبير عن الذات، بل صارت تسعى إلى ملامسة اللامرئي، إلى جعل اللون يفتح أبوابا تتجاوز العين نحو الداخل. بهذا المعنى، تتجلى اللوحة كمرحلة أرقى في مسيرتها، مرحلة تُظهر انتقالها من شاعرية البوح الأول إلى حكمة التشكيل الناضج.
717 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع