إنها الموصل أيها المحرّرون

                                                    

                                بقلم : سالم ايليا

                

      

الموصل وكما هو معروف عنها هي ثاني أكبر مدن العراق بعد العاصمة بغداد، ومركز حضاري وتاريخي مهم موغل في أعماق التاريخ، والتي أنجبت على مدار سفرها الخالد أهم أعلام العراق في مختلف المجالات، وساهمت بشكل فعّال لا يختلف عليه خصمان في رفد العراق بخيرة أبنائه لخدمته، وسالت دماء أبنائها الكريمة على حدوده الأربعة للذود عنه، وسال عرق جبينهم على كل ذرة تراب إنتصبت فوقها صروح حضارته وبنيانه.

لقد كتبَ المؤرخون عن الموصل على مر العصور والأزمنة والأمكنة، وأسهبوا في ذكر محاسنها وجلال ونُبلِ سكانها، وزادوا من كتبوا عنها في وصفهم لها لعظمتها، وحيثُ توقّدت البابهم، وفَصُحَت السِنَتَهم، وانسابَت من يراعهم ينابيع الكلمات وحروف أبجديات لغاتها بنثرها، وللآلئ أشعارها لتروي ظمأ سطور صفحات التاريخ ببلاغة وصف المدينة التي تستحق ان تجلس على عرش مدنه التاريخية الخالدة، وليزهو عمقه الموغل في عروق أزمنته اللامتناهية بمآثرها وصنيعها للبشرية جمعاء.
يقول ياقوت الحموي (المتوفي ما بين سنة 622-626هـ) عن الموصل في كتابه ذو الأجزاء الثمانية "معجم البلدان" في المجلد الرابع لطبعته الأولى الجديدة المصححة والمنقحة من قبل الأستاذ محمد عبدالرحمن المرعشلي وفي الجزء الثامن/ صفحة (339) ما يلي(1): "وكثيراً ما وَجَدْتُ العلماء يذكرون في كتبهم أن الغريب إذا أقام في بلد الموصل سنة تبيَّن في بدنه فضل قُوة وإن أقام ببغداد سنة تبين في عقله زيادة وإن أقام بالأهواز سنة تبين في بدنه وعقله نقص وإن أقام بالتبتِ سنة دام سروره واتصل فرحه وما نعلم لذلك سبباً إلا صحة هواء الموصل وعذوبة مائها ورداءَة نسيم الأهواز وتكدر جوه وطيبة هواء بغداد ورقته ولطفه فأما التبت فقد خفي علينا سببه وليس للموصل عيب إلا قلة بساتينها وعدم جريان الماء في رساتيقها وشدة حرها في الصيف وعظم بردها في الشتاءِ فأما أبنيتهم فهي حسنة جيدة وثيقة بهية المنظر لأنها تُبنى بالنورة والرخام ودورهم كلها آزاج وسراديب مبنية ولا يكادون يستعملون الخشب في سقوفهم البتة وقلَّ ما عدم شيء من الخيرات في بلد من البلدان إلا ووجد فيها"، إنتهى الإقتباس.  
إنها موصل الحضارات الإنسانية، وموصل الثقافات بين الأمم، وموصل الخيرات بين الشعوب.
إنها موصل إسحاق الموصلّي وعندليب الموسيقى الشرقية والعربية زرياب، وموصل الملا عثمان الموصلّي وقارئ المقام إسماعيل الفحّام.
 إنها موصل الجوامع والكنائس والأديرة والصوامع والأضرحة ودور العبادة لأنبياء الله ورسله ـ ـ إنها موصل الأديان والمعتقدات الإنسانية التي لا تضاهيها بتنوعها أي مدينة أخرى في العالم ـ ـ إنها موصل القوميات بتنوعها الإثني المتجانسة والمتآخية منذ آلاف السنين، وموصل العلوم بفروعها وتخصصاتها.
وقد ذكر ابو الحَسَن المسعودي المتوفي سنة (346هـ)، في كتابه "مروج الذهب ومعادن الجوهر"/الجزء الأول/الصفحة (221)، وفي ذكر مُلوك الموصل ونينوى وَهُم الأشوريون وَلُمعٌ مِن أخبَارِهم وَسِيَرهم ما يلي(2): "وكان أهل نينوى ممّن سمينا نبيطاً وسريانيين، والجنس واحد، واللغة واحدة، وإنما بان النبط عنهم بأحرف يسيرة في لغتهم، والمقالة واحدة"، إنتهى الإقتباس .
أي أن المسيحيون الآشوريون والكلدان والسريان كانوا في نينوى والموصل منذ نشأتها، وليس كما يحاول البعض أن يروّج بغير ذلك، ولنا في هذا الموضوع عودة مفصلة.
  لقد وصفها غبطة البطريرك يوسف عمانوئيل توما في خطبته المشهورة باللغة الفرنسية سنة 1925م أمام لجنة عصبة الأمم لتقرير مصير الموصل: من أنها الرأس لجسد العراق، فإذا فصل الرأس فكيف سيحيا الجسد؟!!، هذا ما ذكره لي الأستاذ المهندس غانم كني في إحدى محادثاتنا الهاتفية، نقلاً عن جده رجل الدين الذي كان حاضراً الجلسة.
فإختصر البطريرك يوسف عمانوئيل توما العلاقة المصيرية بين العراق ككل والموصل كجزءٍ منه في ذلك الوصف.
هكذا يصف الموصلّيون بلدتهم، وهكذا يعبّرون عن حبهم وولائهم للعراق.

                          

لقد وصل الى أسماع الملك فيصل الأول هذا الوصف، وأعجب به، وبدأ بترديده في لقاءاته، فمنح الكرسي البطريركي المتمثل بالبطريرك المذكور شرف عضوية مجلس الأعيان تثميناً لوطنية رؤسائه.   
وللموصليين تواصل روحي ووجداني مع بلدتهم، وتفاخر نابع من عمق تاريخها وأصالة مكوناتها المجتمعية.
وحيثُ أنّ التاريخ يعيد نفسه، وحيثُ حانت ساعة الولاء المطلق للقيم ومبادئها، والروابط المجتمعية ووفائها، والإنتماءات الجغرافية وجذورها، والإنتماءات الوطنية ومستحقاتها، لأهل الموصل المهجّرين في الخارج، وأهلها الأسرى في الداخل، ولكل المعنيين بأمر تحريرها وتحرير سكانها.
لذا فقد وجبَ على الموصليين بأطيافهم إنشاد نشيد الولاء للموصل وللعراق وبحنجرة واحدة وإن إختلفت أوتارها الصوتية لتخرج مقطوعتها الموسيقية متنوعة الأنغام، متجانسة اللحن، ليعيدوا مآثر أبائهم وأجدادهم الذين أنشدوا من قبلهم نشيدهم الوطني الموصلّي ليعيدوا عرس محبتهم لبلدتهم وبلدهم العراق:
لستِ يا موصُل إلاّ ـ ـ ـ دارَ عزٍّ وكرامة
أنتِ فردوسُ العراق ـ ـ ـ حبَّذا فيكِ الإقامة
أنتِ منه خير جزءٍ ـ ـ ـ خابَ مَن رامَ إنقسامة
وعماد المجدِ أنتِ ـ ـ ـ فيهِ، بل أقوى دعامة
أنتِ روحٌ هو جسمٌ ـ ـ ـ أنتِ تاجُ هو هامة
أنتِ شمسٌ هو بدرٌ ـ ـ ـ منكِ قد لاقى تمامه
إنَّ مَنْ يدنو حِماكِ ـ ـ ـ فلقد أدنى حِمامة
كيف يدنوكِ وأنتِ ـ ـ ـ غابُ ابطال الشهامة
دونكِ شعبٌ غيورٌ ـ ـ ـ باذلٌ فيكِ إهتمامه
أقعدَ الكونَ قديماً ـ ـ ـ بالقنا تمَّ إقامة
كم أبى فيكِ حبّاً ـ ـ ـ قد نضى العِضبُ حسامة
يلتقي الموتَ ببِشرٍ ـ ـ ـ وسرورٍ وابتسامة
نحن شوسُ الحرب قُدُماً ـ ـ ـ ولنا فيها الزعامة
كيف نولي مَن أتاكِ ـ ـ ـ طامعاً غيرِ النداما
سوف نُصليها ضِراماً ـ ـ ـ حرُّها يصلي عظاما
ويسح الدمُ منهم ـ ـ ـ مثل ما سحت غمامة
بلدي الموصل دومي ـ ـ ـ في آمانٍ وسلامة
لن ينال الغيرُ منكِ ـ ـ ـ قطّ، مِن ظِفرٍ قلامة
هذا هو نشيد الموصل الوطني الذي صدحت به حناجر الموصليين بكل مللهم وأطيافهم حين خُيروا ما بين إنتمائهم العراقي أو تبعيتهم للأجنبي العثماني.
لقد إجتمعت في هذا النشيد أحاسيس الأصلاء، فخطّ كلماته شاعر الموصل الوفي لها ولإنتمائه الوطني العراقي إسماعيل أحمد فرج، ولحنه الموسيقار الموصلّي العراقي حنّا بطرس، بعد أن أُنْشِدَ النشيد ولأول مرة في مدرسة كنيسة الطاهرة في 5/1/1925م، هذا ما جاء في أحدى مراسلاته لي الأستاذ الموسيقار باسم حنّا بطرس مشكوراً أدام الباري عليه الصحة والعافية.
 وهذه الكنيسة بمدرستها قد تمّ تفجيرها من قبل عصابات داعش الإجرامية كما ذكرت الأنباء، وليس لنا علم أكيد بهذا الخبر.
وقد ذكر الشاعر الشعبي الموصلّي "يقين ايليا الأسود" بلدته الموصل متفاخراً في شعره الشعبي "جولة في سيارة" المنشور في جريدة "فتى العراق"/العدد (1942) بتاريخ 16/03/1956م منشداً:
نعمل جولة ببلدتنا هذي (الحدبا) ولايتنا   دنبني نواقصنا نعرف اسباب راحتنا
كذلك تغنى شاعر العراق والموصل وإبنها البار "معد الجبوري" في وصفها بقصيدته "أم الربيعين" وقال ما لم يقلهُ شاعراً ببلدته من قبل، حيثُ صدحت حنجرته قائلاً:
ولو ظَمِئتِ ، لصَيَّرتُ الفؤادَ يداً
على شِفاهِكِ ، كالعنقودِ تعصرُني
                *
دارَ الزَّمانُ، ومَنْ داسُوا على كبدي
ظنُّوا بأنَّ جراحي ، عنكِ تُبعِدُني
ثُمّ يختتم قصيدته بالأبيات التالية:
حَصَّنْتُ وجهَكِ باسمِ اللهِ مِنْ حَسَدٍ
ومِنْ أراجِيفِ أطمَاعٍ ، ومِنْ فِتَنِ
 
ما زلتِ، والشمسُ مِنْ كَفَّيكِ طالِعةٌ
حِصْنَ الفُراتَينِ، في الأَرزاءِ والمِحَنِ
 
ما زلتِ ثَغرَ بلادي ، ما زَكا زَهَرٌ
غَضٌّ، وما صدَحَتْ وِرْقٌ على فَنَنِ
وللإطلاع على النص الكامل لقصيدة الشاعر الكبير "معد الجبوري"، فهي منشورة على موقع "بيت الموصل" على الرابط أدناه:
 http://www.baytalmosul.com/157516041588157515931585-160515931583-1575160415801576160815851610/25
وقد ذكر الأستاذ الدكتور غازي إبراهيم رحّو في مقالته "نوري السعيد وما يقوله عن أهل الموصل" على الرابط أدناه:
http://www.ankawa.com/forum/index.php?topic=534337.msg5350612#msg5350612

                  

موضحاً من أن رئيس الوزراء في العهد الملكي الباشا نوري السعيد وخلال إحدى جلسات مجلسي النواب والأعيان لإختيار الوزراء، قد وصف "أهل الموصل" قائلاً:
بسلاء ....... امناء ....... على بعضهم رقباء
كرماء ....... بخلاء ....... على بعضهم رقباء
وقد عرض أ.د. غازي رحّو في مقالته تفسير الباشا لتلك الجملتين قائلاً: ".. ان الباشا قال ان اهل الموصل يشتهرون ببسالتهم المنقطعة النظير... فهم بسلاء في الحروب والقتال والتضحية والفداء من اجل الوطن وحبهم لارضهم يجعلهم متعلقون بها حتى الموت .. وشجاعتهم يعرفها القاصي والداني  ولهذا فهم بسلاء في العسكرية والانضباط العسكري وتنفيذ الاوامر .. ..كما انهم امناء على العهد والولاء فان منحوا الولاء يبقون عليه امناء مهما جرى لهم ومهما كانت الريح تسير بعكس اتجاههم  فهم امناء على العهد الى حد الموت في الحفاظ على الامانة والدفاع عنها ...وعلى بعضهم رقباء ..فهم يحملون في عقولهم ودمائهم الغيرة والخوف من الاخرين عند الخطأ ..فان اخطأ احدهم يعتريه الخوف من رقابة الاخرين له لانه يعتبر ذلك جرحا في القيم ومسيرة الانسان والعيب.. ولهذا فهم ينجزون الواجبات والاوامر بحذافيرها ولا يحيدون عن تنفيذ ما يوكل لهم  يدفعهم رقابة الاخرين لهم .. ولهذا فهم على بعضهم رقباء ....
وفي هذه العبارة الاولى كان يقصد بها الباشا انهم رجال بسلاء في الحفاظ على الامن والدفاع عن الوطن فهم افضل من يدير وزارة الدفاع لانهم سوف يبدعون في هذه الوزارة التي هم بسلاء وامناء فيها لهذا ... فوزارة الدفاع ستوكل لأحدهم ...
اما الجملة الثانية والتي يقول فيها الباشا  كرماء ... بخلاء .... على بعضهم رقباء .....  فقد قصد منها الباشا ان اهل الموصل معروفين بكرمهم لاهلهم واصدقائهم وضيوفهم وخاصة فهم مشهورين .. باكلاتهم الموصلية اللذيذة وشهرتهم في الطبخ المنزلي واعتماد العائلة الموصلية على ما تكتنزه صيفا من غذاء وحبوب  وتخزنه للشتاء فاهل الموصل يعتمدون على العائلة في تصنيع جميع ما تحتاجه وتقديمه للاهل والاقرباء والاصدقاء عند الحاجة وكرمهم في استقبال الضيف وتكريم الغريب والزائر لمدينتهم معروفة على مر التاريخ فهم اول من قام بتخزين حتى  اللحوم  والمواد الغذائية من الحبوب بكافة انواعها ويكرمون اهلهم واقربائهم وضيفهم مما خزنوه فهم كرماء" ـ ـ إنتهى قول الأستاذ الدكتور غازي رحّو.
ولنينوى وموصلها بتوابعها لعنتها ولعنة سكانها على من يؤذيها ويؤذيهم وستلاحقهم الى أحفاد أحفادهم.
بوركت جميع الجهود والسواعد الخيّرة لتحرير الموصل وتوابعها، وتحرير أهلها من براثن الإرهاب وتخلفه، وبوركت سواعد المقاومة الداخلية والويتها الشجاعة التي ما انفكت تقلق مضاجع الإرهابيين ومناصريهم.
واللعنة على كل من يحاول إستغلال الظرف لتدمير الموصل وإيذاء أهلها النجباء الأصلاء بدافع الحقد والبغضاء، وحيثُ أننا متأكدون من عدم وجوده بين العراقيين المعروفين بطيبتهم ونخوتهم، وأملنا أن يعود المهجّرون الى ديارهم وأن تحتضنهم الموصل بأطيافهم كما كانت، وأن يبعد عنها اولاد السوء وشرورهم، وأن يعود العراق بمدنه كافة واحة للسلام والأمان والإستقرار.
 
إنتباهة:
(1)- ياقوت الحموي: هو شهاب الدين أبو عبد الله ياقوت بن عبد الله الحموي (574 - 626هـ)، أديب ومؤلف موسوعات وخطّاط من أصل رومي اشتغل بالعلم وأكثر من دراسة الأدب، وقيل أن وفاته كانت 623 هجري في حلب حيث كان قد استقر في حلب، من أصحاب هذا الرأي، المؤرخ ابن كثير في كتابهِ "البداية والنهاية". وقال المؤرخ وليد الأعظمي في كتابهِ "أعيان الزمان وجيران النعمان": (كان أبو الدر ياقوت الرومي قد تحول من المدرسة النظامية وسكن في دار بدرب دينار الصغير، ووجد ميتاً في منزلهِ يوم الأربعاء 12 جمادى الأولى عام 622هـ/1225م، وكان قد توفي قبل ذلك بأيام، ولم يشعر بهِ أحد، ثم دفن في مقبرة الخيزران في بغداد، بجوار مشهد الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه). هذا ما جاء في جزء من تعريفه في ويكيبيديا.
(2)- أبي الحسن المسعودي (896 ـ957م/283 ـ 346 هـ): هو أبو الحسن علي بن الحسين بن علي المسعودي، وكنيته أبو الحسن، ولقبه قطب الدين، وهو من ذرية عبد الله بن مسعود، وقد ورد ذلك في كتابه "مروج الذهب، عالم فلك وجغرافيا. ولد ببغداد وتعلم بها، وكان كثير الأسفار وقد زار بلاد فارس والهند وسيلان وأصقاع بحر قزوين والسودان وجنوب شبه الجزيرة العربية وبلاد الشام والروم، وإنتهى به المطاف الى فسطاط مصر، وتوفي بالفسطاط.
 وهو من أشهر العلماء العرب ورائد نظرية الانحراف الوراثي، مؤرخ، جغرافي والمعروف بهيرودوتس العرب.
 هذا ما جاء في جزء من سيرة حياته في ويكيبيديا، والملاحظ وجود فارق في عمره بين التقويمين الميلادي والهجري، وأعتقد من أن هذا الفارق ناتج عن الإختلاف في طريقة حسابهما للأشهر الشمسية بالنسبة للتقويم الميلادي، والأشهرالقمرية بالنسبة للتقويم الهجري.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

732 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع