د. علي محمد فخرو
الأحداث الكبيرة والمآسي المفجعة التي تجتاح المجتمعات العربية منذ بضع سنين لا يمكن الا ان تؤدي الى ضعف التركيز والتشتت في ذهنية الانسان العربي. فهو يجد نفسه منشغلا بأهوال من مثل الممارسات غير العقلانية لما يسمى بالخلافة الاسلامية في العراق وسورية، او من مثل البربرية التي تتفنن في ممارستها شتى الجماعات التكفيرية الجهادية العنفية في كثير من بقاع الوطن العربي، او التحسر على خراب ودمار ابهى المدن العربية التي كانت عبر القرون رمزا للعمران والتحضر، او من مثل الحقارات التي تمارسها السلطة الصهيونية بحق الشعب العربي الفلسطيني والتدخلات الاستعمارية التي تستبيح استقلال وثروات الوطن العربي.
لكن كل تلك الأهوال والفواجع المتنامية ليست الا عوارض لأمراض خطرة متجذرة في الكيان العربي. ولذلك فالانشغال اليومي بتحليل تلك العوارض والاختلاف حول تفاصيلها والتعبير عن الغضب الشديد تجاه اسقامها لأمة العرب المنكوبة يؤدي، كما قلنا، الى التشتت في الذهن، اولا بسبب الانتقال اليومي من موضوع عارض الى موضوع عارض آخر، وثانيا بسبب الانشغال الشديد عن تسمية الأمراض المسببة للعوارض وعلاجاتها المطلوبة.
ما يحدث في ارض العرب في هذه المرحلة التاريخية الحرجة هي عوارض لواحد من ثلاثة امراض مستعصية.
فأولا، هناك مرض التمزق السياسي الاقليمي القومي العربي، متمثلا في سقم وقلة حيلة وتخبط الجامعة العربية وتهميشها شبه تام من قبل القوى الخارجية من جهة وأيضا من قبل الصراعات والمماحكات العبثية فيما بين انظمة الحكم العربية من جهة اخرى. تجري يوميا مداولات واجتماعات، وتتخذ قرارات مصيرية، بشأن الأوضاع في سورية وليبيا واليمن والعراق والارهاب الدولي وتعقيدات ظاهرة هجرة الملايين من العرب الى الخارج غير المرحب بها او المعادي لها، لكن الانسان العربي لا يسمع جملة واحدة مفيدة عن رأي الجامعة العربية او الدور الفاعل الذي تلعبه. ان تهميش الجامعة العربية اصبح كارثة ومرضا له اعراضه الكثيرة.
هذا الغياب الفضيحة للتضامن القومي العربي، بحدوده الدنيا، سواء على مستوى الجامعة العربية الرسمي، او على مستوى التنسيق والعمل المشترك فيما بين قوى المجتمع المدني العربي النضالية، هو المرض الذي سمح لقوى الخارج ولقوى الاقليم وللكيان الصهيوني في ان يحيلوا الأرض العربية الى خراب وبكائية حقيرة.
وثانيا، هناك الاصرار المرضي التاريخي عند سلطات الدولة العربية الوطنية، الا من رحم ربي، على ابتلاع مجتمعاتها ومنعها من ممارسة دور ديموقراطي ذاتي وتشاركي في مواجهة تلك الأهوال.
هذا بينما يسمح لأي قوى مجتمعية انتهازية او فاسدة او ثرثارة مظهرية لأن تتواجد في الساحات السياسية او التشريعية او الاعلامية طالما انها تتصرف كتابعة او منافقة او سلبية او متعايشة مع الجحيم الذي يحياه العرب.
وثالثا، هناك المرض المستفحل المزمن المتمثل في التخلف الثقافي العربي الذي له تأثيراته البالغة على ما يجري حاليا في الأرض العربية. وبالطبع هذا موضوع مترامي الأطراف، وما يهمنا هو الاشارة الى الجزء المتعلق بجحيم الجهاد التكفيري المتوحش الذي تعيشه الأمة حاليا.
ذلك ان المنطلقات الفكرية لظاهرة الجهاد تلك، والقدرة الهائلة التي تملكها لاقناع وتجييش الألوف من الشباب الجهاديين الانتحاريين، تعتمد على ثقافة فقهية امتلأت عبر القرون بأفكار وأقوال بالغة التزمت والتخلف، الأمر الذي يجعلها غير صالحة لهذا العصر، وبالتالي بحاجة الى تنقيح واعادة نظر.
فاذا اضيف الى ذلك ما لحق بحقل الحديث من دس واضافات لأسباب سياسية او لايجاد تبريرات لتصرفات هذا الحاكم او ذاك او لترجيح كفة هذا المذهب او ذاك، فأننا امام مهمة ثقافية كبيرة لمراجعة علوم الأحاديث النبوية من جهة وعلوم الفقه من جهة اخرى، وتنقيحها من الغث الذي يجعلها قابلة للاستعمال السيئ والانتهازي واللاعقلاني من قبل شتى فرق الجهاد التكفيري.
المطلوب من تلك المراجعة هو العودة الى القرآن بعد ان غيب وأبعد، لأسباب كثيرة، عن مسرح الحياة الدينية عبر القرون. عودة القرآن، كميزان ومرجعية وحكم، ستظهر كما هائلا من التلفيق والأخطاء التي لحقت بالتراث العربي الاسلامي.
المطلوب ايضا هو ارجاع الوهج لاستعمال العقل والمناهج العقلانية الى ساحة الثقافة الاسلامية بعد ان نجح المتزمتون والمتخلفون عبر القرون في ابعادهما عن مسرح الفهم الديني.
والمطلوب اخيرا هو ايجاد فصل تام وواضح بين ممارسة الطائفية المتزمتة المنغلقة وبين سماحة التعددية في الاجتهاد وفي قراءة مقاصد الدين الكبرى.
كمثال على ما نعنيه من اهمية للمراجعة ما وضع على لسان النبي الكريم الانساني المتسامح: «يجيء يوم القيامة ناس من المسلمين بذنوب امثال الجبال، يغفرها الله لهم ويضعها على اليهود والنصارى». امام مثل هكذا حديث منسوب الى رسول الاسلام، والذي يتناقض كليا مع الوحي الالهي العادل الرافض لأن تزر وازرة وزر اخرى، هل نستغرب ان نرى ونسمع ما تفعله داعش وأخواتها بحق الأبرياء من المسيحيين في العراق وسورية؟
مراجعة الجزء الديني من الثقافة العربية، سيكون مدخلا كبيرا ومفصليا لمراجعة الثقافة العربية برمتها وتصحيح ما علق بها من تشويهات عبر الحقب التاريخية الطويلة.
باختصار، فان ما يشاهده الانسان العربي يوميا من احداث مفجعة جسام لا يخرج عن ان يكون عارضا من عوارض الأمراض الثلاثة التي تفتك بالجسم العربي في مرحلتنا التاريخية الحاضرة. الخروج من اي امراض هو بمعالجتها وازالة اسبابها، وليس بمعالجة اعراضها.
386 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع