بقلم : سالم ايليا
قال الأمريكي الدّاعِيَةُ لحقوق الإنسان الراحل مارتن لوثر كينج "لا يستطيع أحدٌ ركوب ظهرك إلا إذا كنتَ منحنياً".
كثُرَ الحديث بعد التغيير الذي حصل في سنة 2003م عن المقارنة بين نظام ذهب لكنه أبقى لنا كلّ سلبياته وأخذ معه البعض القليل من حسناته التي يضعها البعض في إطار المقارنة ما بين السيء الذي كان والأسوأ الذي نعيشه الآن ، وبهذه المقارنة الغير عادلة نكون قد ظلمنا ولا زلنا نظلم الوطن والمواطن على حدٍ سواءٍ ونشجّع السيء للإستمرار في ممارسة سلوكياته أو تشجيع الآخرين على الحذو حذوه.
ولغرضِ توضيح الحقائق كما هي بعيداً عن التحزبات والإنتماءات السياسية والطائفية الدينية أوالقومية علينا أولاً الإشارة الى من كان المسؤول المباشر عن ما وصل اليه العراق من مآسي ؟ ، كذلك علينا الفصل بين فترتين مختلفتين لنظامٍ كان يقوده حزب قومي أيديولوجي يؤمن معظم أعضائه بأهداف ضحى البعض منهم بحياته من أجلها .
فالفترة التي إنحصرت ما بين مجيء هذا الحزب الى السلطة بإنقلاب عسكري سنة 1968 ولغاية سنة 1979م تختلف كثيراً عن الفترة التي تبعتها ولغاية سقوط بغداد بدخول المحتل وإزاحة الرئيس الأسبق صدّام حسين عن الحُكم ومن ثمّ محاكمته هو وأعضاء حكومته محاكمة سياسية وليست جنائية لم يتحقق فيها مبدأ العدالة المجرّدة من الثأر والحقد وترسابته بنوعية العقوبة وطريقة تنفيذها ويوم التنفيذ ، فنوعية الجناية التي أدانته لم تكن (مُحْكَمة وكافية) للحكم عليه وعلى بقية المتهمين بالموت !!! ، وحيثُ أن التعرض المسلّح لرئيس أية دولة شرق أوسطية ومحاولة إغتياله بالتأكيد سيكون مصير الجناة فيه الإعدام ، وهذا ما حدث سنة 1982م فيما أطلق عليه بـ "حادثة الدجيل" ولو أنّ العقوبة الجماعية قد طالت الكثير من أهل الدجيل الأبرياء وممتلكاتهم إلا أنها كانت متوقعة في ظل النظام الشمولي ، وحيثُ تعرض فيها الرئيس الأسبق صدام حسين الى محاولة إغتيال خلال مرور موكبه في الشارع العام المحاذي لمنطقة الدجيل وكانوا المنفذين محسوبين على حزبٍ وطائفةٍ معينةٍ .
ولقد بيّن من إستلم الحكم من بعده سذاجتهم بالسياسة أو خبثهم وتعمدهم على إثارة الفتنة والتفرقة وترسيخ الطائفية بين أبناء الشعب بتلك المحاكمة المثيرة للجدل ـ ـ الم يكن الأجدر ببول برايمر الحاكم المدني حينذاك ومن جاء معه أن يبقوا على بعض القوانين التي أدان فيها الرئيس الأسبق صدام حسين الآلاف من أبناء الشعب وحكم عليهم بالموت ومنها الهروب من أرض المعركة ـ ـ أقول : الم يكن الأجدر أن يُحاكم الرئيس الأسبق بموقعه كقائداً عاماً للقوات المسلحة وأعوانه بنفس القانون الذي شرّعه في فتره حكمه ونفذ على أساسه حكم الإعدام بالمئات من الجنود والقادة العسكريين !! ، وحيثُ هرب هو ومن معه من أرض المعركة بعد دخول المحتل الى بغداد تاركين الجيش والبلد تحت رحمة من لا رحم لهم لتدميره !! ، وعندها سوف لم ينبس ببنت شفة حتى من تبقى من أعوانه للدفاع عنه أو التشكيك بعدالة الحكم عليه بالموت لأن القانون الذي وضعه هو واضح والجُرم أوضح !! ، وعليه كان يجب محاكمته بنفس قانونه وتجريمه بنفس الجرم الذي أدان فيه الكثيرين وعندها سيكون من أتى من بعده من المعارضين لنظامه قد حققوا غايتهم في الإنتقام منه والصاق تهمة التخاذل به مدى الدهر وعلى مدار التاريخ !! .
وكاتب هذه المقالة لم يكن من المتضررين الغير تقليديين من النظام السابق ، وأقصد بالضرر الغير تقليدي من وقع عليهم الأذى من سجن وتعذيب أو أبعد من ذلك ، لكن الضرر التقليدي كان قد شمل كلّ العراقيين بإستثناء النخبة المقربة من النظام وذلك نتيجة السياسات الخاطئة له والمتمثلة بقرارات رئيسه في الدخول في حروب لا "ناقة لنا فيها ولا جمل" وما نتج عنها من مآسي وويلات ، وحيثُ كنتُ أحد المواطنين الذين يقفون مع ما تحقق من تقدم وإزدهار لغاية سنة 1979م ومن خلال مناقشاتي (المنفتحة) مع من كان ينتمي الى الأحزاب الأيديولوجية الأخرى والتي أخذت جانب المعارضة للحزب الحاكم حينذاك ، وحيثُ كنتُ أقول لهم إذا كنتم بحق تريدون الخير للبلد فدعوا الحكومة تكمل ما بدأت به من تطور وإزدهار ، وإذا كنتم تدعون بأنكم وطنيون قبل أن تكونوا حزبيون فدعوا الطرف الآخر ينفذ برنامجه التنموي وإن إختلفتم معه أيديولوجياً ، فالوطني لا ينظر للأمور من منظار من يَحكم من الأحزاب لكن من يحقق الإزدهار والتطور للبلد .
وقد نجح الى حدٍ ما البعض المستفيد من المرحلة التي سبقت الإحتلال في تبرير وتجميل صورة النظام السابق مستغلين الفرقة الطائفية وما وصل اليه سوء الحال بإضعاف مضاعفة عمّا كان عليه سابقاً ، وللأسف يحاول البعض من طائفة معينة جاهلاً تسويق البضاعة الفاسدة لمن يعتقدون أنه ينتمي اليهم ، وحيثُ يتبنى البعض من تلك الطائفة لسياسي أو رئيس لم يَثبت جدارته في قيادة الدولة ليصل بالشعب والوطن الى بر الأمان ، ويلتزم هذا البعض بالدفاع عن أخطائه وتبريرها بطريقة المقارنة الساذجة والغير منطقية بين سوءه الذي كان بالأسوأ الذي نعيشه الآن متجاهلين مِن أنّ مَن اتى بالأسوأ في الحكم الحالي هو السيء ذاته ، وأننا نحصد الآن الحصاد المر الذي زرعه ذلك السيء ، ومتجاهلين أيضاً من أن الدفاع عن السيء وتبرير أخطائه يشوّه تاريخ طائفتهم الناصع بقبولهم وتسويقهم لرئيس لم يفعل شيء لطائفته ولوطنه لا بل أوصلهما الى أسوأ حال ، وبهذا يلحقون الضرر الفادح بسمعة وتاريخ طائفتهم من حيثُ لا يعلمون ومن أجل شخص لم يراعي كل مقومات المسؤولية الوطنية في تجنيب العراق الكثير من المآسي التي كان هو سببها ولم يراعي سمعة طائفته وتاريخها السياسي الكبير، ولو كان لابد من التغني أو المفاخرة برمز معين لتلك الطائفة فمن الأجدر إختيار رؤساء أو قادة سياسيون خدموا العراق بالفعل وهم ينتمون الى نفس الطائفة وربما الى نفس الرقعة الجغرافية لصدام حسين ، وللأسف لقد وقع البعض من المنتمين الى تلك الطائفة وجلّهم من الأكاديميين في شرك النفس الطائفي فبدءوا بتسويق المبررات للرئيس الأسبق وكذلك التعاطف مع المجاميع المسلحة المتطرفة المنظوية تحت أسماء ويافطات عديدة والتي أثبتت الجرائم التي يقومون بها وحشيتها وتقاطعها مع المبادئ والقيم الإنسانية وبهذا ظلموا طائفتهم وأضروا بها إنسانياً وعالمياً حتى بات الأجنبي الساكن في أبعد بقعة على الأرض يعلم من أنّ هؤلاء الشرذمة المجرمة تلقي الدعم من البعض وليس الكل من ذلك الطيف وهذا ما أسعد الطائفيون من الطيف الآخر إذ سوّقوا تهمة الإرهاب والصقوها بالطائفة الأولى محاولين تشويه تاريخها الكبير.
ودعونا أولاً ننصف فترتين مختلفتين لنظامٍ كان يقوده حزب واحد منذ سنة 1968م ولغاية سنة 2003م وحيثُ إنتهت الفترة الأولى في تموز سنة 1979م بتنازل الرئيس الأسبق أحمد حسن البكر (قسرياً) عن الحكم والذي لم يؤشر عليه أي مؤشر في التصرف بالمال العام بعيداً عن القوانين النافذة وحيثُ كان يستلم راتبه الشهري المقرر والبالغ سبعمئة دينار عراقي إضافة الى مخصصات رئيس الجمهورية المقررة قانونا .
إنتهت فترة الرئيس الراحل أحمد حسن البكر في السابع عشر من تموز سنة 1979م وتبوّء نائبه صدام حسين الحكم من بعده .
ففي الفترة الأولى التي بدأها الإنقلابيون الحزبيون سنة 1968م سوّقوا للشعب صورة تختلف برؤيتها عن القناعة التي كانت راسخة في ذهنه عنهم والمتمثلة بإنقلاب 8 شباط 1963م وتداعياته ، والذي جاء أيضاً نتيجة تداعيات إنقلاب العسكر على الحكم الملكي سنة 1958م وصراعهم على السلطة وحركة الشوّاف وتداعياتها وما نتج عنها من مآسي لا تزال قائمة بين أبناء الشعب الواحد والأخطاء التي وقعت فيها جميع الأحزاب الأيديولوجية المتصارعة والمنقسمة بين قطبي قيادة الإنقلاب العسكري (عبدالكريم قاسم وعبدالسلام محمد عارف) .
فقد أعلن الإنقلابيون سنة 1968م بعد الإطاحة بالرئيس الراحل عبدالرحمن عارف (التي كانت فترة حكمه تتسّم بالهدوء السياسي النسبي) البدأ بفتح صفحة جديدة بين الأحزاب وأبناء الشعب ، فأعادوا المفصولين السياسيين الى وظائفهم وبدأوا بالإتصال بقادة الحركة الكردية للتفاوض معهم ، كذلك فتحوا القنوات السياسية مع الأحزاب الأيديولوجية الأخرى لبلورة صيغة الجبهة الوطنية والمشاركة الرمزية في الحكم .
وقد تمخضت كل تلك التحركات والمبادرات عن بيان الحادي عشر من آذار/1970م في منح الحكم الذاتي للكرد في مناطقهم الجغرافية وتوقيع ميثاق الجبهة الوطنية في السابع عشر من تموز/1973م بين الحزبين الأيديولوجيين الرئيسيين (حزب البعث والحزب الشيوعي) والبعض الآخر من التنظيمات القومية الأخرى ، وأستبشر الشعب خيراً بكل تلك المبادرات التي رسخت الإستقرار السياسي المرحلي (الشكلي) وحيثُ كان الشعب بحاجة ماسة اليه ليلتقط أنفاسه بعد سلسلة الإنقلابات الدموية والصراعات السياسية للأحزاب الأيديولوجية والقادة العسكر في الصراع على السلطة بعد سقوط النظام الملكي .
وقد أدى تأميم شركة نفط العراق في الأول من حزيران/1972م الى تقارب وجهات النظر بين الأحزاب الأيديولوجية المعادية في أدبياتها للإستعمار والدول الرأسمالية (الغربية) وإتحادها في خندقٍ واحد تلقائياً ، لكنها بقيت متوجسة فيما بينها وضد بعضها البعض لفقدانها الثقة الحقيقية للعمل المشترك من أجل مصلحة العراق .
سارت سفينة المبادرات والإتفاقيات الحزبية الإيجابية الآنفة الذكر بين الأحزاب المتحالفة في بحرٍ لم يخلو من الأمواج الهادرة والعواصف البحرية المدمرة تارة وبين هدوءٍ يشوبه التوتر والقلق تارةٍ أخرى ، لكن وجود عناصر حقيقية الإنتماء وذو نزعة وطنية في تلك الأحزاب ساعد على نزع فتيل المواجهة والعودة الى الصراع الدموي بينها حتى تبوّء صدام حسين الموقع الأول سنة 1979م فالغى الجبهة الوطنية عملياً بملاحقته لأعضاء الأحزاب الأخرى وتنفيذ أحكام الإعدام ضدهم وأرسل تهديده الشهير لهم عبر التلفاز بإرغامهم للعودة الى السراديبب في نضالهم السلبي !! .
كذلك ساعد إرتفاع أسعار البترول في أواسط السبعينات من القرن المنصرم وبرامج الخطط التنموية الصحيحة المتمثلة بالخطط الخمسية ووجود كادر أكاديمي وزاري مهني تكنوقراطي الى حصول قفزات مهمة في معيشة الشعب العراقي وزيادة دخله السنوي وتطور البلد نسبياً ، مما أربك السوق المحلي الذي نجحت فيه الحكومة حينذاك والى حدٍ ما للحد من إرتفاع أسعار السلع الأساسية في دعمها لها في محاولة لإستقرار أسعارها.
أما في المجال الصحي فقد تضاعف بناء المستشفيات والمراكز الصحية حتى وصلت الى القرى والنواحي البعيدة وأزداد الكادر الطبي من أطباء ومهنيين وتوفرت الأدوية بجميع أنواعها في المستشفيات والصيدليات الخاصة .
من ناحية أخرى نجحت الحكومة في توفير الرعاية الصحيّة شبه المجانية والتي توّجتها بإعلان منظمة الصحة العالمية في نهاية السبعينات من القرن المنصرم بخلو العراق من الأمراض المستوطنة (الكوليرا والجدري ـ ـ الخ) وتبعها أعلان اليونسكو خلو العراق من الأمية بعد الحملة الوطنية الشاملة لمحو الأمية وحيث أعتُبرَ العراق أحد النماذج المهمة في هذا المجال .
ولقد أعتبر المعنيون والباحثون المحليون والدوليون فترة السبعينات من القرن المنصرم هي الفترة الذهبية للعراق من حيث المستوى التعليمي وعدد خريجي الكليات والمعاهد وتنوع الجامعات والكليات التخصصية وإعتراف أغلب الجامعات العالمية العُليا بالشهادات العلمية العراقية ومعادلتها بشهادات جامعاتها ، إضافة الى تطوّر النشاطات والفعاليات اللاصفية (الفرق الكشفية والسفرات المدرسية وغيرها) .
لكن المستوى التعليمي بدأ بالتدهور في منتصف الثمانينات حتى وصل الى أسوأ مراحله مع بداية السنة الدراسية (1990 – 1991م) مما حدا بمجلس الوزراء على عقد إجتماعات متواصلة تحت عنوان "مناقشة ورقة عمل إنخفاض المستوى التعليمي" كان يحضر بعض جلساتها صدّام حسين شخصياً حتى وصلت ذروة النقاشات (التي كان التلفزيون العراقي ينقل فقرات منها) الى إصرار وزير التعليم العالي والبحث العلمي حينذاك الأستاذ الدكتور منذر إبراهيم الشاوي على الأخذ بمقترحه الداعي الى دمج وزارتي التربية والتعليم العالي لكي يكون الوزير مسؤول مسؤولية مباشرة على التعليم من مرحلته الأولى الى مرحلته الأخيرة متهماً وزارة التربية بضخ الطلاّب الى الجامعات بمستوى علمي متدني ، وأتذكر جيداً جملته التي قالها لصدّام حسين في آخر جلسة وحيثُ كان ينظر اليه صدام بنظرات عدم الإرتياح من إسلوبه ، فقد قال وزير التعليم العالي ما نصّهُ : "سيدي الرئيس إحنا لازم ـ ـ لازم ندمج الوزارتين هسّة وقبل ما نطلع من هذا الإجتماع" ، لكن صدّام حسين كان غير مسرور لطريقة كلامه ولم يأخذ بمقترحه وأعفاه بعد مدّة من وزارة التعليم العالي والبحث العلمي .
أما في المجال الزراعي فقد كان الدعم الحكومي للمزارعين واضح قبل سنة 1979م والمتمثل بتوفير البذور والأسمدة والمواد الكيمياوية لمكافحة الآفات الزراعية وبأسعار رمزية وتشجيع الفلاح على إستخدام المكننة الزراعية وتطوير أنظمة الري ، ومُنِحَ الفلاحون سيارات الحمل (البيك آب) بأسعار رمزية لنقل محاصيلهم الزراعية .
كما شمل التطور في نفس تلك المرحلة (أي سبعينات القرن المنصرم) المجال الصناعي بتركيزه على إدخال المنتوج الوطني في السوق المحلّي ، لا بل أن المنتوج العراقي غَزا بعض بلدان العالم الثالث !! ، وتم بناء مصانع عديدة منها ما مَثّلَ صناعة حقيقية من المواد الخام (الأولية) وصولاً الى المُنتَج (وإن كان مُنتَج بسيط) ومنها ما أعتبر تجميع للأجزاء للوصول الى المُنتَج مما نتج عنه القضاء على البطالة لا بل أوجد الحاجة للعمالة الأجنبية ( العمالة المصرية والأسيوية كمثل) ، حتى أنّ بعض الأعمال التي كانت تحط من كرامة الإنسان العراقي كمهنة "صبّاغ الأحذية" أصبحت حصراً على الوافدين ، إذ منعت الحكومة العراقيين من مزاولتها في الفترة ما قبل تسلّم صدام حسين لرئاسة الجمهورية وحوّلتها للعمالة العربية الوافدة لتوفر الأعمال الأخرى للعراقيين ، غير أنّ هذه المهنة عادت وبقوة في منتصف الثمانينات بأيدي العراقيين لا بل أصبح العراقيون (خاصة الأطفال) يزاحمون الوافدين عليها بعد حرب 1991م !! .
كذلك سعت الحكومة للإسراع في بناء المرافق الخدمية وتبليط الشوارع وتغطية المناطق السكنية بشبكة الصرف الصحي ولو أنّ هذه الخدمات إقتصرت على العاصمة بغداد بشكل رئيسي إلا أنها كانت ستشمل بقية المحافظات في السنوات اللاحقة ، لكنها توقفت بسبب قرار الحرب على إيران وما تبعتها من حروب أخرى بعد تبؤء الرئيس الأسبق صدام حسين السلطة.
وقد إبتدأت جهود وزارة الثقافة والإعلام في فترة السبعينات من القرن الماضي في بلورة الخطط لتنشيط الواقع الإعلامي والسياحي وتوفير المطبوعات السياحية وإفتتاح المراكز الثقافية مع دول العالم .
أما في مجال البناء المُجتمعي فقد حاولت الحكومة حينها والمكونة أساساً من أعضاء ينتمون الى حزبٍ علماني كما يعترفون هم الى إعادة تكوين المجتمع على أساسٍ حضاري يستبعد العصبية القبلية لتحل محلها الهوية الوطنية ، فشرّعت الحكومة قانون الغاء الألقاب العشائرية وعدم ترويجها في المعاملات الرسمية ، كذلك أعطت فسحة متساوية تقريباً لحريات ممارسة الشعائر الدينية لجميع الأديان مع مراقبة عدم وصولها الى حالات التطرف الديني على الرغم من تعديلها للمادة (21/3 ) من قانون الاحوال المدنية رقم (65) لسنة 1972 والجدل القائم حولها في الغُبن الحاصل على القاصرين من غير الدين الإسلامي ، كذلك إعطت الحرّيات المحدودة نسبياً للعلاقات الإنسانية بين أفراد المجتمع ومواكبة التطور الحضاري في معاصرة الأزياء الحديثة وإفتتاح النوادي الإجتماعية والرياضية .
وفي مجال الدعم الحكومي لموظفي الدولة كانت هنالك جمعيات إستهلاكية تعاونية للمعلمين والمهندسين وجميع المهن الأخرى ومن ضمنها العسكريين وغيرهم يستطيع الموظف من خلالها الشراء بالآجل وتقسيط المبلغ على دفعات مريحة مع تحميله فوائد بسيطة ، كذلك كانت هنالك جمعيات لتوزيع الأراضي على موظفي الدولة حسب وزاراتهم أو نقاباتهم المهنية وبأسعار جيدة مدعومة تعطي للموظف الأمل لبناء دار سكنية له مع منحه قرض ميسّر من البنك العقاري .
وكل ذلك الإنتعاش في المجالات كافة وظّف الطاقات الشبابية الأكاديمية من مختلف الإختصاصات والأيدي العاملة المحلّية مما جعل الدولة تشرّع قانون التعيين المركزي لأحقيتها في توظيف الخريجين المشمولين بمجانية التعليم وحيثُ تمّ القضاء كلياً على البطالة ، حتى جاء صدّام حسين على رأس السلطة فأوعز بتسريح الآلاف من العمل تحت قانون "الفائضين عن العمل" الذي أضرّ فيه بشريحة واسعة من الموظفين وبدون أي تعويضات أو مستحقات قانونية وحيثُ تلاعب به المسؤولين عن تنفيذه بطرد النزهاء والنزيهات في الكثير من الأحيان والإبقاء على المتسلقين والمتملقين وخاصة بالنسبة للنساء !! ، وقد أشيع وقتها إتهام المرحوم طارق حمد العبدالله وزير الصناعة حينذاك على أنه المسؤول عن إقتراح هذا القانون على القيادة السياسية مما سرّع في إنتحاره في مكتبه (أعلن البيان الحكومي رسمياً إنتحار طارق حمد العبدالله في مكتبه بسبب إصابته بمرض الكآبة) !! ، كما أوقف بنك الرافدين سلفة العقاري للمدنيين سنة 1982م بحجة عدم وجود السيولة النقدية بسبب إستمرار الحرب مع إيران .
كذلك وهذا هو الأهم كان هنالك قيادة جماعية للبلد قبل مجيء صدام حسين على رأس السلطة والمتمثلة بما كان يطلق عليه مجلس قيادة الثورة وحيثُ كان هنالك تباين في الآراء بين أعضاءه على الرغم من أن الحُكم كان بأيدي حزب أيديولوجي واحد عملياً ، وأن الوزارات والدوائر كانت تترأسها بشكلٍ عام نخبة من الأكاديميين التكنوقراط في أغلب الأحيان وإن كانوا حزبيين .
وكانت القرارات تُتخد في فترة السبعينات من القرن المنصرم بالتصويت الحر في الجلسات والإجتماعات الوزارية الأسبوعية ، وكان لرئيس الجمهورية صلاحياته المحددة التي لا يستطيع تجاوزها والقفز عليها هو ووزراء حكومته ، ولي في هذا المجال قصة سمعتها على لسان أحد أبناء صاحب الشأن وهو كردي من مدينة السليمانية حيثُ نقلها لي حين التقيته في الجيش ومختصرها : أن والده كان مفوّض في شرطة السليمانية وكان لديه سيّارة قديمة يقضي بها حاجته وقد أحرقها الثوّار الكرد إنتقاماً لإنتماءه للشرطة وحينها نصحه البعض في تقديم عريضة الى وزير الداخلية حينذاك (كان وزير الداخلية عزّت الدوري) مطالباً بالتعويض كون حالته المادية صعبة ، بالفعل إستدعاه وزير الداخلية الى مكتبه في بغداد وشكره على وطنيته وأوعز الى منحه خمسمئة دينار عراقي كتعويض وحسب الحد الأقصى لصلاحياته القانونية كوزير ، وعندما قرأ الوزير في وجه المفوّض عدم رضاه لعدم كفاية المبلغ لتغطية ثمن السيارة المحروقة رفع سمّاعة الهاتف وإتصل بمدير مكتب رئيس الجمهورية أحمد حسن البكر والذي أوصله مباشرة برئيس الجمهورية الذي بدوره أثنى على المواطن الكردي ومنحه أيضاً الحد الأقصى لصلاحياته البالغة سبعمئة دينار والتي أيضاً لم ترضي المتضرر مما حدا بوزير الداخلية الإتصال بالنائب الأول صدام حسين الذي أوعز الى منح المتضرر مبلغ إضافي قدره الف دينار (أي تجاوز صلاحياته) وأمر بأن يستلم سيارة من الشركة العامة للسيارات بدون بدل (أي مجاناً) ومنح المتضرر إجازة خاصة لإستيراد سيارة أخرى من السعودية معفاة من الرسوم الضريبية ، علماً بأن السيارة التي إستوردها المتضرر كانت سيارة حمل أمريكية (GMC) ممنوع دخولها للعراق حسب قرارات المقاطعة للبضائع الأمريكية التي كانت نافذة لوقوف أمريكا مع إسرائيل في حرب الخامس من حزيران 1967م ، أي أن صدّام حسين كان قد تجاوز على كل القوانين النافذة حينذاك على الرغم مما قد يبدو للقارئ بأنه عمل عملاً صالحاً في إنصافه للمتضرر !! ، لكن العدالة والإنصاف لا يتحققان من خلال المبادرات الفردية وإنما من خلال سن القوانين لتشمل الجميع بشكلٍ متساوٍ .
وبإختصار كان هنالك بوادر نهضة شاملة وتطور حضاري وإجتماعي حتى نهاية السبعينات من القرن المنصرم إعترفت به حتى أحزاب المعارضة الى ذلك النظام فيما بعد بنشراتها وصحفها الحزبية حيثُ أننا نتذكر جيداً ما وصل اليه العراق من تقدم وإزدهار وبشهادة معارضي الحُكم (وقعت بين يدي صحيفة لأحد أحزاب المعارضة العراقية وانا في المهجر سنة 1999م وقرأت فيها تقريراً بيّنَ بان الدخل السنوي للفرد العراقي في سنة 1979م وقبل الحرب العراقية ـ الإيرانية كان من أعلى النسب في العالم) .
وهنالك خطأ كبير يردده البعض من أنّ فترة الرئيس الأسبق صدام حسين إمتازت بإفتتاح العديد من المشاريع الخدمية والصناعية ، لكن للحقيقة أن تلك المشاريع كان قد خُطِطَ لها ووضع لها حجر الأساس وبوشر ببنائها في فترة حكم الرئيس الراحل أحمد حسن البكر ووزرائه الذين أعدم البعض منهم صدام حسين وعزل المتبقي منهم وحيثُ لم يتسنى لهم رؤية ثمرة أتعابهم فأنقلب عليهم صدام حسين وسُجلت جهودهم بإسمه .
كلّ ما ذكرته أعلاه كان قد حدث لغاية تموز من سنة 1979م وقبل صعود صدام حسين للمركز الأول في الدولة والحزب وبفترة زمنية قصيرة جداً لا تتجاوز الخمس سنوات إذا ما إستثنينا منها الفترة المربكة الواقعة بين سنة السيطرة على الحكم في تموز 1968م ولغاية سنة 1975م وهي سنة فك حصار الشركات النفطية العالمية عن العراق نتيجة تأميم النفط .
كذلك من المفيد التطرق الى بعض الجزئيات المهمة في طريقة بناء الدولة العصرية قبل وصول صدام حسين على رأس السلطة في تموز/1979م والتي قد يعتبرها البعض ليست ذات أهمية لذكرها ، إلا أنني أعتبرها الجزء المهم من أسس بناء المجتمع العصري وإنسانه المعاصر : ففي الفترة التي سبقت سيطرة صدام حسين على السلطة بالكامل كانت هنالك قرارات إقترنت بالعمل الدؤوب لتنفيذها منها الحزام الأخضر لبغداد وحملة تشجير الطرق الخارجية بين المدن والتي زُرِعت على جانبيها الأشجار المقاومة للتصحر وكانت السيارات الحوضية لأمانة بغداد ومديرية بلديات المحافظات تتابع ديمومتها ونموها حسب حدودها الإدارية وقرار الزام مالكي الدور السكنية بزراعة نخلة وزيتونة في حدائقهم ونصب الهواتف العمومية في الشوارع والساحات العامة وتزويد الحدائق بأماكن الجلوس والمصاطب الخشبية وحملة مكافحة الكلاب والقطط السائبة والتي خلت منها شوارع العاصمة تقريباً منتصف سنة 1979م لكن أصوات نباحها عادت من جديد بعد أن أهمل القرار حتى بات الجندي الذي يغادر داره مع الفجر للإلتحاق بوحدته أثناء الحرب ـ الإيرانية أن يحسب الف حساب لوصوله سالماً لوحدته !! ، كذلك كانت الحكومة حريصة على توفير المناشئ المختلفة لمعروضاتها من الألبسة حتى بلغت ذروتها نهاية السبعينات من القرن المنصرم ، فكان (أورزدي باك) يبيع البدلات الرجالية الإيطالية الفاخرة والقمصان الإنكليزية (ماركة توتل) مع أربطتها الغالية الثمن حينها جنباً الى جنب مع الألبسة والبدلات الرخيصة الثمن من مناشئ الدول الإشتراكية (بلغاريا ، هنغاريا ـ ـ الخ) وجميعها كانت جميلة وذو نوعية جيدة ، أي كانت المعروضات تفي بحاجة اصحاب المدخولات العالية والواطئة ، وهنا لا بد لي من التوقف لسرد حادثة مهمة كنتُ أنا شاهد عيان عليها لبيان طريقة تفكير صدّام حسين : قبل أسابيع فقط من عزل الرئيس الأسبق أحمد حسن البكر ذهبتُ أنا وأخي الى "أورزدي پاك" فرع الرشيد للتسوق (أطلق عليه الأسواق المركزية) وقبل نزولنا من السيارة نبهني أخي بوجود السيد النائب في "أورزدي پاك" (كانت هنالك سبعة مارسيدسات سوداء تقف على الرصيف المحاذي مع البعض من أفراد الحماية وهو الوحيد من المسؤولين الذين كان لديهم هذا الموكب !!) ، تمعنتُ قليلاً قبل قرارنا بالدخول فوجدتُ بأن حركة الناس من والى داخل أورزدي طبيعية ، لذا قررنا الدخول ، وعند الباب الرئيسي تفاجئت بالمرافق الأقدم للسيد النائب يرفع يده آمراً الجميع بإفساح المجال وإذا بصدام حسين خلفه يؤشر للتحية على من كان واقفاً في الشارع العام ، المهم دخلنا السوق وأول قسم وقفنا عنده للتبضع هو قسم المشروبات الروحية والسيكاير كونه يقع الأول على جهة اليسار حال الدخول من الباب الرئيسي ، كان القسم يبيع السيكار الكوبي الذي يدخنه صدّام حسين من نوع "كوهيبا" بمبلغ خمسة دنانير للسيكارة الواحدة على ما أذكر (أكثر من خمسة عشر دولاراً أمريكياً) وهذا المبلغ لم يكن بسيطاً في ذلك الوقت وقد طلبتُ من البائعة شراءه غير إنها قالت لي وبعصبية واضحة وإرتباك أوضح "عيني بطلّنا بعد ما نبيعه" ، أزعجتني طريقة كلامها وأجبتها بنفس لهجتها فتدخلت زميلتها لتوضح لي الأمر قائلة : " أخويه السيد النائب گال شنو هذا الچروت اللي يدخنه صدام حسين دتبيعو بخمسة دنانير ـ ـ والله رخيص ـ ـ شيلوه وبعد لا تبيعوه" !! ، ثمّ أردفت قائلة : " إحنا إتصلنا برئيس القسم وبعد ما إچانه الجواب روح أخذ فرّة بالسوك وإرجع فد نص ساعة" ، وبالفعل بعد عودتي بساعة كان السيكار من هذا النوع قد تمّ رفعه من العرض ولم تشاهده عيني إلا بعد خروجي من العراق سنة 1994م !!! .
وسأورد في الجزء التالي البراهين على لسان المختصّين لمسؤولية الرئيس الأسبق صدام حسين عن ما وصل اليه العراق من مآسي :
يقول الباحث عباس النصراوي في أحد بحوثه (التنمية والنفط بين 1958-1968) ما يلي : "عند اندلاع الحرب مع إيران في 1980 تسارع الإنفاق التنموي في البداية لكن مع إخضاعه لأهداف الحرب. برغم ذلك تراجع الإنفاق على التنمية في1982 لدرجة كبيرة مع خسارة العراق لمقدار كبير من صادراته وعائداته النفطية. فاضطرت الحكومة إلى فرض قيود تقشفية على الاقتصاد بكامله. ومع هذا التحول في الأحداث لم يعد للإنفاق على التنمية أولوية لدى السلطة. وتأكد عدم اهتمام البعث بالتخطيط للتنمية بصورة إضافية عندما قرر النظام إلغاء مجلس التخطيط عام 1987 واستبداله بوحدة تدعى هيئة التخطيط تابعة لوزارة التخطيط" . إنتهى كلام الباحث عباس النصراوي
وحيثُ أنّ مجلس التخطيط كان بديلاً لمجلس الإعمار أبان الحكم الملكي والذي إستبدله الجمهوريون بمجلس التخطيط ، أي أن الرئيس الأسبق صدام حسين كان قد الغى خلال السنوات الثمانية الأولى لحكمه أهم مجلس للتخطيط والإعمار والتي كانت الخطط الخمسية تنفذ إعتماداً على خططه وبرامجه وحيثُ كان مقرراً أن يتحول العراق فيه للخطة الخمسية 1979-1984 من دولة من دول العالم الثالث الى مصاف الدول التي في طريقها الى التطور وذلك لوضع خطة لدخول العراق في مجال التعدين وصناعة القوالب ، لكن قرار الحرب مع إيران أوقف هذه الطفرة المهمة والتي جاءت فيما بعد متأخرة وكان الغرض منها صناعة الأسلحة .
إنتباهة : في هذا الجزء تكرر ذكر كلمة "الإنقلاب" عوضاً عمّا كان يُطلق عليه بـ "الثورة" ، وهذا هو الأصح لغوياً إستناداً الى معنى الإنقلاب والثورة حسب معجم المصطلحات السياسية ، وحيثُ أنّ جميع الحركات التي إبتدأت بتغيير النظام الملكي الدستوري في تموز/1958م لغاية سنة 2003م داخل لم تكن إلاّ إنقلابات عسكرية بإمتياز قام بها العسكر ، عدا التغيير الأخير الذي جاء بإنقلاب (إحتلال) عسكري خارجي قادته الولايات المتحدة الأمريكية ونصبّت فيه أعوانها .
إنتهى الجزء الأول ويليه الجزء الثاني/الأخير
1015 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع